كُلُّ مَعرفةٍ جديدةٍ هي مَعرفةٌ حواريةٌ؛ وهيَ تقومُ على تَفاعلٍ مَا بينَ فكرةٍ وأُخْرى، فنحنُ نَعرفُ ضِدَّ معرفةٍ سابقةٍ، وذلكَ بتهديمِ مَعارفَ قلقةٍ، غَيرِ مستقرَّةٍ تماماً، تَساؤلاتهُا أكثرُ حضوراً منْ إجاباتِها. إنَّ المعرفةَ الجديدةَ تَنتجُ عنْ تفعيلِ ما هوَ غيرُ ثابتٍ أو يَبعثُ على الشَّكِّ، أو ما كانَ راكداً وواجهَ ما يحرِّكُ ركودَهُ، وهذهِ العمليةُ المعرفيةُ تَحتاجُ إلى التَفكيرِ، والتَفكيرُ لا يَقومُ دُونَ لُغةٍ "فالتفكيرُ يُوْلَدُ عبرَ الكلمَاتِ" (Vygotsky, 1987 :282).

 

فَمِنَ اللغةِ يُنتَجُ الخطابُ الإنسانيُّ الذي هوَ خِطابٌ سياقيٌّ، والسياقُ يتضمنُ اختلافَ المصالحِ، وتَنوّعَ الدوافعِ، وتَعَدُّدَ الغاياتِ، إضافةً إلى تَضَمُّنِهُ لكلٍّ مِنَ الزمانِ والمكانِ والأشخاصِ والعلاقاتِ والظروفِ... . فالخطابُ لا يمكنُ أنْ يكونَ مُتكافئاً أو متعادلاً في كلِّ الظروفِ؛ فلكلِّ خطابٍ مناحيَ قوتِهِ وضعفِهِ، سواءٌ أكانَ ذلكَ على مُستوى بلاغتِهِ أمْ على مُستوى مُؤثِّراتِ إنتاجِهِ الواقعيةِ اجتماعيَّاً، وسياسيَّاً، وأيدولوجياً، وقيمياً وسُلوكيَّاً. فالخطابُ كتعبيرٍ عَنْ علاقاتِ القوّةِ قدْ يشتملُ على المبادئِ والقيَمِ الإنسانيةِ التي راكَمَتْها البشريةُ عبرَ تاريخِها، ولكنَّهُ في الوقتِ نفسِهِ يتضمَّنُ اختلافَ المصالحِ والمواقعِ، وهذا يُنتِجُ أيضاً قيماً متنوعةً، ومصالحَ مختلفةً، سواءٌ أكانتْ هذهِ المصالح ُتتمثَّلُ في تعارضاتٍ اقتصاديةٍ أو تتمثلُ في تنوِّعِ الثقافاتِ. ولذلكَ، فإنَّ الحديثَ عنْ حوارٍ متكافئٍ بيَن البَشرِ قدْ لا يَبدو واقعيّاً أو ممكناً، وإذا ما انبرى أحدٌ مدَّعيَّاً ذلكَ، فإن خطابَهُ سيَندرجُ في سياقٍ تبشيريًّ، يحاولُ أنْ يَتعاملَ معَ القيمِ الإنسانيةِ بصورةٍ مجرَّدَةٍ. إنَّ مقاربةً على هذا النحوِ ستبدو في ظاهرِها مُنَزَهَةً عن الأرضيِّ، ولكنَّها ستكونُ، في جَوهرِها، مَوقفاً فِكريَّاً واجتِماعيَّاً مُنْحَازاً.

 

اللُغَةُ والكَلام

لعلَّ من المفيدِ الشروعَ ابتداءً في تحديدِ الفارقِ ما بينَ اللغةِ والكلام لأنَّ في هذا التفريقِ ما يوَّضِّحُ ما يختلطُ كثيراً في الأذهانِ، فكثيراً ما تُذْكَرُ اللغةُ حينَ يكونُ الحديثُ حديثاً عنِ الكلامِ، وكثيراً ما يُذْكَرُ الكلامُ حينَ يكونُ الحديثُ حديثاً عنِ اللغةِ. فالحديث عن الكلام شأنٌ معقدٌ، وقد انتبهَ أبو حيَّان التوحيديّ لذلكَ، حينَ أشارَ في إحدى مقابساتِهِ: " أنَّ الكلامَ على الكلامِ صعبٌ. … فإنَّهُ يدورُ على نفسِهِ، ويَلتَبِسُ بعضُهُ ببعضٍ". (التوحيدي، بلا تاريخ، ج2 :131)

 

