(1)

تقوم هذه المداخلة على تجربة شخصية مباشرة، وهي تجربة مع مجموعتين من أطفال صغار؛ أولاهما لأطفال لم يتجاوز الخامسة من العمر، وثانيهما لأطفال لما يتجاوزوا التاسعة بعد. ولم يخل دافع هذه التجربة المباشرة من حنين كبير للتعليم بعد انقطاع لأربع سنوات عنه! قد لا يكون في هذا الحنين ما هو رغبة في العودة إلى التعليم، ولكنه لا يشكل أيضاً مجرد شعور نفسي سرعان ما يتبدد! إنه الحنين الذي يقع عند التخوم، ما بين الرغبة في التدريس وما بين النأي بنفسي عن المدرسة كمعلم. وإن اخترت العمل من خارجها، فإنني اخترت أن أكون أكثر حرية في مشاكستها واستفزازها ليس بغرض تقويضها، وإن كنت أحلم بذلك، بل بغرض محاورتها، وإن كنت أدرك تماماً أن تغييراً عميقاً في المنظومة المدرسية غير قابل للتحقق دون تقويض أساساتها المتعارف عليها منذ ما لا يزيد على قرون ثلاثة، فإنني أدرك أيضاً بأنها مجال جدير بالفعل فيه، فالرغبة بالتغيير لا تتحقق عن بعد، والرغبة في المحاورة لا تتم عبر تآكل الصوت في داخل صاحبه بل هي تحتاج إلى احتكاك مباشر، وأهم ما كان يغذي ذلك لديَّ عامل واحد أساسي، وهو ابني الصغير، الذي كنت أراه، وقد بدأ أولى خطاه في المدرسة، وهو في عامه الثالث، وقتها بدأت استعيد بذاكرتي تفاصيل حياتي المدرسية وصورها، تلك المدرسة التي  قد لا أستطيع  الحسم بأنني كنت اكرهها، ولكنني أستطيع أن أجزم بأنني كنت أحبُّ الحياة خارجها أكثر. 

(2)

حينما قررت توظيف قصة "الجلد المسروق" أو "جلد الفقمة" في صف الروضة الذي كان يضمُّ ابنتي في العام الماضي، قررتْ أن لا تذهب إلى المدرسة في ذلك اليوم، وهكذا فعلت، وحين سألتها أجابت بأنها سمعتها مني، وبالتالي فلم تجد ضرورة لأن تكون مع زميلاتها. في عصر ذلك اليوم أحضرت شريطاً مصوراً لتلك الحصة إلى البيت، وأخذت بمشاهدته، وكنت أنظر إليها بين حين وآخر، فكانت تبدي لي عدم اكتراثها، ولكني كنت ألمحها بين حين وآخر، تسترق النظر، وكأنها تتلصص، هذا ما بدا لي أول الأمر، بل كانت تنأى بنظرها حين كنت ألتفتُ إليها، لم يفلت منها شيء سوى تلك اللحظات التي كنت ألتفت إليها، فتبعث لي برسائل اللامبالاة الواحدة تلو الأخرى. ولكنني رأيتُ، جلياً، في الوقت نفسه، تحرقاً في عينيها، وبثت لي ما رأيتُه وكأنه إدانة مغلفة لي؛ لأنني تركت ذلك اليوم يفلت منها. ولم يكن سبب ذلك لأن القصة مألوفة لها، وبأنها أنصتتْ إليها كما انصتتْ لقصص ما قبل النوم، بل لأن الاشتغال على القصة اتخذ منحى آخر، فقد رأت لعباً واستماعاً للموسيقى ورسماً ومناقشة وتمثيل... . وما يدفعني إلى أن أقول ذلك، هو أنها استمرت لما يزيد على العام تستعمل تلك القماشة والصور والرسومات... في البيت، وأحياناً في العمل، وتفرِدُها وتشتغل عليها، وكأنها معلمة لأطفال مفترضين. وفي أحيان كثيرة كانت تلح عليَّ على عمل دراما كلما كان ذلك متاحاً، وبات أولويةً على قراءة قصة ما قبل النوم، ورفضت بشدة أن تكون الدراما بديلاً للقصة أيضاً، ولكنها كانت لا تتنازل عنه أبداً. وهذا ما زال يحدث حتى الساعة. 

