سأبدأ من هنا، من هذه الصورة، بل من هذه النظرة التي تحدج فيها طفلة في صف مدرسي الناظر إلى الصورة، وكانت في لحظة التقاطها تحدجُ المصوِّر، والآن، فإن المصوِّر يتوارى ونَحُلُّ نحن محلَّه.  تَرِدُ هذه الصورة في كتاب مدرسي بعنوان "عالم من التغيرات" موجه لتلاميذ المدارس في إسرائيل، وما لبث أن منعته وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية.  المهم في الأمر هنا أن المحاضِرة الإسرائيلية نوريت بيلد – إلحنان أوردت هذه الصورة في كتاب حديث لها بعنوان "فلسطين في الكتب المدرسية في إسرائيل" وكتبت عنها ما نصه: "... فتاة تنظر في الكاميرا، وبالتالي في عيوننا.  وكوني إسرائيلية أعرف السياق الذي التقطت فيه هذه الصورة والظروف المحيطة بتلك الفتاة، فإن نظرتها تجعلني أرتعد وتتركني بلا راحة، ولكني لا أستطيع الهروب بعيداً عنها".  إن هذه الصورة لصف من التلاميذ الفلسطينيين اللاجئين في الأردن في العام 1949.

قد يقارب عمر هذه الطفلة الآن 75 عاماً، لا ندري ما الذي فعله الدهر بهذه الطفلة/الفتاة/المرأة! ربما ما زالت تنبض بالحياة، وما زالت تروي قصتها لأحفادها، وربما ... وربما ... وربما....  ولكن، وفي كل الأحوال والظروف، فإن الصورة ثبتتْ لنا صورتها، وأثبتت لنا حضور نظرتها، النظرة المليئة بالتساؤل والبراءة والتعلق بما يمكن أن يكون.  إنه تحديق مليٌّ فيما هو أمامها وفيما يتجاوزه أيضاً ....  المعلمة تدرّس هنا في الحجرة أمام السبورة، والطفلة تدرس هناك فيما هو أبعد من هذه الحجرة بكثير، ربما تذهب من خلال تحديقها بمن أمامها إلى أفقها.

أما الكاتبة، فإنها "ترتعد ولا ترتاح"، على الرغم من أنها تكتب كتاباً تُظهِر فيه كيف تشتغل الكتب المدرسية الإسرائيلية على بث روح الكراهية والعداء للفلسطينيين.  ويقوم كل همّها في كتابها للإجابة عن سؤال واحد فقط: "كيف يجري تصوير فلسطين والفلسطينيين، الذين قد يطلب إلى هؤلاء الشباب الإسرائيليين استخدام القوة ضدهم، في الكتب المدرسية؟".  ومع ذلك، فإنها ترتعد ولا ترتاح، فما الذي يفعله أولئك الذين لا يرتعدون ويرتاحون وأيديهم غارقة في دماء الناس؟!

ولا يعود الأمر إلى "قد يطلبُ منهم... " بل "طُلِبَ منهم ..." بالفعل على مدى سنوات وعقود، وهذا الذي حدث في قطاع غزة في الأيام القلية الماضية يؤكد أنهم يفعلون ما يُطلب منهم.  ولم يرتعد معظمهم، إن لم يكن جميعهم، وربما ارتاح أكثرهم ملء العين.  إن آخر ما طُلب منهم هو ما فعلوه، لا مسافة فاصلة بين الطالب والمطلوب منه والمطلب.  فلم يرتعد قائد طائرة (F16) لتلك النظرة في تلك الصورة التي لم يرها، والتي تم حجبها عنه حين كان طالباً في المدرسة، أو في كل الصور اللاحقة الممكنة ... وربما لم يرَ أصلاً صورة من هذا النوع ولا نظرة كتلك، وليس مؤكداً أن رؤيته للصورة قد يفضي "إلى ارتعاده وعدم راحته".  وأطلق حممه المرة تلو الأخرى.

إن نظرة الطفلة لا تتسم بالخوف أو الارتباك، بل بالتساؤل والتفحص والاستكشاف.  أما السؤال فستلقي بمسوؤليته اتجاه الرائي إذا رأى، وفي حالة الطيّار فإنه لن يرى سوى ما رُتب له أن يراه، وإذا شاءت الصدفة له أن يرى فإنه لن "يرى".