فاللغةُ تتمثلُ في القواعدِ والأعرافِ والأنظمةِ التي تنبني عليها أيَّةُ لغةٍ مهما كانتْ ضمنَ قوانينَ خاصةٍ، وهذه القوانينُ هي التي يحتَذيها المتكلِّمونَ حينَ يُنتِجونَ الألفاظَ والتراكيبَ وحينَ يتَّبعُونَ أساليبَها منْ أجلِ أنْ يفهمَ السامعونَ ما يقولُهُ المتكلِّمون، فاللغةُ هيَ القالبُ الذي تنصبُّ فيهِ الألفاظُ. وهذهِ العمليةُ في كلِّيَّتِها هيَ منْ إنتاجِ الجماعةِ. أمَّا الكلامُ فهوَ ذلكَ النشاطُ الفرديُّ الذي يقومُ بهِ المتكلِّمُ حينَ يُنتِجُ نمطَهُ وتراكيبَهُ وأساليبَهُ، ويحكمُ المستمِعُ عليه استناداً إلى خبرتِهِ ومعرفتِهِ، ويقرِّرُ صوابَهُ أو خطأهُ، ومدى تناسبهِ معَ القواعدِ اللغويَّةِ المختزَنَةِ في العقلِ الجماعيِّ.

 

وبذلكَ يكونُ الكلامُ هوَ إعادةُ إنتاجٍ فرديٍّ للغةِ الجماعةِ حيثُ يعبّرُ المتكلِّمُ عنْ ذاتِهِ في سياقٍ معينٍ، وبذلكَ فإنَّ تعبيرَهُ هذا يكونُ خاصاً بهِ، ومعبِّرَاً عنْ وضعيتِهِ.

 

ولمَّا كانتْ الدراما (التي هيَ، هنا، مجالُ عملِنَا وبحثِنا أيضاً) واحدةً مِنَ الأنشطةِ الإنسانيةِ الأساسيةِ التي تشتملُ على اللُّغَةِ كواحدةٍ منْ مُكوِّناتِ فعلِهَا وفاعليتِها، حيثُ أنَّ "كلَّ حقولِ النشاطِ البشريِّ المتنوعةِ تتضمَّنُ استعمالاً للغةِ"Bakhtin, 1986: 60) ) فإنَّنا سنركّزُ على فاعليتِها في إنتاجِ الحوارِ، وعلى فاعليةِ الحوارِ في إنتاجِها أيضاً، ولكنَّنَا قَبْلَ ذلكَ كلِّهِ، علينا أنْ ننظرَ إلى الحوارِ مِنْ حيثُ كونِهِ كلاماً اتصاليَّاً؛ فحينما يجري الحديثُ عَنْ التَّلَفُّظِ، فإنَّهُ يتضمَّنُ ما يُنتجُهُ النشاطُ الإنسانيُّ في المجالِ اللُغويِّ سواءٌ أكانْ شفوياً أمْ كتابياً. وهوَ يُعْرَفُ، تحديداً، بكينونتِهِ التي تأتي على شكلِ تَلَفُّظَاتٍ فرديةٍ ملموسةٍ يمارسُها المشاركونَ في مجالاتٍ عديدةٍ منْ مجالاتِ النشاطِ الإنسانيِّ الاجتماعيِّ. فممارسةُ التَلَفُّظِ هي التي تُفضي إلى النمو اللغوي وتطوُّرِهِ، يؤكّد ابن سينا ذلكَ بقولِهِ عنْ نموِّ اللغةِ بأنَّهُ" يحصلُ بالمُداومةِ على التَلَفُّظِ بها لِتحصلَ مَلَكَةٌ "[1] (النجار والزريبي، 1985 : 186) ولذلكَ، فإنَّ هذهِ التَّلَفُّظَاتِ هي انعكاسٌ لظروفٍ وغاياتٍ محدَّدَةٍ، تتحققُ في كلٍّ منَ الحقلينِ التاليينِ: حقلِ ثيمة المحتوى ( thematic  content) وحقلِ الأسلوبِ اللغويِّ (linguistic style). وفي الحقيقةِ، فإنَّ ذلكَ الانعكاسُ لا يقتصرُ على هذينِ الحقلينِ بل يتجاوزْهُمَا إلى حقلٍ ثالثٍ ذي أهميةٍ بالغةٍ، وهوَ البنْيَةُ الإنْشَائيَّةُ (compositional structure).