(3)

إن ما أود قوله هنا، وإن كان شخصياً تماماً، فهو لأنه شخصي تماماً؛ لأن العمل مع الأطفال هو فعل شخصي؛ في مستوييه العقلي والشعوري، فهو ذلك الانخراط الفردي في سياق الجماعة، بكل ما تعنيه من فردية وجمعية في الآن نفسه، ولا يمكن له أن يكون فعلاً وظيفياً صرفاً، منـزَّهاً عن "المشاعر" أو مفرَّغاً من الرغبة في "اللعب" أو مبرءاً من الخيال. لم يك ممكناً أن يكون فعل "المعلم" في هذا السياق حيادياً، أو يختلق مسافة فاصلة لا يجوز اختراقها، إنه احتكاك الأفراد واشتباكهم ضمن مستويات مختلفة وضمن علائق متعددة. ولأنني أدركت كم هو اللعب والقصص مثيرة وذات معنى للصغار، ذلك الأمر الذي لم أدركه قبل ذلك، لأنني لم أجد من يحكي لي القصص. 

(4)

أن تبدأ درساً في التعبير، وفي التعبير اللغوي على وجه الخصوص بخلع الأحذية، والركض في المساحة المخصصة للدرس،  أو بتمارين جسدية، ورمي الكرة والتقاطها أو باستماع للموسيقى أو بمشاهدة قطعة بيضاء أو زرقاء من القماش ممددة على الأرض ملقى عليها صور لفقمات وقطعة قماش سوداء مكومة ومرشوقة بخيوط صوف زرقاء، وأن تمر خلال الدرس من خلال الصور والأدوار وأن تنتهي بمناقشة، تغدو تمهيداً لفعل آخر تالٍ... هل يبدو ذلك كله خارج التعبير... إذا كان لا، فلماذا لا يكون التعبير إلا شفاهة أو كتابة... أليست الكتابة هي التعبير اللفظي وغير اللفظي ولا تغدو تعبيرا ذا معنى إذا كانت خارج سياق التلفظ الذي هو بهذا المعنى وبغيره من المعاني اللحظة الإنسانية في صورتها التي يشحنها الخيال بأجنحته، ويحلق بها في فضاءات "الواقع". أليست هي التعبير حين يغدو تعبيراً شخصيا سواء أكان تعبيراً عن الذات أم تعبيراً عن الآخر.

(5)

ولكن السؤال الأهم هو كيف يمكن الاشتغال مع الصغار على الخيال وتنميته؟ إنه السؤال الذي كان وما زال يؤرقني دائماً، فمعرفة الأساليب والتقنيات وتخطيط الدرس بدقة وأناة لم يكن كل ذلك كافياً لتحقيق ذلك، بل إن ما قد يحقق ذلك هو تلك اللحظات التي تستجمع فيها كل طاقتك وخيالك ورغبتك وحبك لمن تعمل معهم حتى تستلهم تلك اللحظة التي قد تدفع بالجو إلى التحليق في الخيال، الخيال الذي هو جوهر الارتقاء والتغيير، هو ذلك الانفلات من عقال "الواقع" في صورته في مخيلتنا إلى الخيال الذي هو صورة أخرى تتيح لنا مساءلة "الواقع" مرة أخرى وإعادة اكتشافه، وبالتالي تكوين تصور حوله وفيه يدفعنا إلى البحث عن تغييره. وما يدفع الخيال إلى أفقه هو الانشغال في الأصوات المتعددة، الانشغال في تخيل السياقات والمواقف والأحداث والأشخاص وإعادة النظر في الأفعال من خلال ذلك الانشغال والانخراط في هذه اللحظة الإنسانية أو تلك وكشفها واستكشافها وخلق فضاءات التعبير فيها وحولها. 

