استناداً إلى نظريَّةِ (باختين) في مجالِ الحِوارِ، فإنَّ الذاتَ الإنسانيَّةَ تَتَكَشَّفُ عَنْ طريقِ الحوارِ، ويَنْكَشِفُ "الإنسانُ في إنسانٍ"[1][9] (Bakhtin,1997 :252) فالحِوارُ ليسَ مجردَ قاطرةٍ يَستقلُهَا المرءُ كي يَصِلَ إلى مُبتغاهُ بلْ هوَ هدفٌ في حدِّ ذاتِهِ، فعبرَ الحِوارِ ينكشفُ الإنسانُ أمامَ الآخَرينَ وأمامَ ذاتِهِ أيضاً، ولهذا، فإنَّ الكينونةَ لا تتحقَّقُ إلا مِنْ خلالِ التعاشرِ بينَ الناسِ حوارياً "حينما ينتهي الحِوارُ، ينتهي كلُّ شيءٍّ. هكذا هو الحِوارُ، في جوهَرِهِ، لا ينتهي، ويجبْ أنْ لا يَصِلِ إلى نهايَةٍ ( 1997:252) ولكي لا ينتهيَ الحوارُ، فإنَّهُ بحاجةٍ إلى وجودِ مُتحاورَينِ اثنينِ على الأقلِّ، حيثُ يقفُ إنسانٌ في مواجهةِ إنسانٍ آخَرَ، فَتَقِفُ (الأنا) مُقابلَ (الآخَرِ)، ولذلك، فإنَّ (باختين) يبدو حاسماً في موقفِهِ منْ هذا الأمرِ بقولِهِ: "صوتٌ مُفردٌ لا يُنهي شيئاً، ولا يحلُّ شيئاً. صَوتانِ اثنانِ هما الحدُّ الأدنى للحياةِ، هُما الحدُّ الأدنى للوجودِ" (252).
وهذهِ (الأنَا) ليستْ (أنَا) صَافيةً مُقابلةً لـ (آخَرَ) صافٍ، بل هي (أنَا) لها وعيُهَا الذي يتحدَّدُ في العلاقةِ مَعَ وعيِّ (الآخَرِ) وهنا يتجلَّى الفَرْقُ الجوهريُّ بَينَ ما هوَ حواريٌّ، وما هوَ مُونولوجِيٌّ؛ "فالمونولوجيَّةُ، في صورتِها المتطرِّفَةِ، تُنْكِرُ أيَّ وجودٍ لوعيٍّ خارجِها لَهُ حقوقٌ مُتكافئَةٌ ومسؤولياتٌ مُتساويَةٌ" (292) ولذلكَ، فإنَّ الآخَرَ يَتحولُ عبرَ هذهِ النَظرةِ إلى "موضوعٍ للوعي، وليسَ وعياً آخَرَ" (293) فالأنا التي لا تَعترفُ بوجودٍ غيرِ وجودِها، وتُقْصي الآخَرَ عنْ الوجودِ، إنَّمَا هي ذاتٌ مُتَسلِّطَةٌ، صاحبُها يُغْلِقُ أذنَيِه، فلا يَسمعُ، ولا يَأخذُ بعينِ الاعتبارِ أيَّ وجودٍ لغيرِهِ. أمَّا في الحوارِ، فإنَّ الإنسانَ لا يَتعرَفُ على ذاتِهِ، ولا يعرفُها دونَ معرفةٍ للآخَرِ. "ولتصويرِ دخيلةِ الإنسانِ، كما فهمَها دوستويفسكي، كان ذلكَ ممكناً فقطْ بواسطةِ تصويرِ مشاركتِهِ معَ آخَرَ. فقط في المشاركةِ، في تَفاعُلِ شخصٍ بآخَرَ، يُمكنُ "للإنسانِ في إنسانٍ أنْ يَنكشفَ لآخَرينَ، بالإضافةِ إلى انكشافِهِ لِنفسِهِ" (252). وعبرَ هذا التفاعلِ المُستمرِّ والحميمِ لخبرةِ الكلامِ ما بينَ الأفرادِ، فإنَّ هذهِ الخبرةَ المتحقَّقَةَ "يمكنُ أنْ تُوضَعَ سماتُها إلى درجةٍ مُعيَّنةٍ كعمليةِ استيعابٍ، أقلَّ أو أكثرَ إبداعيةً، لكلماتِ الآخرينَ (وليس الكلماتِ في لغةٍ)" (89) ولذا، فإنَّ الكلامَ الذي نتلفظُهُ، ونمارسُهُ في حواراتِنا مَعَ الآخَرينَ هو "كلُّ تَلَفُّظَاتِنا (بما في ذلكَ الأعمالُ الإبداعيَّةُ)، ممتلئةٌ بكلماتِ الآخرينَ، وبدرجةٍ مُتفاوتةٍ منَ الآخَرِيَّةِ أو بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ من – (آخَرِنا)، our - own -ness) وبدرجاتٍ مُتفاوتةٍ مِنَ الوعيِ والانفصالِ. كَلماتُ الآخَرينَ هذهِ تحملُ في داخِلِها تعبيرَها الخاصَّ، ونبرةَ تقييمِها الخاصةَ، التي نَستوعبُها، ونعيدُ إعمَالها، ونَنْبُرُها ثانيةً" Bakhtin, 986: 89)).