 

إنَّ هذهِ المجالاتِ الثلاثةِ هيَ مجالاتٌ متلازِمَةٌ لا تنفصلُ عنْ بعضِها بعضاً، بل تتداخلُ، بصورةٍ تكامُليَّةٍٍ، فيما بينها في عمليةِ التَّلَفُّظِ بكليتَّها، ويتمُّ تصميمُها بما يتناسبُ معَ الطبيعةِ المحدَّدَةِ لمجالِ التواصلِ المحدَّدِ، فكلُّ تَلَفُّظٍ هوَ تَلَفُّظٌ فرديٌّ. ومِنْ خلالِ استخدامِ اللُغَةِ كنشاطٍ إنسانيٍّ دائمٍ ومُستَمرٍّ؛ فإنَّ هذا الاستخدامَ يُطوِّرُ، بشكلٍ نسبيٍّ، أنواعاً مُستقرَّةً مِنَ التَّلَفُّظَاتِ التي يُطلِقُ عليها (باختين) تعبيرَ " الأنواع الكلامية "(Speech Genres )[2].

 

وهذهِ التصنيفَاتُ الثلاثةُ لأنواعِ الكلامِ، وما يرتبطُ بها من مجالاتٍ تُساهِمُ في تكوينِهِا، وتؤثرُ فيها، تعتمدُ أيضاً على ثلاثةِ عناصرَ هيَ: مادةُ البحث (The Subject Matter)ِ، الحالةُ (Situation)، المشاركونَ (Participants). وحينَما يتناولُ (باختين) مسألةَ أنواعِ الكلامِ، فإنَّهُ، عملياً، يُدرِج تحتَهُ كلَّ أنواعِ الكلامِ سواءٌ أكانَ كلاماً شفوياً أمْ كلاماً مكتوباً، بما في ذلكَ الكلام بكلِّ أشكالِهِ وتجلياتِه أيضاً، سواءٌ أكانَ ذلكَ كلاماً يومياً يمارسُهُ الناسُ في حياتِهم اليوميةِ، ويصرِّفونَ من خلالِهِ شؤونهَمْ ( متضمناً "الردودَ في الحوارِ اليوميِّ" أيضاً ) أمْ كانَ في أشكالِ الكلامِ المتمثِّلَةِ في التعبيراتِ المعتمَدةِ في المجالِ العسكَّريِّ، والأعمالِ التجاريَّةِ أوْ غيرِها بما في ذلكَ أيضاً أنواعُ الكتابةِ بكلِّ صورِها ابتداءً منَ الحكمةِ والأمثولةِ وصولاً إلى الروايةِ متعدّدَةِ الأصواتِ[3]. وهو يَرى بأنها تتنوعُ اعتماداً على "مادةِ البحثِ، والحالةِ، والمشاركين" (Bakhtin, 1986 : 60,61).

 

قدْ يكونُ مِنَ الملائم أنْ يتمَّ توضيحُ ذلكَ عبرَ شكلٍ بيانيٍّ يُظْهِرُ العناصرَ وطبيعةَ علاقاتِها. إنَّ الشكلَ التالي هوَ محاولةٌ لتوضيحِ أنواعِ الكلامِ ومكوناتِهِ وما يُؤَثِّرُ فِيِه.

 

 
فكلُّ كلامٍ يَبني تَلَفُّظَاتِهِ عَبرَ موضوعِهِ وأسلوبهِ وبنيتِهِ، وهذهِ الأقانيمُ الثلاثةُ تتأثرُ، كما هو مُبَيَّنٌ في (الشكلِ 1)، بسياقٍ يُضافُ إلى البنيةِ الكلاميةِ ألا وهو البنية الاجتماعية له (المتمثلةُ بمادةِ البحثِ والحالةِ والمشاركين)؛ فهيَ ذاتُ تأثيرٍ فعَّالٍ في إنتاجِ أنواعِ الكلامِ. وفي مَعْرِضِ مناقشَتِهِ لأنواعِ الكلامِ، فإنَّ (باختين) يُقسّمُ أنواعَ الكلامِ إلى حقلينِ؛ حقلِ الكلامِ اليوميِّ الذي يُنتِجُهُ الأفرادُ عبرَ النشاطِ الإنسانيِّ في الأحوالِ الاعتياديةِ، وحقلِ الكلامِ الأدبيِّ الفنيِّ، ففي معظمِ أنواعِ الكلامِ غيرِ الفنيِّ فإنَّ "الأسلوبَ الفرديَّ لا يدخلُ في نِيَّةِ التَّلَفُّظِ، لا يعملُ كهدفِهِ الوحيدِ، لكنَّهُ، إذا جازَ التعبيرُ، هو ظاهرةٌ مُصاحِبَةٌ للتَّلَفُّظِ، وهو أحدُ نواتِجِه العَرَضيَّةِ. الأنواعُ المختلفةُ يمكنُ أنْ تكشفَ طبقاتٍ ومظاهرَ مختلفةً للشخصيَّةِ الفرديَّةِ، والأسلوبُ الفرديُّ يمكنُ أنْ ينوجدَ في العلاقاتِ المتبَادلةِ المتعددَةِ في اللغةِ الوطنيةِ." (Bakhtin, 1986 :63) بينما تمتازُ أنواعُ الكلامِ الأدبيِّ الفنيِّ بأنَّ المؤلفَ يتعاملُ معَ اللغةِ في عملِهِ الإبداعيِّ بصورةٍ مختلفةٍ حيثُ أنَّ "المؤلفَ هوَ خارجُ العَالمِ الذي يُصوِّرُهُ" ( 1986 : 117).

