كتبها تولستوي في العام 1862

وعرّبها: نور الدين شبيطة في العام 2024 

 

بين صفحات المجلد الرابع من مجلة "ياسنايا بوليانا"، أفلتت قصة قصيرة بعنوان "تاريخ إخافة صبيّ في تولا" فوجدت طريقها إلى قسم كتابات الأطفال، وذلك بسبب هفوة تحريرية عابرة. والحق يُقال، إن هذه القصة لم تكن من نسج خيال صبيّ، بل هي من وحي حلم راود المعلم ذات ليلة، فنسج خيوطه وقصّه على مسامع الصبية. وقد أثارت هذه الهفوة حفيظة بعض قراء المجلّة الأوفياء، فراحوا يتساءلون عن مدى صحة نسبة هذه القصة إلى أحد الصبية.  

وإزاء هذا اللبس، أجدني ملزمًا بتقديم اعتذاري الصادق لقرائي الكرام عن هذه الهفوة غير المقصودة. ولعل في هذا الموقف فرصة سانحة لأشير إلى مدى استحالة تزييف هذا النوع من الأعمال الإبداعية. فقد افتضح أمر هذه القصة، ليس لتفوقها على غيرها، بل لأنها كانت أدنى - بما لا يُقاس - من جميع كتابات الأطفال الأخرى. أما بقية القصص، فكانت بحق من بنات أفكار الأطفال أنفسهم، تنضح بعفويتهم وتحمل بصمات براءتهم.

ومن بين تلك القصص، برزت اثنتان بصورة خاصّة: "يأكل بملعقتك لكنه يفقأ عينيك بمقبضها" و"الحياة في بيت جندي". وقد جاء تأليف هاتين القصتين على النحو الآتي:

إن جوهر براعة المعلم في تدريس فنون اللغة، وأهم تمارينه لبلوغ هذه الغاية، يكمن في اختيار المواضيع المناسبة أثناء تدريب الأطفال على كتابة الإنشاء. ولا يقتصر الأمر على مجرد طرح العناوين فحسب، بل يتعداه إلى إيجاد تنوع ثري في المواضيع، وتحديد أبعاد الإنشاء بدقة، والإشارة إلى العمليات الأساسية في الكتابة الإبداعية.

 

لقد لاحظت أن العديد من التلاميذ الأذكياء والموهوبين كانوا يكتبون نصوصًا لا ترقى إلى مستوى مواهبهم؛ فكانت كتاباتهم أشبه بسرد جاف لأحداث متتالية:

 

"اندلع الحريق، فهرع الناس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بينما ركضتُ أنا إلى الشارع."

 

ورغم ثراء الموضوع وقدرته على ترك انطباع عميق في نفوس التلاميذ، إلا أن النتيجة كانت مخيبة للآمال، تفتقر إلى الحياة والعمق. كان يفوتهم الجوهر: لماذا يكتبون؟ وما الغاية من وراء الكتابة؟ لم يدركوا بعد سحر فن التعبير عن الحياة بالكلمات، ولم يستشعروا روعة هذا الفن الرفيع.

 

وكما أشرت سابقًا في العدد الثاني من المجلة، فقد خضت غمار تجارب متنوعة في طرح المواضيع. حاولت سبر أغوار ميولهم، فطرحت عليهم مواضيع شتى: واضحة وفنية، مؤثرة وهزلية، بل وحتى ملحمية. لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل. والآن، دعوني أروي لكم كيف اهتديت إلى الطريقة الصحيحة بمحض الصدفة.

 

لطالما كانت قراءة مجموعة الأمثال التي جمعها سنيجيريف إحدى هواياتي المفضلة، بل أكاد أقول إنها ضمن شغفي الدائم. فكل مثل كان يستحضر في مخيلتي صورًا حية لشخصيات من عامة الناس وأفعالهم، تتجسد أمامي وفقًا لمغزى المثل. ومن بين أحلامي التي كنت أعتبرها مستحيلة التحقيق، راودتني فكرة كتابة سلسلة من القصص أو المسرحيات مستوحاة من هذه الأمثال الشعبية الثرية.

 

وفي إحدى أمسيات الشتاء الماضي، وبعد أن أنهيت غدائي، وجدت نفسي منهمكًا في قراءة كتاب سنيجيريف. وإذ كنت على وشك التوجه إلى المدرسة، قررت أن آخذ الكتاب معي. وبينما كان درس اللغة الروسية في أوجه، خطرت لي فكرة.

