"اجلسْ عند ضفة النهر، وانتظرْ"
من هنا يمكن للكتابة أنْ تبدأ ويمكن للدراما أنْ تبدأ كذلك!
يسردُ الروائي والناقد الإيطالي (إمبرتو إيكو) في كُتيّبٍ له بعنوان "حاشية على اسم الوردة" تجربتَهُ في كتابةِ روايتِهِ الأولى "اسم الوردة" ويتناولُ آلياتِ كتابةِ الروايةِ من زوايا متعددة. وفي فصلٍ بعنوان "الرواية " يتحدثُ عن تأليف الحكاياتِ وكتابتِها، وكيف يمكنُ للسياقِ أنْ يسمح بالشروع في كتابة قصصية، وفي ظني يمكن الاستناد عليه أيضًا فيما يخصُّ الشروع في بناء لحظة درامية استكشافية. ولعلَّ في هذا النص ما يسمح لنا كمعلمات ومعلمين أنْ ننظرَ في أهمية السياق إذا ما أردنا لتلاميذنا أن يُنَمّوا مخيلتَهم ويطوروا قدراتهم على التعبير اللغوي والبصري والحركي، يقول (إيكو):
"أعتقدُ بأنَّه كي يتسنّى للمرء أنْ يحكي حكاية ما، لا بد له من أن يُنشِئ في البدء، وقبل أيّ شيء - عالمًا من العوالم التي ينبغي أن تزخر بغنى كبير، حتى في تفاصيلها شديدة الصغر. فإذا ما تخيلتُ نهرًا بضفتين مثلاً، وأجلستُ على الضفة اليسرى صياداً، وأضفيتُ على هذا الأخير بعض الصفات التي تميز مزاجَهُ النفسيَّ سريعَ الغضبِ، دون أنْ أَغْفَلَ عن ذكرِ أنَّ سجلَّه العدليَّ غيرُ خالٍ من بعضِ السوابقِ العدلية؛ فسيكون بمقدوري حينها، أنْ أشرعَ في الكتابة، معبراً بالألفاظِ عمَّا قد يحدثُ بالضرورة. فماذا يفعلُ الصيادُ عادة؟ إنه يلقي بالصنارة في النهر ليصطاد. ها نحن ذا، أمام متواليةٍ سردية كاملة، ترصد تلك الأفعال، تقريبًا، التي لا مفر من حدوثها.
ثم ماذا يقعُ بعد ذلك؟ إما أنَّ السَمكَ سَيَعْلَقُ في الشَّصِّ، أو أنَّه لن يَعْلَقَ. فإنْ حدثَ وعلِقَ السمكُ في شَصِّ الصنارة، فإنَّ الصيادَ سيتولى أمرَهُ، وسيقْفِلُ راجعًا إلى البيت، وهو في غاية السرور والانشراح، ثم تنتهي الحكاية، أما إذا لم يَعْلَقِ السمكُ، وبما أنَّ صاحبَنا سريعُ الغضب، فإنِّ غيظَه ربما سيحتد، ومن المحتمل أنْ يكسرَ قصبةَ الصيد. بالطبع، هذا ليس بالشيء الكثير، إلا أنَّه مع ذلك بمثابة رسمٍ تخطيطي أولي، (ضروري للشروع في إنشاء حكاية من الحكايات)."
كل كلمة في هذا الاقتباس تضيء تمامًا فكرة إنتاج نص قصصي؛ وأولى الإشارات إلى ذلك تتمثلُ في أنَّ أيةَ كتابة قصصية تتطلب مجموعةً من العناصر لانبنائها، وأبرزُها:
1- بناءُ عالم القص.
2- أنْ يتسمَ هذا العالم (في بداية تشكله) بالكثافة.
3- تأسيسٌ مكانيٌ (نهر بضفتين) وزماني (وقت الصيد)
4- شخصيةٌ (الصياد) ذاتُ تاريخ
5- حدثٌ (فعل الاصطياد)
6- توترٌ (قد يصطاد وقد لا يصطاد)
7- نمو الحدث (فما الذي سيحدث فيما لو اصطاد، وما الذي سيحدث إذا لم يتمكن من ذلك؟)
وكما يشير إيكو، فإنَّ هذه الحُبْكةَ الأوليةَ البسيطةَ كافيةٌ من أجلِ بناءٍ قصصي سيفضي إلى إنتاج قصة، يمكنُ أنْ تكونَ منطلقًا لعملٍ أكبرَ أكثرَ من "مادةٍ خام" ربما وأقلَّ من "عملٍ فني"، وهناك في تلك المنطقة الإشكالية على مستوى الشكل "كفن" وعلى مستوى الموضوع "كحالة صراع" أو تلك المنطقة "ما بين الجنة والنار" يحدثُ الفعل، فلا فعل قصصي ذو طبيعة درامية سيحدث دون حدوث ذلك التنازع الذي يغذي العلاقات الإنسانية بقيمها وأفكارها ومصالحها وتوجهاتها داخل القصة.