 

المؤَلِفُ يستطيعُ أنْ يقفَ خارجَ اللغةِ، وأنْ ينظرَ إليها مِنْ خلالِ مَسافةٍ ما، وأنْ يتعاملَ معَها ضمنَ سياقاتٍ متعدَّدةٍ، وبالتالي، فإنَّ النوعَ اللغويَّ الذي يُنشئهُ يمكنُ أن يعبّرَ عنْ شخصيتِهِ الفرديةِ أكثرَ مما قدْ تُعبِّرُ عنهُ أنواعُ الكلامِ التي يتمُّ إنتاجُها في سياقٍ غيرِ سياقاتِ الإنتاجِ الأدبيِّ الفنيِّ، فخطاباتُ الآخرينَ وأصواتُهُم أكثرُ حضوراً من تلكَ التي يتمُّ إنتاجُهُا في سياقِ النشاطِ الإنسانيِّ الحياتيِّ غيرِ الفنيِّ. ولا يتعارضُ هذا القولُ مَعَ مفهومِ التناصِ intertextuality))[4] كما قد يبدو للوهلةِ الأولى؛ فهذا المفهومُ يَنظرُ إلى النصِّ الذي يبدعُهُ المؤَلفُ في المجالِ الأدبيِّ على أنَّهُ، في حقيقتِهِ، مجموعةُ نصوصٍ أُخرَى آتيةً من نصوصِ آخَرينَ؛ فالنَصُّ يتحققُ منْ حَصيلةٍ ثقافيةٍ تراكميةٍ انبنتْ عبرَ تلاقحِ نصوصٍ عديدةٍ أفضتْ إلى إنتاجِهِ. النصُّ يُدينُ لغيرِهِ منَ النصوصِ أكثرَ مما يدينُ لصاحِبه، فكلُّ نصٍّ ينوجدُ في علاقتِهِ مَعَ نصوصٍ أخرى. (Kristeva, 1980 :69) ولذلكَ، فإنَّ (جوليا كريستيفا) حينما تَتحدثُ عنِ الكيفيَّةِ التي يَتشكَّلُ بها النصُّ، فإنها تقول: "كلُّ نصٍّ ينشأ كفُسيفساءَ من الاقتباساتِ؛ كلُّ نصٍّ هوَ امتصاصٌ لآخرَ وتحويلٌ لهُ" (Kristeva,1986 :37) ولذلكَ يغدو دورُ المؤَلِفِ، وكَما يراهُ (رونالد بارث) (Barthes, 1977)، في أنَّهُ يَضَعُ هذهِ النصوصَ في مواجهةِ بعضِها بعضاً، وهوَ عبرَ ممارستِهِ لفعلِهِ الإبداعيِّ يَستطيعُ أنْ يُنتِجَ نصَّهُ الفرديَّ الناتجَ مِنْ تفاعلِهِ معَ نصوصِ الآخرينَ، فالنصُّ "هوَ ... فضاءٌ متعددُ الأبعادِ حيثُ أنَّ الكتاباتِ المتنوعةَ، لا واحدَ منها أصليٌّ، هي تتمازجُ، وتتََصادمُ. فالنصُّ نسيجٌ منَ الاقتباساتِ... والكاتِبُ يُحَاكي فقط الإيماءاتِ التي هيَ دائماً سابقةٌ، وليستْ أصليةً أبداً. قوتُهُ فقطْ في مزجِ الكتاباتِ، في وضعِ إِحداها في مُواجهةِ الأُخرى، بطريقةٍ لا تُريحُ أيَّاً منها" (1977 :146).

