خلال عملي مع المعلمين كنت اوظف قصصًا كمصادر ملهمة للتعليم واستخلص منها سياقات تعلم عبر توظيف الفنون المختلفة وبخاصة الدراما في استكشاف عالمنا والتفاعل مع قضايا حياتنا ومحيطنا. تبدو القصص كمعادل متخيل للعالم الواقعي، وبالتالي فإنها تحمل إمكانات تعلم هائلة إذا ما أردنا التعبير عن حياتنا وقضاياها بصور فعالة. وقد ترجمت إلى العربية 6 قصص، وهي: الفراشة، الديك الذي ذهب إلى عرس عمه، الجلد المسروق، طفلة الغابة، الضفدع الذي صعد إلى السماء، الطفل والضفدع.

وهذه القصص بخاصة، والقصص بعامة، تحمل طاقة إنسانية تكاد تغطي كل مناحي الحياة الإنسانية؛ أفعالا، وأفكارا، ومشاعر، ومفاهيم، وقيما. وخلال تجربتي كمعلم يعمل مع الأطفال أو كمدرب للمعلمين أدركت كم للقصص، إذا ما أحسننا مقاربتها مع الأطفال، من إحداث نقلة نوعية في تعلم يفضي إلى خبرة يوظفونها في حياتهم لأن القصص نفسها يمكن أن تمد خيوطها إلى محيطهم فينسجون بإبرهم، ومخيلتهم ومعارفهم ومهاراتهم وقيمهم. 

وفي هذا السياق، وبأثره، اشتغلت فيما بعد على انتاج وحدات تعبير تفاعلية يمكن للطفل فردًا أو عبر الجماعة أن يعبرها، ويعبر في كل محطة من محطاتها المقروءة أو المسموعة أو المرئية تجربة في التعبير اللغوي والبصري والفعلي. ومع العدوان المرعب على الفلسطينيين وبخاصة قطاع غزة، وحجم الدمار والقتل والفقدان الذي أصاب المجتمع الغزي بخاصة والمجتمع الفلسطيني بعامة وصولا إلى المجتمع الإنساني في أربعة أرجاء الأرض، بدا أن ما تعرض له الأطفال هو أقسى ما يمكن أن يصاب به مجتمع بشري؛ أطفال بلا عائلات، بلا غذاء، بيوت، بلا مدارس، بلا أعضاء، بلا مشافٍ، بلا ألعاب، بلا كتب، بلا وسائط رقمية، وهذا معناه أن يحيا الأطفال في خوف، رعب، عزلة، قلق، توتر، وحدة، تجنب، . فيفتقدون فيه الحماية، الشعور بالأمان، السلامة، الصحة، الغذاء، الجماعة... .

في مجتمع كهذا ستنشأ ظواهر جديدة شديدة التناقض وكثيرة التعقيد؛ ما بين التساند والمعاضدة إلى التشتت والتفرق، ما بين البحث عن سلامة وأمن نسبيين إلى تفشي العنف والسرقة والنهب، من الأمانة وروح المسؤولية إلى الاستغلال والتربح بقوت الناس، ...

إذن، ما الذي يمكن عمله أو ما الذي ينبغي عمله؟ هناك الكثير مما ينبغي عمله، وأول الأمر ألا يتم التعامل مع هذا الواقع الراهن كحالة استثنائية طارئة تتطلب تتدخلا طارئا وحسب بل إن هذه الإبادة بكل مستوياتها ينبغي التعامل معها ومع آثارها باعتبارها حالة "مستمرة" آثارها لعقود قادمة، وهذا يعني أن مجابهتها لا ينبغي أن ينحصر في استجابات إغاثية على أهميتها وحسب بل أن تشكل منظورا مجتمعيا يسمح لنا كشعب من التفاعل معها باعتبار ما نقوم به فعل وجودي ومصيري ومستقبلي أيضأ. وهذا يعني تحويل ما يجري من "كارثة" إلى "فرصة" وعلى كل المستويات. 