(6)

كانت ينتابني إحساس، أحياناً، بأن ما قمت به كان فاشلاً تماماً ليس بعد أن أنتهي من العمل مع الصغار، بل كنت أبدأ في استشعاره في حينه، ولذلك فقد كنت أراوح بين شعورين؛ الإحباط أو الرغبة في التجاوز، كنت انجح أحيانا في تبديد الإحباط بإعادة النظر بما أقوم به وأغير في خطتي وفي النشاطات التالية، وحين لم يكن الشعور بالنجاح قد تحقق فقد كان ينعكس ذلك على أدائي إلى نهاية اللقاء، ويستبد بي شعور الإخفاق لأيام تالية.

(7)

من هنا كانت التجربة تقتضي أشياء كثيرة، كيف أشرع في ذلك؟ ومتى؟ وإلى أي مدى؟ ومتى يتطلب الأمر خلاصة ومتى يتطلب الأمر انتقالاً إلى مستوى أخر؟ أي معرفة كونتها لهؤلاء الصغار؟ أي اختلافات بينهم؟ كيف أخطو الخطوة التالية؟ كيف ألعب دوراً في الاشتغال على تلك الطاقة الكامنة فيه، على تلك المنطقة الممتدة بين ما يعرفونه وبين ما يمكن لهم أن يعرفوه، بين ما يستطيعون فعله وبين ما هم بصدد فعله إن تسنى لهم سياق يساعدهم على تحقيق ذلك؟ هل هذا هو السؤال الذي ينبغي طرحه أم كان ينبغي طرح سؤال آخر؟ هل أفلتت مني ملاحظة لأحدهم أم أنني لم أعر انتباهاً كافيا لردة فعل أو موقف كان يتطلب التقاطه وتنميته؟ هل كنت متسرعاً في فعل ذلك أم كنت بطيئاً أكثر مما يجب؟ كل هذه الأسئلة وغيرها ليست أسئلة تُسأل مرة واحدة، ونجد إجابتها دفعة واحدة، إنها الأسئلة الدائمة والمستمرة التي تتغير إجاباتها أو أفق إجابتها في كل مرة، وفي كل موقف، وفي كل حالة. هل أفلتت مني جملة "صوت الليل" التي انطلقت من فم طفل صغير، حين كان الصغار يعددون أنواع الأصوات في غابة؟ هل كان عليَّ ألا أنفعل في تلك اللحظة التي سيطرت فيها فوضى عارمة لم أكن أستطيع تبدديها وإعادة الانتظام سوى بدقيقة صمت مفروضة على الجميع؟ هل كان ذلك بسبب رتابة النشاط؟ هل كان يتوجب عليَّ إعادة النظر فيه بصورة أعمق؟ لماذا كان هناك صغيران يتناكفان حين كنت أسرد القصة في الوقت الذي ترى فيه البقية في انشداد كامل للقصة؟ ما الذي عليَّ أن أفعله؟ هل القصة باهتة؟ هل علي أن أقوم بعمل ما خلال القص يسترعي انتباههما كالبقية؟ ألم يكن من الأجدى أن لا أفترض بأن هذه الشعبة ستفعل كما فعلت نظيرتها حين طلبت من تلامذتها طرح أسئلة على الصياد قبل أن أكتشف بأن فكرة سؤالٍ لهذه المجموعة المكونة من أطفال في الرابعة من عمرهم لم تكن واضحة، فتعين علي إيقاف النشاط، ولعب دور المعلم الذي يقدم أمثلة على الأسئلة وصيغها كي يمكننا العودة إلى نشاط الأسئلة مرة أخرى؟

(8)