 

وفي سِياقِ هَذا المفهُومِ، فإنَّ خَلْطَ الكتاباتِ بعضِها ببعضٍ يغدو عمليةَ تشكيلٍ لشكلٍ آخرَ جديدٍ لهذهِ النصوصِ، وبهذا يتحققُ الاختلافُ " فالاختلـ(ا) فُ (DifferAnce)[5] هوَ ... تَشكيلُ الشكلِ" (Derrida, 1976:63)؛ لعلنا نستطيعُ هُنا النظرَ فيما يقولُهُ أحدُ الكتّابِ مثلاً: "ليسَ لديَّ شعورٌ بأنني أنَا الذي أكتبُ كُتبي، لديَّ شعورٌ بأنّ كُتبي تُكْتَبُ عَبْري. . . ما كانَ لديَّ، الإحساسُ الشعوريُ بهويتي الشخصيِّةِ ولا زال. أبدو لنفسي كمكانٍ حيثُ أنَّ شيئاً مَا يَذهبُ إليِهِ، ولكنْ ليسَ هناكَ لا (أنا)، ولا (ي)[6] "(Wiseman & Groves, 2000 :173).

 

فالتَّناصُّ هُوَ فعلٌ يتحققُ عبرَ نوعينِ منَ التفاعلِ المتداخلَين: التفاعلِ الواعي الظاهريِّ المباشرِ والتفاعلِ الضمنيِّ الكامنِ اللاواعي، وهذا التفاعلُ الذي يحْدُثُ بينَ نصوصٍ عديدةٍ بنوعَيْهِ المندمجَينَ يُنْتِجُ في النهايةِ نَصَّاً جَديداً. إذنْ، فكلاهُما يُحقِّقُ وجودَهُ عبرَ علاقَتِهِ بآخرَ أوْ بآخرينَ؛ إنَّ وجودَ الآخرِ أو الآخرينَ هوَ جوهريٌّ لِمَا تُنتجُهُ الذاتُ سواءٌ أكانَ نصَّاً أدبيَّاً أمْ أيَّ كلامٍ آخرَ، ولذلكَ، فإنَّنا نَرى في الاقتباسِ السابقِ ما يشيرُ إلى أنَّ ما يؤلِفُهُ المُؤَلِفُ (وكأنَّهُ) تَأليفٌ يُنجِزُهُ الآخرُونَ، ولكنَّهمْ يُنجزونَهُ عبرَهُ، ويصلُ بهِ الأمرُ إلى أقصاهُ حينما ينتابُهُ شعورٌ بأنَّ ما يكتبُهُ، هوَ كتابةُ الآخرينَ الحاضرينَ، وهوَ الغائبُ. لكنَّهُ في استِخدامِهِ لكلمتَيْ "الإحساسِ" و "عَبري" يترَاءى لنَا المِفتاحُ الذي يَحُلُّ هذهِ الإشكاليةِ. فـ"الإحساسُ"، على أهميتِهِ، يَبقى أحدَ عَناصرِ الحُكْمِ فقط، وليسَ جميعهَا، وكذلكَ، فإنَّ في تعبيِر "عَبري" ما يَعكسُ بصورةٍ واضحةٍ تعبيَر تلكَ الذاتِ التي يمرُّ الكلامُ عبرَهَا. ألا يغدو الأمرُ مُلتَبسَاً؟! لعلَّ نشوءَ هذا الالتباسِ عائدٌ إلى أنَّ الأمرَ يَدفعُ بنا إلى التساؤلِ: أينَ (الأنَا)؟! وأين (الآخرُ)؟!. منَ المفيدِ هنا الرجوعُ إلى (باختين) مرةً أخرى كي نرى أينَ تتواجدُ هذهِ (الأنَا) منْ وجهةِ نظرِهِ: " الأناَ تحتجبُ في الآخر،ِ وفي الآخرينَ: إنها تريدُ أنْ تكونَ، ولكنْ كَـ أنا أُخرى لآخرينَ، منْ أجلِ اختراقِ عَالَمِ الآخرينَ بالكاملِ كآخرَ، وأنْ تُزِيحَ عَنْها جانباً ثِقَلَ أنا فريدةٍ في كلمةِ (أنَا – لِذَاتي)[7] "[8] (Todorov, 1984: 97).

 

الأنَا كتعبيرٍ صافٍ دونَ وجودٍ للآخَرَ، لا وجودَ لها؛ فالوجودُ الحقيقيُّ لـ (أنَا) هوَ في وجودِ (آخَرِ)، وبوجودهِ ِتستطيعُ (أنَا) أنْ تَكتسبَ صورتَهَا التي هيَ عبارةٌ عنْ خليطٍ مُتشابكٍ مُتشعبٍ لا فكاكَ مِنْهُ. فـ (الأنا) تعني وجودَ (الأنت)، ووجودَ (الأنت) يعني وجودَ (الأنا).