إن علينا في كل فعل من أفعالنا الصغيرة والكبيرة أن نرى كل شيء متداخل مع بعضه بعضا يفضي إلى: حماية، سلامة، أمن، ثقة، إرادة، تعاضد، تسامح، تعاون، تكيف، أمل، رغبة، طموح، استعداد، عزيمة، ابتكار، كي يفضي ذلك إلى ما هو أقل إحباطا، أقل يأسا، أقل قلقا، أقل عزلة، أقل قهرًا وأكثر تطلعا إلى حاضر أفضل ومستقبل أعظم. لعلنا نستطيع بذلك تحويل الكارثة إلى فرصة لنا ولأجيالنا القادمة.

في ضوء رؤية، على بساطتها، من هذا النوع أرى ما أتطلع إلى المساهمة فيه، في ضوء قدرتي المحدودة وإمكاناتي الضئيلة، وهو يشارك في تضفير مستقبل أكثر حرية وسلاما وأمنا وإبداعًا. 

ومن موقع المعلم والمدرب والكاتب أحاول المشاركة والمحاورة في لحظة مصيرية تتطلب منا جميعا مهما كانت قدراتنا وإمكاناتنا أن نتعاضد ونتكاتف ونخلق في "الكارثة" ظروفا أفضل ومن "الكارثة" حياة أجمل. هذا هو دورنا جميعا، وعلينا أن نرى وسط الركام حديقة الغد، وملعبه ومكتبته وطموحاته.

وفي هذا الظرف أطلقتُ منصة "تعبير" وفي المنصة هناك وحدات منشورة وأخرى في طور التصميم وستنشر قريبا وثالثة تنتظر تصميمها ومن ثم نشرها. ومن بين الوحدات المنشورة وحدات تتناول الأطفال والتعبير في ظروف الحرب والحصار والإبادة والتهجير واللجوء... . وهي مستقاة من تجارب إنسانية مختلفة؛ العراق، البوسنة، فلسطين، أوكرانيا، إسبانيا، وهي تحاول أن تقدم رحلة "تعبير" للأطفال واليافعين يستطيعون عبرها أن:

-        يتقدموا في معارفهم ومهاراتهم عبر سياق تعلم يستجيب لمتطلبات الواقع الراهن حيث لا مدارس ولا مناهج بالمعنى الكلاسيكي الذي كان معتادا سابقا.

-        أن يروا العلاقة بين ما يتعلمونه وما يعيشونه.

-        أن يشاركوا بأصواتهم في التعبير عما يجري وما ينبغي أن يتغير.

-        أن يشاركوا في المبادرات المجتمعية التي يتطلبها الظرف الراهن.

أما سمات هذه الوحدات فهي تقوم على:

-        توظيف الفنون كسياقات للتعبير

-        الأخذ بعين الاعتبار متطلبات التعلم الذي تقتضيها أعمارهم وما الذي ينبغي عليه تعلمه من معارف وقيم ومهارات ومفاهيم في ضوء المنهاج المدرسي وفي ضوء الواقع بكل مستجداته.

-        اختبار الكتابة والرسم والتصوير والحوار والإنتاج الرقمي في إنتاج تعبير يمكن لهم مشاركة الآخرين فيه.

-        التفاعل البصري الصوتي الاجتماعي في إنتاج المعرفة.

-        التركيز على القيم الإنسانية والتفاعل معها كمفاهيم ومنظورات.     

إن الوحدات في محتواها تركز على مفاهيم إنسانية راسخة وتستجيب لمتطلبات الواقع الراهن، ومن بينها؛ الحماية، السلامة، الأمن، التضامن، التعاضد، المشاركة، الثقة، الإرادة، التحدي، التصدي، الاستجابة، التكيف، الأمل، الاستعداد،... .