حينما اخترت قصتين من القصص الإنساني العالمي، لتكونا محوراً لهذه التجربة، فقد كان ذلك نابعاً من رغبتي في الالتفات أكثر إلى الجانب الإبداعي في البعد الإنساني من ناحية، ولأنهما من الناحية الأخرى تمثلان تساؤلات مشتركة فيما يخص مفهوم الحرية والانعتاق بصورة رمزية حادة. لقد كانتا قصتين أحببتهما كثيراً، ورأيت كم كانتا مثيرتين لكثير من الأطفال الذين سردتهما لهم. ولأن هاتين القصتين تمثلان تصوراً تراكمياً لما أقوم به من عمل في سياق درامي يتخذ من القصص سياقاً له، وبالتالي، فهما تأتيان في إطار مشروع أكثر اتساعاً تضمن قصة الملك سليمان بخصوص الطفل الذي تصارعت عليه أمه الحقيقة ومربيته، وكما تجلت بصورة مغايرة لدى برتولد بريخت في مسرحيته دائرة الطباشير القوقازية، كما تضمن اشتغالاً على رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا".

(9)

حين تدخل طفلة في الخامسة في دور، فإنها تدخل فيه بصورة أوضح وأسرع من طفلة في التاسعة التي تحتاج إلى شرح أكثر وأمثلة كي يكون ذلك ممكناً، هل لذلك علاقة بالعمر واختلاف المرحلة العمرية استناداً إلى خصائصها أم أن مدرسة ما قبل السادسة من العمر تختلف عن مدرسة السادسة من العمر وما بعدها؟ هل لأن الأسئلة قد أخذت بالانحسار في نظام مدرسي يقوم على الأجوبة ولا يتيح مجالاً للأسئلة فما بالك بالتساؤل؟ 

(10)

يمكن لأي موقف، أو موضوع أو فكرة أو حالة أن تكون متاحة للانخراط فيها بغض النظر عن العمر، فالمهم كيف؟ وإلى أي مدى؟ يمكن مناقشة مفهوم الحرية كما في قصة "طفلة الغابة" من قبل أطفال في الرابعة من العمر بكيفية تختلف عن مناقشته مع أطفال التاسعة، ويمكن للترميز أن يتخذ مستويين مختلفين لدى المجموعتين، ويمكن للنشاط أن يختلف فقد "يكتب" أطفال الرابعة حلمهم بالرسم، بينما "يكتب" أطفال التاسعة حلمهم عبر الكتابة. 

(11)

حينما تشتغل على لعبة كإحماء أو كمقدمة لنشاط تالٍ، فإن الصغار يلحون للاستمرار في اللعبة، فهل كان صحيحاً عدم الاستجابة لهم أم كان عليَّ اختيار لعبة تصل إلى مداها؟ أي لعبة تلك التي تصل إلى مداها مع الصغار؟! 

(12)

يكون هاجسي خلال النشاط مشاركة الجميع فيه، أن لا أستثني أحداً، ولذلك، أجرب الاهتمام بطريقة الاشتراك كي يشترك الجميع، وكي يسهم الكل في التعبير، فأمنح الجميع فرصة كافية لتجهيز ما يرغبون في كتابته كتعبير عن موقف ما، وأمنحهم فرصة التدرب عليه جماعياً، وإن كانت الفوضى والأصوات العالية ستكون سيدة الموقف في تلك اللحظة، أوزعهم مع أوراقهم في أنحاء الغرفة، وأمر عليهم واحداً واحداً: أمس كتف الواحد منهم فيقول، وأمرُّ عمن لا يرغب، فلا أضغط عليه، ولكنني أعود إليه ثانية بطريقة أخرى كي أحفزه على القول: "سأعود إليك مرة أخرى حينها تكون مستعداً وقد أخذت فرصتك في تحديد ما تود قوله، ولا أترك لجملة تسقط من أحد الأطفال أن تفضي إلى إحباط أحد الذين يجهدون أنفسهم للمشاركة: "أستاذ... بعرفش يقرأ"، بل أجرِّب أن أجد طريقة تحفزه، وحين أرى ابتسامته التي يمررها على الجميع بعد ذلك تتبدد غضبتي من تلك الجملة الفالتة، وألوم نفسي على أنني زجرتُ من أفلتتْ منه تلك الجملة بقولي "أِشششششش!"