وفي ضوء فهمنا للعلاقة العضوية ما بين القصة والدراما، فإننا يمكن أن نتساءل أيضًا:
ما الذي نحتاجه إذن لتكوين حدث درامي سواء أكانت غايته بناء قصة أم بناء مشهد درامي/ مسرحي؟
إن ما سنحتاج إليه يتمثل في عناصر تكوينية أساسية تتمثل في الإجابة عن الأسئلة التي تبدأ بكل من أدوات الاستفهام التالية:
- من؟
- ما؟
- أين؟
- متى؟
هذه هي العناصر الأساسية الأربعة التي يقتضيها أيُّ فعلٍ درامي، وهي بمثابة المادة الأساسية لأي تشكيلٍ درامي لاحق. ولكي ينمو هذا الفعل، ويأخذَ أبعادا جديدة، فهو بحاجة إلى إضافةِ عناصرَ أخرى فيما بعد، منها:
- ما الذي حدث قبل ذلك؟
- وما الذي سيحدث بعد ذلك؟
من المفيد هنا أن نعود إلى (إمبرتو إيكو) مرة أخرى، ونستكملُ الاقتباس:
"وما دمنا نتحدثُ عن النهر، فإنَّه حريٌّ بنا أنْ نتذكرَ المثلَ الهندي السائر الذي يقول: اجلسْ على ضفةِ النهر، وانتظرْ. فجثةُ عدوِّكَ لن تتأخرَ عن موعدِ العبور. ليدفعنا هذا المثل، إلى افتراضِ التساؤلاتِ التالية:
ترى ما الذي سيحصل لو مرَّتْ من أمامِ صيادِنا جثةٌ طافيةٌ على سطح الماء، بعد أن يكون قد دفعها التيار، سيما وأنَّ إمكانيةَ وقوع مثل ذلك، متضمنةٌ سَلفًا ضمن نطاق التناص الذي تؤشر عليه لفظة النهر المشتركة بين حكايتنا وبين المثل السائر؟ ثم علينا ألا ننسى بأنَّ سِجِلَّ صيادِنا العدليِّ، لا يخلو من سوابقَ، فهل سيخاطرُ الرجلُ بنفسه، ويدفع بها بكيفية إرادية ومقصودة، كي تتورطَ في قضية مشبوهة؟
تُرى ما الذي سيفعله بالضبط؟ هل سينجو بجلده متظاهرًا بعدم رؤية الجثة أم سوف يحس بضغط الشبهات الحائمة حوله، تثقل على كاهله خصوصًا، وأنَّ الجثة المشؤومة هي جثّةُ الرجل، الذي ظل صيادنا يَكِنُّ له حقدًا دفينًا أم تراه سيستشيطُ غضبًا، بحكم مزاجه الغضوب، طبعًا، لأنه لم يتمكنْ من تنفيذ مخطط انتقامٍ سابقٍ من الرجلِ الميِّتِ ظلَّ يتوقُ إلى تنفيذه بحرارة؟
ها أنتم إذن، ترون بأنه كان يكفينا أنْ نؤثث العالم المتخيل بالقليل من العناصر الأولية فحسب، كي نحظى بتدشين بداية للقصة وإلى جانب هذه البداية، هناك بدايةٌ أخرى ترتبط بطبيعة الأسلوب، لأنه ينبغي على الصياد المنهمك في عملية الصيد، أنْ يفرضَ على أسلوب الكتابة، تبني إيقاعٍ سردي بطيء مرة، وجارٍ مجرى مياه النهر المتدافعة الانسياب مرةً أخرى؛ بمعنى أنَّ طبيعة الصياد المزاجية، وعملَهُ، وسوابقَه كذلك، ينبغي أنْ تفرضَ إيقاعًا سرديًا، لا يُصوّر حالةَ الانتظارِ المشبعةَ بالهدوءِ والصبرِ والترقبِ وحدَها، وإنَّما أيضًا حالاتُ الرجفةِ والذعرِ اللصيقةُ بطبيعةِ البطلِ سريعةِ التأثرِ، (لفرطِ نزقِهِ، وغضبِهِ السريع، ولسوابقِهِ أيضًا).
ينبغي أنْ نُنشئَ العالمَ أولًا، لتأتيَ الكلماتُ بعد ذلك، من تلقاء نفسها، تقريبًا. يقال في اللاتينية: إنَّ الإحاطة بالعالمِ سابقةٌ على الإحاطةِ بالكلمات، وهو الأمرُ الذي يقع مثلما أظنُّ على النقيض من ذلك في الشعرِ، حيث الإحاطةُ بالكلمةِ سابقةٌ على الإحاطةِ بأشياءِ العالم".
إنَّ كلَّ ذلكَ يتيح لنا الولوجَ إلى استكشافٍ يتضمنُ مجموعة من التفاعلات التي تطرح أسئلة من قبيل؛ ما الفعلُ الذي يحدث؟ لمَ يحدث؟ لأية غاية؟ ما الذي يجعلُ الشخصية ترى في هذا الفعل فعلا مناسبًا لها في هذا السياق؟ أية رؤية للعالم تتبناها الشخصية؟ ما هي فلسفتها؟ أي موقف تتبناه؟
وحين نرى ذلك، فإننا سنرى ما بدأ الحديث إمبرتو إيكو عنه بخصوص عناصر الحكاية، وسنجدُ بنية رمزية وتعارضاتِ منظوراتٍ وتوترات وكلها تتركزُ معًا في مقولةٍ مكثفة. ولعلَّ في ذلك ما يمنحُ الكتابةَ ممكناتٍ جديدةً تفضي إلى قصصٍ مختلفةٍ متعددةٍ متنوعةٍ. وتغدو لكلِّ طفلٍ حكايتُهُ ولكلٍّ طفلةٍ قصّتُها.
***