وَضِمْنَ هذا التفاعلِ ما بين تَلَفُّظَاتِِنا وتَلَفُّظَاتِ الآخرينَ ينولدُ الخِطابُ، ينولدُ من هذا الحضورِ لكلامِ الآخَرينَ، فدونَهُ لا يتحققُ حوارٌ، ومن خلالِ فَهْمِ الخِطابِ كخلفيةٍ لتنوعٍ لسانيٍّ يجدُ طريقَهُ منَ المتَكلِّمِ إلى مَنْ يُكلِّمُهُ، حينَها "يَسعى المتكلِّمُ إلى توجيهِ خطابهِ بوجهةِ نظرِهِ المحدَّدَةِ، نحوَ منظورِ الشخصِ الذي يُريدُ أنْ يفهمَ، ويحاولُ الدخولَ في علائقَ حواريَّةٍ مَعَ بعضِ مظاهرِهِ. إنَّهُ يَتَسلَّلُ إلى المنظورِ الأجنبيِّ لمحاورِهِ، ويُشيِّدُ مَلفوظَهُ فوقَ أرضٍ أجنبيَّةٍ، ومِنْ خلالِ الخلفيةِ الإدراكيَّةِ لمُحَاورِهِ" (باختين،1995 :147).
(باختين) يَرى التَّلَفُّظَ ككتلةٍ أساسيَّةٍ في بناءِ الحِوارِ، فَدونَ تَلَفُّظٍ لا يمُكنُ أنْ يبدأ حِوارٌ؛ بمعنى أنَّ التَّلَفُّظَ يحتاجُ إلى تَلَفُّظٍ آخَرَ كي يغدوَ حِواراً، وهذا ما يُفَسِّرُهُ هُولوكويست (Holquist,1990) في تَناولِهِ لحوارية[2][10] (باختين) (Bakhtin’s Dialogism): "التَّلَفُّظ، دائماً، هُوَ جَوابٌ على تَلَّفُّظٍ آخَرَ يتقدَّمُه، وبسبب ذلك فهوَ دائماً مشروطٌ ويتأهل تباعاً بتَلَفُّظٍ سَابقٍ إلى درجةٍ أكبر أو أقَل" ( 1990 :60).
فحينَ يكتَسي التَّلَفُّظُ بنبرتِهِ الخاصَّةِ، وسياقِهِ الخاصِّ، فإنَّهُ يَغدو صوتاً مُتفرداً، صَوتاً يُعبِّرُ عنْ خصوصيَّةِ صاحبهِ، يتحوَّلُ عن حياديتِهِ في اللُّغَةِ، ليغدوَ تَلَفُّظَاً، أو ما يُطْلِقُ عليِهِ (باختين) أيضاً تعبيرَ "تصييرُ الهيتروجلوسيا[3][11] إلى حِواريَّةٍ" ( dialogized heteroglossia) فيُشحَنُ بصوتِ الفكرِ سواءٌ أكانَ كتابياً أمْ شفويَّاً، وهذا الصوتُ هوَ صوتُ التفرُّدِ لهذا التَّلَفُّظِ الذي اكتنزَ بالاجتماعيِّ. "إنَّ البيئةَ الأصليَّةَ للتَلَفُّظِ، هيَ البيئةُ التي يعيشُ فيها، ويتشكَّلُ، ويكتسبُ ملامحَهُ، هي المشَكِّلَةُ للهيتروجلوسيا الحواريّةِ، وهيَ كاللُّغَةِ في اجتماعيَّتِهَا أو في غيابِ شخصيتِها الممَّيَزَةِ، ولكنَّها مَلموسَةٌ، وممتلئةٌ بمحتوى محُدَّدٌ، وتُنبرُ كَتَلَفُّظٍ فَرديٍّ" (Bakhtin, 1981: 272).