(13)

إن أي نشاط يتطلب أن يكون واضح المقصد بصورته العامة، بمعنى إلى أين نحن ذاهبون؟ وهذا لا يعني أن تكون الطريقة ممهدة ومكشوفة ومسلوكة، ولكن الفعل سيفضي إلى فعل آخر، وهذا يتطلب الالتقاط، والبناء عليه والدفع به، فعليه أن يفضي إلى أمر ما، لأننا إذا كتبنا رسالة على لسان الأم الفقمة التي قررت العودة إلى البحر موجهة إلى أبنائها فهذا لأننا لا نريد أن نعرف فقط مشاعر الأم وانفعالاتها بل لأننا نريد أن نعرف أكثر من ردة فعل واستكشاف أكثر من حالة وجدانية لأطفالها، وما يضطرم من مشاعر لديهم، ففي ذلك ما قد يدفعهم إلى موقف أو تصرف دون آخر، وإذا اقتضت هذه الرسالة ردة فعل معينة، فإن رسالة أخرى مقترحة ستفضي إلى موقف آخر وسلوك مختلف، وإذا كانت ضمن تقاليد معينة فستؤدي إلى فعل من نوع معين قد تختلف عن تقاليد غيرها، وهذه ستضعنا أمام إمكانية تكوين الرأي وبناء وجهة النظر... إن النشاط في هذا السياق الذي أتحدث فيه لا يكون فعلاً مجرداً مفرغاً من محتواه الإنساني بل إنه فعل يحفر في طبقات الذات الإنسانية وأفعالها وانفعالاتها، ولذلك فإن الترابط ما بين نشاط وآخر يغدو جوهريا في تكوين السياق وإنمائه أيضاً وتفريع السيناريوهات المحتملة منه. فما يسمى في البلاغة العربية (بحسن التخلص) يتطلب أن نسميه هنا (بحسن التمسك)، وإنْ كان في المعنى الأول ما يشير إلى سلاسة الانتقال ومنطقيتها من فكرة لأخرى، إن حسن التمسك يقتضي المحافظة على ما سبق واستبقاءه، ولكن عبر الإضافة إليه والارتكاز عليه والانطلاق منه ومحاورته، فتغدو عناصره جزءا من مكونات السياق الذي يشتغل على اللحظة الراهنة، ولكنه يحمل معه أيضاً ما مضى، ويتطلع لما هو آت، ويأخذ بعين اعتباره ما يوازيه من أفعال في أمكنة أخرى في الزمن ذاته.

(14)

الحوار هو جوهر كل فعل في التربية، لا شيء يمر دون مناقشة، وكل نشاط لا بد من التعليق عليه ومناقشته وإبداء الرأي فيه وتقديم اقتراحات أو بدائل له، لأن الحوار يسهم في معرفة الذات ومعرفة الآخر وتعميق فكرة وإعادة تكوينها لديه، وهي تلعب دورا أساسياً كمادة استخلاصية ومركزة للنشاط التالي الذي يستند إلى النشاط السابق، فالعملية هي عملية تكوين في سياق ولذا فلا بد من توظيف الخبرة السابقة لدى المتعلمين فيما يتحقق الآن، وما يتحقق الآن سيغدو خبرة جديدة تسهم في تكوين ما سيتحقق غداً.