جميع الوحدات تتناول ذلك، أما تلك التي تركز أكثر من غيرها على ما هو "راهن" فهي:

-        والأغراض لها قصص أيضًا

-        اليوم الذي جاءت الحرب فيه

-        إني رسّام لم يسقط في قلب الشبكة

-        رسمت الحرب وكتبتها

-        طيور في الصور

-        قصص وصور

-        قطط في الحرب

-        كلب أعرج وساق خشبية

-        محاولة خروج

-        مذكرات حذاء

-        يوميات طفلة في الحرب

التعافي عبر الوحدات:

طبعا، فإن وحدات تعلم مهما بلغت تطلعاتها لا تستجيب لكل ما يجري في المجتمع، ولكنها ستغدو أفعالا تسهم ولو بقدر محدود في التعافي، لأن التعافي متعدد الجوانب والأركان ويتطلب تعاضدا على جميع المستويات.

1)     جميع التجارب الإنسانية التي عبرت الرحب في مراحل من تاريخها رأت في التعبير "اللغوي أو البصري أو الأدائي" أساسًا في توفير مناخ للأطفال كي يعبروا فيه، وعبر ذلك ينتجون أفكارهم ويعبرون عن مشاعرهم ويشاركونها الآخرين.

2)     يساهم التعبير بأشكاله الثلاثة في تمكين الأطفال بأن هناك ما له معنى يفعلونه وله قيمة.

3)     الانخراط في مشروعات تعبير يتضافر فيها ما عمل فردي أو عبر مجموعات تسهم في خلق روح من التعاضد والتساند والتضامن بين الناس.

4)     تخفف الضغط الناجم عن الخوف والقلق والتهديد الملازم ليس للأطفال فقط بل لكل الناس.

5)     تسهم في تطوير قدرات الأطفال على مواجهة التحديات القائمة عبر النماذج التي تطرحها القصص في الوحدات أو مهمات التعبير التي تتطلبها هذه الوحدات.

مثالان:

§       اليوم الذي جاءت الحرب فيه:

تبدأ الوحدة بقصة "اليوم الذي جاءت الحرب فيه" وهي تتحدث عن فتاة فقدت بيتها وأهلها ومدرستها نتيجة قصف بلدتها، وتنتقل إلى بلد آخر عبر رحلة مؤلمة ومتعبة وقاسية لكنها مليئة بالجرأة والتحدي والصمود والصبر... إلى ان تصل إلى مخيم لاجئين لا يوجد في مدرسته كرسي إضافي لها إلى أن ينتبه طفل ويبحث لها عن كرسي ويأتي به لها في اليوم التالي لكي تتمكن من الانخراط معه وزملائه في صف "اللجوء".

تقوم الوحدة على قراءة القصة والاستماع إليها بالعربية وكذلك بالإنجليزية، يكتب الأطفال انطباعاتهم، يعيدون عبور القصة فيؤلفون أغنية ويرسمون طيورا قبل الحرب وخلالها وبعدها. هنا الأطفال يكتبون ويرسمون ويتحاورون ويتشاركون، فيعبرون رحلتين متداخلتين: 1) رحلة الوحدة نفسها بقصتها ومحطاتها وما فيها من مفاهيم لها علاقة بالتعافي (التعبير، المشاركة، الصبر، الأمل، التعاضد، الأمل، المجابهة،... ) 2) رحلة العمل في الوحدة من كتابة ورسم وحوار وإنتاج لغوي فني وما فيه من عمل (تشاركي، تعاوني، تحاوري، يطور قدرة المجموعة على التضامن وتشارك الأفكار والتعاضد في ظرف صعب وقاس،... )

§       كلب أعرج وساق خشبية

يغلب على الثقافة المجتمعية المتوارثة في أحسن أحوالها (الإشفاق) على ذوي الإعاقات وفي أسوأ أحوالها التقليل من شأنهم أو تجنبهم. ولقد أفضت الحرب إلى وجود آلاف من ذوي الإعاقات وبخاصة فقدان أطراف وأعضاء، ولذلك ينبغي أن نتعامل مع هذه الظاهرة كما طواهر أخرى بكل جدية بما في ذلك نظرة المجتمع إليها، فهذا كفيل بأن نعامل مع الظاهرة نفسيا وفكريا واجتماعيا وماديا ووظيفيا بصورة مختلفة.