إنَّ امتلاءَ التَّلَفُّظِ بالصوتِ الفرديِّ، هوَ امتلاكٌ فرديٌّ لهذا التَّلَفُّظِ، وهوَ مُؤَهِلٌ لانعقادِ الحوارِ الذي يَتطلَّبُ أنْ يكونَ المُحَاوِرُ فيهِ قادراً على تَوَجُّسِ المعنى وتذويتِه[4][12]ِ (internalize) ومنْ ثمَّ إعادةِ إنتاجِ تَلَفُّظَاتِ الآخَرينَ. إنَّ هذه العمليَّةَ تقتربُ بنا من التَّنَاصِ (intertextual )[5][13] الذي تَقولُ عنهُ (كريستيفا) (Kristeva, 1986 ) بأنَّهُ يحدُثُ أيضاً خلالَ عمليةِ قيامِ المرءِ بالقراءةِ، وقد اشتغلتْ (كريستيفا) في هذا المجالِ بتأثيرٍ منْ عملِ (باختين)؛ فخطَّطَتْ فضاءً نصيَّاً ثلاثيَ الأَبعَادِ، هذه الأبعادُ الثلاثةُ هيَ التي تقومُ بعمليةِ تنسيقِ الحوارِ، وهي: 1- مَوضوعُ الكتابةِ، 2- القارئُ 3- النصوصُ الخارجيَّةُ. وهيَ تَرَى بأنَّ هذهِ الأبعادَ الثلاثةَ تتحركُ في فضاءٍ نَصِّيٍّ على هيئةِ تَقاطُعِ إحداثيَّاتٍ عَموديَّةٍ وأفقيَّةٍ. "إنَّ وضعيةَ الكلمةِ، لذلكَ، تُحَدَّدُ أفقيَّاً (الكلمةُ في النصِّ تنتمي إلى الموضوعِ المكتوبِ والمُخَاطَبِ (المُرْسَلِ إليهِ) تماماً كما العَموديِّ (الكلمةُ في النصِّ تُوجَهُ نحوَ مجموعةٍ كاملةٍ من الأدبِ السالفةِ أو المتُزامِنَةِ) ... كلُّ كلمةٍ (نصٍّ) هي تقاطعٌ منْ كلماتٍ (نصوصٍ) حيثُ، على الأقلِّ، هناكَ كلمةٌ (نصٌّ) أُخرَى يمكِنُ قراءتهُا..." (1986 :37).
وهذا الفعلُ الذي يَنشأُ، هوَ فِعْلٌ يَتداخَلُ فيهِ النصُّ بالتفكيرِ لدى المرءِ، فهوَ يتحرَكُ ضِمْنَ أطرافٍ وظيفيَّةٍ، يحددُها هيجل بكلٍّ مِنْ: 1- الفردانيَّةِ (Individuality) 2- الخصوصيَّةِ (Particularity) 3- الكونيَّةِ (Universality) ويتفقُ معَهُ (فيجوتسكي) في ذلك (Blunden,2000) أيضاً، وبتركيبِ هذه الخلفيَّةِ مَعَ تَصَوُّرِ (كريستيفا)، فإنَّنا سنكونُ أمامَ التالي الذي أحاولُ فيهِ توضيحَ تلكَ العلاقةِ التي تُظْهِرُ العلاقاتِ ما بينَ الكلماتِ/النصوصِ، وما بينَ موضوعِ التَّكَلُّمِ وقارئِ الكلامِ أو المُستَمعِ لَهُ، والمجموعةُ الأدبيةُ السابقةُ أو المُزامِنَةُ والسياقُ الفرديُّ والاجتماعيُّ الذي يحيطُ بها.