(15)

لا تشكل هذه التجربة ولوجاً عميقا في الفعل الدرامي، وإنْ كانت تشتغل على حوافه فلأنها تجربة جديدة لمجموعات من الأطفال يمرون بالتجربة الدرامية لأول مرة، ولذلك، فقد كان يتعين علي ملامستها والحفر قليلا في طبقات المعنى عبر دراما تأسيسية كالاشتغال على الشخصية الجماعية والمعلم في دور والكتابة من داخل الدور والاجتماعات... إنني كنت أشتغل على حواف الدراما وكلما كان ممكناً الولوج أكثر والدخول إلى مستويات أعمق لم أكن أتردد، فقد حدث أن اشتغلت مع الصغار على تفاصيل الفعل الدرامي ببناء سياق للأشياء ، واقتراح تصورات للتفاعل معها... ولكنني لم أدفع بذلك بعيداً لأن ذلك اقتضى تدرجاً، وإذا ما عدت لهؤلاء الصغار الآن، فيمكن الانطلاق مما تم تأسيسه والاندفاع إلى مستويات أكثر عمقاً، وطبقات أكثر تركيباً، وعلاقات أشدُّ تعقيداً.

(16)

إن التلفظ هو جوهر التعبير، ففيه الكلام يغدو متعدد الأبعاد ومتعدد الدلالات، لذلك فإن الدراما التي اشتغلت عليها كانت تشتغل أساساً على ما هو لفظي (شفوي) سواء أكان البدء بما هو شفوي إلى ما هو كتابي أم العكس.  فكثيراً ما يحدث أن يشتغل الأطفال على "الإلقاء" في بلادنا بوتيرة واحدة ونبرة منسوخة، وكأن كل النصوص تقرأ بطريقة واحدة، ولذلك أيضاً، فإننا نرى بأن الكتابة أيضا كترجمة للصوت تغدو فعلاً مستهلكاً ومكرراً وعلى منوال واحد. لقد حاولت وأحاول عبر التلفظ أن أفسح مجالاً للتخيل الذي يستحضر سياق التلفظ بكليته كي يختلف المعنى ويتبدد النسخ، وتبدو الأصوات آتية من منابع، كل واحد منها ذو شخصية وملامح وصفات وعلاقات ووجهة... ، وهذا قد يساهم في النظر إلى فعل الكتابة من منظور آخر يتطلب أن نكتب، ونحن نشتغل على سياق الكلامِ لا وضعية اللغة، الكلامِ حيّاً، الكلامِ كتلفظٍ، " فالكلام عن الذي يتكلم لا يترجم فكرة سابقةً، وإنما يرافقها" (مرلوبونتي، 1998 :153).

 (17)

هل هناك إمكانية حقيقية لمعرفة الغاية المتوخاة من الدور الذي نقوم به، وهل نستطيع حقيقة قياسها؟ هل هناك الكثير مما لا يمكن إدراكه وتلمس نتائجه. ولذلك؛ فإننا نشتغل أكثر على سياقٍ تبلوره الحوارية، تلك الحوارية في التعليم التي يلح عليها باولو فريري كثيراً كما ألحَّ عليها ابن المقفع أيضاً بصورة أخرى؟ هل في توظيف الحواس جميعها وفي الرسم والكتابة والقراءة والتمثيل والمناقشة... والانخراط فيها جميعها سواء كأشخاص أم كشخصيات ما يسهم في تنمية القدرة على التعبير والاستكشاف ليس التعبير اللغوي، بل التعبير بالكلام، بمعنى التعبير في سياق يأخذ بعين الاعتبار الحالة والمزاج والخبرة والطبيعة الإنسانية والخصائص والمهارة والحياة والخيال لمن يتعلم ومن يتعلم عنه؟ "إن الكلام المسموع... هو الذي يعطي للكلمات والجمل معانيها (مرلوبونتي،1998: 153)

(18)

دعوني اختتم بمقتبسين الأول لجيتة على لسان فاوست: "ماذا يجدي اختصار الطريق! التسلل في تيه الأودية، ثم ارتقاء هذه الصخرة، التي فيها ينحدر الينبوع في تدفق أبدي – تلك هي المتعة التي توفر أفاويهها أمثال هذه الطرق". أما الثاني فهو تساؤل لمحمود درويش: "أيهما أجمل البيت أم الطريق إلى البيت؟"

***

مراجع وهوامش


مرلوبونتي، موريس (1998) ظواهرية الإدراك. ط 1 معهد الإنماء العربي بيروت، لبنان.