تبدأ الوحدة باقتباس من رواية "أرواح كلمنجاور" ل إبراهيم نصر الله، وهي عن فتيات من نابلس فاقدات لأطرافهن يقررن صعود جبل كلمنجارو، يرافقهم الروائي في الرحلة الواقعية الحقيقية وينتج أثرها هذه الرواية. ننتقل إلى صوتين لفتاتين من غزة، ليان التي ترى أن الأطراف الصناعية تقف عائقا أمام مستقبلها  ولمى التي ترى في الطرف الصناعي خطوة لمستقبلها. بعد أن نقرأ نكتب شيئا ما ل ليان وشيئا آخر ل لمى. ثم ننتقل إلى قصة "جراء للبيع" التي يصر ولد على شراء كلب "أعرج" بينما البائع "يصر" على إعطائه إياه مجانا لأنه "غير مفيد" فليس صالحا للعب أو القفز أو الركض... . ويصر الطفل على شرائه لأنه "الوحيد الذي يفهم حالته" وفي هذا نقد واضح للمجتمع ونظرته لذوي الإعاقات. في الوحدة نتخيل حوارا بين البائع وزوجه ويفضي هذا الحوار إلى تغير أولي في نظرة الرجل للطفل، فندخل هنا في نشاط نكتب فيه رسالة على لسان البائع موجه للطفل ونسجلها صوتيا، وننتقل بعد إلى كتابة رسالة أخرى على لسان الطفل تمثل جوابا على رسالة البائع، وعبر كل ذلك يصبح لدينا نصوصا مقتبسة وأخرى من تأليفنا مع تسجيلات صوتية، نشتغل على إنتاجها عبر وسائط رقمية لنشارك فيها الناس.

في هذه الرحلة سنرى انخراطًا في مفاهيم المجتمع وكيف ينبغي لها أن تتغير.

وكل وحدة من الوحدات الأخرى تستند إلى مجال يتيح الاستكشاف والبحث والتعبير عنه، وخلال هذه الرحلات المتعددة نعبر مفاهيم مختلفة وننخرط في انفعالات ومشاعر متعددة ونتشارك في إنتاج معرفة تسهم في الوعي الاجتماعي من ناحية وفي تنمية قدراتنا على الصمود، والابتكار، ورفع الثقة بالنفس والقدرة على التكيف والاستجابة، وعلى تجاوز هذه "المحنة" الكبرى، حيث يمكن لأمل ما أن يبزغ. 

إن "التعافي" فعل ينبغي أن يكون طوال الوقت، وفي كل الظروف، ويصبح أكثر حضورا في الظروف الأكثر قسوة وصعوبة. ومسؤولية الكبار كبيرة هنا من أجلهم ومن أجل أطفالهم، إن تعافي الكبار هو جوهري لتعافي الصغار، وهذا أمر صعب ولكن الإرادة تتيحه. فلكي يكون ممكنا للكبار أن يقوموا بدور مؤثر وذي مغزى ينبغي لهم أن يطوروا قدرات استجابة تتيح لهم أن يحققوا نوعا ما الشعور بالحماية والأمن والسلامة كي يكون بمقدورهم أن يسهموا في تحقيق بعض ذلك للصغار. وهذا لا يتحقق فقط عبر "المعرفة" بل عبر الممارسة على ال{ض ومن خلال التشارك في تحقيق شروط حياة والوصول إلى الأساسيات كالصحة والعافية الاجتماعية والتعليم بأشكال مستحدثة تستجيب للواقع، 

*  الصورة من قطاع غزة: صفحة الفنان باسل المقوسي