 

إنَّ إدراكَ الذاتِ الإنسانيّةِ الفرديّةِ، ومعرفتِها، يتطلبُ، إذنْ، إدراكاً للآخَرِ، ومعرفةً بهِِ، وبالتالي، فإنَّ الفعلَ الذي تمُارسُهُ (الأنا) هو الذي يحددُ طبيعةَ علاقتِهَا (بالآخَرِ)، فإذا ما كانتِ الذاتُ اجتماعيةً مُنفتحةً أمامَ الآخَرينَ، فإنَّ هذهِ العلاقةَ ستُمَكِّنُ صاحِبَها مِنْ أنْ يرى ذاتَهُ، ويَكتشفَ وعيَهُ؛ فوعيُ الفردِ مُصاحِبٌ لوعيِ آخرَ. أمَّا إذا كانتْ هَذهِ الذاتُ مُنغلقةً ومُنعزلةً عنِ الآخَرين، فإنها لنْ تتمكنَ منْ اكتشافِ ذاتِهَا، وستتيه؛ لأنَّها ستعرفُ عن ذاتِها ما يمكنُ معرفَتُهُ في حضور (أنا) آخَرُها غائبٌ عنها، فالتواصلُ الفعّالُ الذي يحفرُ في طبقاتِ الوجودِ الإنسانيِّ كائنٌ في طبيعةِ الوجودِ الإنسانيِّ، وسمةٌ من سماتِهِ التي لا مَناصَ مِنها، وهذا التواصلُ يتحققُ، بصورةٍ مُتبَادَلةٍ، بينَ ذاتٍ وأخرى، تَرى كلٌّ مِنهما في الأخرى وجُودَها. إنَّ هذا التفسيرَ يَنطلقُ بنا إلى مجالٍ آخرَ مُتَّصِلٍ بهذا الموضوعِ منْ زاويةٍ أخرى، إنَّهُ يأخذُنا إلى موضوعٍ مُتَعلِّقٍ بماهيةِ كلامِنا، وماهيةِ كلامِ الآخَرينَ، يأخذُنا إلى نصِّنَا، وإلى نصوصِ الآخَرينَ؛ ولذلكَ، فإنَّ سؤالاً مِنْ قَبيلِ: أينْ يَنتهي كلامُنَا وأينَ يبدأُ كلامُ الآخَرين؟ يبدو ضَرورياً.

 

إذا مَا كانَ كلامُنَا، كما كُنتُ قدْ أشرْتُ آنفاً، هوَ كلامٌ تناصيُّ السِمَاتِ، فأينَ يبدأُ؟ وأينَ ينتهي؟ لعلَّهُ مِنَ المفيدِ الإشارةُ هُنا إلى أنَّ ما نُنتجُهُ من كلامٍ هوَ تَلَفُّظٌ يَكتسبُ وجودَهُ منْ تَلَفُّظٍ يسبقُهُ، ويُصبحُ، بالتالي، تَلفُّظَاً موجوداً لتَلَّفُظٍ سَيستجيبُ لهُ لاحقاً؛ فكلُّ التَّلَفُّظَاتِ مُتَّصِلَةٌ ببعضِهَا البعضِ، وهيَ سِلسلةٌ منَ الحواراتِ التي يستجيبُ بعضُها لبعضٍ "فكلُّ تَلَفُّظٍ يجبُ أنْ يُعتَبَرَ، أساساً، كَرَدٍّ على تَلَفُّظٍ سابقٍ في المجالِ المُعْطَى" (Bakhtin,1986 :91 فالتَّلَفُّظُ هوَ جزءٌ من سياقٍ كلاميٍّ ليسَ مُنْبَتَّاً عمَّا قبْلَهُ، وليسَ مُنْقَطِعَاً عمَّا بعدَهُ أيضاً، وكلُّ كلامٍ، بهذا المعنى، هو دائماً تَلَفُّظٌ جديدٌ، يحملُ دلالةً جديدةً ومعنىً مخُتلفاً، "فلا جملةٌ واحدةٌ، وإنْ كانتْ كلمةً واحدةً فقط، يمكنُ أنْ تتكررَ أبداً: دائماً هيَ تَلَفُّظٌ جديدٌ (وإنْ كانتْ اقتباساً)" (1986 :108).