تعتمدُ طبيعةُ التَّلَفُّظِ على كونهِا مُوَجَّهَةً ((addressivity فهي تَكتَسبُ سِمَتَها استناداً على الشخصِّ الذي يُوَجَّهُ لهُ الكلامُ، وهذا ما يميزُ اللَّغَةَ عنِ الكلامِ، فاللُّغَةُ في كلماتهِا وجملِها غيرُ شخصيَّةٍ، ولا تعودُ لأحدٍ محدَّدٍ، بل هي محايدةٌ تماماً، وحينَ يقومُ المتَكلِّمُ (المُؤَلِفٌ) بالتَّلَفُّظِ، فإنَّه يُرسلُهُ إلى مستَمِعٍ. والمُستَمِعُ قدْ يكونُ شخصاً أوَ أشخاصَاً يشتركونَ في حِوارٍ يوميٍّ أوْ مجموعةً مِنَ الأشخَاصِ المُتوافِقي الرأي، أو مجموُعَةً من الأشخاصِ المتعارضينَ، أو مجموعاتٍ مُتمايزةً من ناحيةٍ ثقافيةٍ أو عِرقيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ، وهؤلاءُ قد يكونونَ في موقعٍ أعْلى أو أدْنى مِنْ المُتَكَلِّمِ... إلى آخِرِ ذلكَ مِنَ التنويعاتِ الاجتماعيَّةِ. إنَّ المُتَكَلِّمَ يُصمِّمُ كلامَهُ بمعرفتِهِ بمنْ يوجِهُ له كلامَهُ (تَلَفُّظَهُ) فهو يحُِسُّ بهِ، ويتخيلُهُ، ويعرفُ مدى تأثيرِهِ على التَّلَفُّظِ؛ فكلُّ كلامٍ لهُ تصورُهُ النموذجيُّ للمخاطَبِ، وهذا الكلامُ هو الذي يُعرَفُ بالنَّوع[6][14]ِ (genre). (Bakhtin, 1986 :95) ويتحقَّقُ عبرَ خبراتٍ ومعارفَ وتَصرفاتٍ تَجري في مجالِ النَّشاطِ الإنسانيِّ، وهذهِ الخبراتُ والمَعارفُ التي يتمتعُ بها المرءُ هي خبراتٌ ومعارفُ تراكميَّةٍ يتداخلُ فيها الفرديُّ والاجتماعيُّ، إنَّ (كريستيفا) (Kristeva,1986) تُشبهُ النصَّ المُتَكَوِّنَ منْ هذهِ العمليَّةِ على أنَّهُ فُسيفسائيٌّ، "النصُّ ينبني كفسيفساءٍ منَ الاقتِباسَاتِ؛ فأيُّ نصٍّ هو الامتصاصُ والتحويلُ لنصٍّ آخرَ" (1986 :37).
وإذا مَا كانَ النصُّ )أيُّ نصٍّ( هوَ في النهايَةِ مجموعةٌ من النصوصِ، فهلْ يَعني هذا أنْ لا نصَّ جديدٌ يظهرُ؟ إذا كانَ الجوابُ بنعمْ، فَمَا الذي يمكنُ أنْ يُقالَ عنْ الأعمالِ الأدبيَّةِ؟ يجيبُ (باختين) عنْ ذلكَ شَارحاً بأن التَّلَفُّظَ كفعلٍ سياقيٍّ، يكتسبُ جدَّتَهُ من حيثُ كونِهُ باتَ حوارياً، فحينَ يكتَسي بعداً جديداً، فقدْ تَقِلُّ فيهِ الحواريَّةُ أو تزيدُ استناداً إلى وضعيتِهِ الجديدةِ، فلا يعودُ لغةً محايدةً أو لا شخصيَّةً، و"لكنْ بدلاً منْ انوجادِهِ في أفواهِ أُناسٍ آخَرينَ، في سياقاتِ أناسٍ آخرينَ، يخدمُ نوايا أناسٍ آخرينَ: إنَّهُ منْ هُناكَ حيثُ يجبُ على المرءِ أنْ يأخذَ الكلمةَ، ويجعلَهَا خاصةً بهِ" (Bakhtin,1981 :294) وبهذا، فإنَّ المرورَ بخبراتٍ ومعارفَ جديدةٍ سَيُفْضي إلى أنْ تَظهرَ باستمرار، بصورةٍ أو بأخرى، نصوصٌ تأتي في نقطةِ التقاطعِ ما بين الإحداثيَّينِ العموديِّ والأفقيِّ، وبهذا يتشكَّلُ التَّلَفُّظُ الجديدُ (الشفويُّ أو الكتابيُّ) منْ حيثُ هوَ نصٌّ/خطابٌ (discourse/ (textفي كلامِ المُتَلَفِّظِ يُنتِجُ دلالةً جديدةً نتيجةَ المواجهةِ ما بينَ هذهِ النُصوصِ، وأسلوبِ بنائِها الجديدِ، ضمنَ سياقٍ يتضافرُ فيهِ كلٌّ منَ الموضوعِ، والحالةِ، والمشارِكينَ، لإنتاجِ حوارٍ يتمازجُ فيهِ الفرديُّ والاجتماعيُّ؛ وكلَّما كانَ النوعُ الحواريُّ مَبنيَّاً بصورةٍ أدبيَّةٍ فنيَّةٍ أكثرَ، فإنَّهُ يَغدو حواراً يَظهرُ فيهِ الصوتُ الفرديُّ أكثرَ فأكثرَ، وكلَّما كانَ أكثرَ اقتراباً منَ الكلامِ القياسيِّ standard speech)) الاجتماعيِّ اليوميِّ؛ فإنَّهُ سَيَغدو حواراً يَتَمَاهى فيهِ الصوتُ الفرديُّ مَعَ أصوَاتِ الآخرينَ، وتَغيبُ فرادتَهُ.
***