 

فالكلامُ يتغَّيرُ عبرَ تَغيُّرِ السياقاتِ التي يُنْتَجُ فيها، وكلَّمَا أردْنَا إنتاجَ دلالةٍ جديدةٍ نريدُها، أوَ أردنا أنْ نُعمِّقَ دلالةً ما نتغياها؛ فإنَّ ذلكَ مُمكنٌ عبرَ تغييرِ مواضيعَ التَّكَلُّمِ وتغييرِ المتكلمينَ، وإذا ما كانَ أيُّ تَلَّفُّظٍ سَيُصْبحُ تَلَفُّظَاً جديداً ليسَ مَكروراً حينَ يُتَلَفَّظُ بهِ ضمنَ حالةٍ مُعَيَّنَةٍ، وفي زمانٍ ما، وفي مكانٍ مَا، فإنَّ إنتاجَ كلامٍ جديدٍ أكثرَ قدرةً على التعبيرِ عنْ فَردّيةِِِ المرءِ في سياقِ وجودِهِ الاجتماعيِّ يغدو أمراً مُمْكِنَاً كُلَّمَا ابتعدنا، أكثرَ فأكثرَ، عنْ أنواعِ الكلامِ المُستهلَكَةِ أو القياسية ِstandard)) واتجَهْنا إلى كلامٍ أدبيٍّ فنيٍّ ينُتِجُهُ مُؤَلِفٌ يَستطيعُ أنْ يُبْدِعَ كَلاماً أدبيّاً فيِهِ مِنَ الأسلوبِ الفرديِّ ما يمنحُهُ فرادةً مَا. "فالكاتبُ هوَ الشخصُ القادرُ على العملِ في اللغةِ بينما هوَ واقفٌ خارجَهَا، وهوَ الشخصُ الذي لديِهِ مَوهبةُ الكلامِ غيرِ المُباشرِ" (110).

 

يَتمكنُ المُؤَلِفُ عبرَ مقدرَتِهِ على الوقوفِ خارجَ اللغةِ، وعبرَ استخدامِ التَّكَلُّمِ غيرِ المباشرِ منْ أنْ يَتعاملَ معَ اللغةِ بأفقٍ يمكِّنُهُ منْ تطويعِها، ومنْ إنتاجِ الكلامِ المُلائمِ في السياقِ المُلائمِ، وهذا يَعني تحديداً أنَّ هُنالكَ إمكانيةً لإنشاءِ خطاباتٍ مُتنوعَةٍ ومنْ زوايا مختلفةٍ. وهذا ما منحَنَا إياه (باختين) في تحليلِهِ لأعمالِ الروائي (ديستويفسكي) (Dostoevsky) التي رَأى بأنَّها سَتمنحُ مُستقبلَ الكتابةِ الإبداعيَّةِ خَطَّاً مُتعمِقَاً يجاورُ الخطوطَ الإبداعيَّةَ الأُخرى، وهوَ الاهتمامُ، أكثرَ فأكثرَ، بتعدديَّةِ الأصواتِ (polyphony). "بعدَ (ديستويفسكي)، ظَهَرتْ تعدديةُ الأصواتِ بقوةٍ في كلِّ عَالَمِ الأدبِ." (112) ومِنَ الصحيحِ أنَّ (باختين) حينَما اشتغلَ على تعدديَّةِ الأصواتِ في العملِ الروائيِّ لديستويفسكي، كانَ يشتغلُ على جنسٍ أدبيٍّ روائيٍّ، ولكنَّهُ مِنَ الصحيحِ أيضاً أنَّهُ مَنحَنا إمكانيةَ توظيفِ هذهِ المقاربةِ في سياقاتٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وفنيةٍ أخرى، فنظريَّتُهُ حولَ تعدديَّةِ الأصواتِ، وبخاصةٍ في مجالِ الحوارِ، فيها الكثيُر منَ الإيحاءاتِ التي يبدو توظيفُها في سياقاتٍ عامةٍ مُجدياً ومُثْرِيَاً للعملِ الذي نشتغلُ فِيِه أوْ عليِه. فالجوهريُّ في مقاربَتِهِ يتمثلُ، وكما أشرنَا آنِفَاً، إلى أنَّ الفردَ في وجودِهِ ووعيِهِ ليسَ مُكتفياً بذاتِهِ، بل هو دائماً يَستجيبُ في كلامِهِ وسلوكِهِ لِمَا يقولُهُ آخَرٌ أو يُفكِّرُ فيِهِ، وفي هذا يتجسَّدُ الحوارُ.

 ***

مراجع وهوامش


 


[1] - نقله المؤلفان عن شهاب الدين الخفاجي في كتابه (طراز المجالس)[1] الذي صدر عن المطبعة الوهبية، القاهرة 1284 (النجار والزريبي، 1985 : 774)

[2] - له كتاب بعنوان "Speech Genres and Other Late Essays"

[3] - فالرواية يمكن تعريفها على أنها أنماط متنوعة من الخطاب الاجتماعي، وتشتمل على تنويع في اللغة وفي الأصوات الفردية المنظمة فنيّاً.

[4] - استخدمت (جوليا كريستيفا) هذا المصطلح السيميائي(intertextuality) للتعبير عن إحالة النصوص إلى مرجعية في ضوء إحداثيين: أفقي مرتبط بمؤلف النصّ وقارئه، وعمودي يربطُ النصَّ بالنصوص الأخرى. (Kristeva، 1980 : 69)

[5] - "DifferAnce" سكَّ دريدا هذا المصطلح ليلمح إلى كل من كلمتي'difference' و 'deferral'، ففي اللغة الفرنسية يظهر الفرق في كتابة "difference" فقط. مضيفاً إلى مفهوم سوسير لمصطلح "معنى" بحيث يكون تفاضلياً (مؤسساً على الاختلافات ما بين العلامات) المصطلح يذكرنا بأن العلامات أيضاً تُرجِئ عرضَ ما تدّل عليه عبر بدائل لانهائية للدوال. كل مدلول هو أيضاً دالٌ: فلا تملص من نظام العلامات. والمعنى يعتمد على الغياب بدلاً من الحضور. (Daniel, 2002).    وهو في هذا السياق تعبير  يحتمل دلالتين الأولى ترتبط بالتأجيل إلى ما بعد وبأخذ الزمن والقوى بعين الاعتبار، والثانية ترتبط بالتباين وبأنه غير مطابق، فهو ليس آخر. (لابورت، 1991 : 37، 38) 

[6]- there is no "I", no "me".   Meهي ضمير المفرد المتكلم في حالة النصب أو الجر :

[7] -(the I-for-myself)

[8] - هذا النص يقتبسه تودوروف من باختين، المرجع هو:

M. Bakhtin, "Iz zapisej 1970-71 godov” [Extracts from notes from the years 1970-71]. In (42) p. 352 

[9] -the man in man”

[10] - الحوارية (DIALOGISM): باتت الحوارية فكرة شعبية على نحو متزايد جدا، غالبا ما تفهم ببساطة كتعددية صوتية، لكن المفهوم كان قد قدّم، في الحقيقة، في كتاب (ميخائيل باختين) "الخيال الحواري" (The Dialogic Imagination) كجزء من نقد علم اللغة السويسري (نسبة إلى سوسير). اعتقدَ (باختين) بأن نظام سوسير كان نظاماً مجرداً من السياق الاجتماعي، وقد جادل في ذلك، بأنّ تلفظات المتكلّم كانت دائما موجهة نحو آخرين، الذين ينتجون تلفظاتهم المقابلة تباعاً، مقابِلة، كما في الحوار، بدلا من امتلاك أهمية ثابتة نسبيا، الإشارة كانت أكثر من تغيير في المجال، كانت مركز التنازع بين متكلمين بأصوات مختلفة. أو بالأحرى، لأن هذه الأصوات تنتج بواسطة الظروف الاجتماعية المختلفة. ولذلك، فالحوار أيديولوجي بشكل كبير. هناك كلّ أنواع الفنانين الذي يمكن أن تناقش أعمالهم بالعلاقة مع ذلك (Belton, 2002 ).

[11] - الهيتروجلوسيا: "ألسنة مختلفة " أو"كلام الآخرين". سكَّ (باختين) هذه الكلمة لوصف الأصوات المتعدّدة في نصّ. (Belton, 2002 ) بمعنى آخر هي تعبير عن تواجد العديد من اللغات في لغة اجتماعية واحدة. وفي الوقت الذي تصف فيه الهيتروجلوسيا اللغات ذاتها فإن الحوارية تصف كيفية تفاعل اللغات مع بعضها.

[12] - التذويت هو منح سمة ذاتية لما يدمجه الفرد في داخله من قيم أو أنماط ثقافية، بحيث تعمل هذه القيم والأنماط بصورة واعية أو غير واعية خلال عملية التعلم الذاتي أو الاجتماعي.

[13] - إنتاج المعنى أو اشتقاقه من علاقات متداخلة بين نص وغيره من النصوص.

[14] - التعاريف التقليدية للأنواع تميل إلى أن تكون مستندة على المفهوم الذي تتشكّل منه أعراف معيّنة من الشكل والمحتوى المشتركة في النصوص التي تنتمي إليها. النصّ الفردي ضمن نوع هو نادر إذا ما كانت له كلّ السمات المميزة للنوع. والنصوص تعرض أعرافَ أكثرِ من نوعٍ واحد في أغلب الأحيان. تميل السيميائية إلى إعادة تعريف النوع بالتركيز على أن سمات النصوص ضمن النوع تُرسَمُ بشفرات مشتركة، ويتمُّ توَّظَيفها بغية أن يقوم  القرّاء باستعمال أساليب معيّنة من التوجه باتجاهها. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن منظري ما بعد الحداثة يميلون إلى إهمال الاختلافات بين الأنواع. (Daniel, 2002)