 

"والآن،" قلت للتلاميذ، "أريدكم أن تكتبوا لي شيئًا عن أحد الأمثال."

 

وما إن نطقت بهذه الكلمات، حتى رأيت آذان أفضل التلاميذ - فيدكا وسيمكا وغيرهما - قد شُنّفت، وكأنها تلتقط كل همسة.

 

"ماذا تقصد بـ 'عن مثل'؟" "ما هذا؟" "أخبرنا المزيد!" تعالت أصواتهم بالاستفسارات.

 

وإذ فتحت الكتاب عشوائيًا، وقع نظري على المثل القائل: "يأكل بملعقتك ويفقأ عينيك بمقبضها."

 

فشرعت أشرح لهم قائلاً: "تخيلوا أن فلاحًا آوى متسولًا عجوزًا في بيته. وبعد أن نال المتسول من كرم مضيفه وإحسانه، انقلب عليه وراح يسبه ويشتمه. أليس هذا مثالًا حيًا على من يأكل بملعقتك، ثم يفقأ عينيك بمقبضها؟"

 

"حسنًا، كيف ستكتبون عن هذا الموقف؟" سألت فيدكا وبقية التلاميذ الذين كانوا يصغون باهتمام بالغ. لكنهم سرعان ما استسلموا، مقتنعين بأن هذه المهمّة تفوق قدراتهم، فعادوا إلى ما كانوا منهمكين فيه من قبل.

 

"لماذا لا تكتبها أنت لنا؟" اقترح أحدهم.

 

كان الجميع مشغولين بأعمالهم، فتناولت القلم والمحبرة، وشرعت في الكتابة.

 

"حسنًا،" قلت لهم، "من منكم يظن أنه يستطيع كتابتها بشكل أفضل؟ دعونا نتنافس معًا."

 

وهكذا بدأت في كتابة القصة التي نُشرت لاحقًا في العدد الرابع من مجلة "ياسنايا بوليانا"، وأنهيت الصفحة الأولى.

 

وهنا أود أن أقول إن أي قارئ محايد، يتمتع بحس فني وإدراك للهوية القوميّة، سيميز بسهولة هذه الصفحة التي كتبتها عن بقية صفحات القصة التي كتبها التلاميذ أنفسهم. ستبدو وكأنها ذبابة سقطت في وعاء من الحليب، فهي مصطنعة وزائفة ومكتوبة بأسلوب ركيك لا يليق. وتجدر الإشارة إلى أنها في صورتها الأولى كانت أسوأ بكثير، وقد تحسّنت كثيرًا بفضل اقتراحات التلاميذ وتعديلاتهم.

 

كان فيدكا يرفع نظره من دفتر ملاحظاته إليّ باستمرار، وكلما التقت أعيننا، كان يبتسم ويغمز قائلاً: "اكتب، اكتب! سأريك ما أستطيع فعله!"

 

كان من الواضح أنه كان مفتونًا برؤية شخص بالغ يخوض غمار كتابة إنشاء مثله. وبعد أن أنهى كتابة إنشائه، بعناية أقل وعجلة أكبر من المعتاد، انحنى فوق ظهر كرسيي، وشرع في القراءة من فوق كتفي. لم أعد قادرًا على مواصلة الكتابة؛ فقد انضم إلينا آخرون، وبدأت في قراءة ما كتبته بصوت عالٍ. لكن المفاجأة كانت أنه لم ينل إعجابهم؛ فلم يمتدحه أحد منهم.

 

شعرت بالإحباط، ورغبةً مني في تهدئة غروري الأدبي الجريح، بدأت أشرح لهم خطتي لما سيأتي في القصة. وبينما كنت أسرد عليهم تفاصيل الحبكة، وجدت نفسي منجرفًا مع تيار الأحداث. شعرت بتحسن في مزاجي، وإذا بالتلاميذ يبدؤون في تقديم اقتراحاتهم وأفكارهم.

 

اقترح أحدهم أن يكون الرجل العجوز ساحرًا.

 

"لا، هذا غير ضروري،" رد آخر، "يجب أن يكون مجرد جندي عائد من الحرب."

 

"ما رأيكم لو جعلناه يسرق من الذي أحسن إليه؟" اقترح ثالث.

 

"لا، هذا لن يتماشى مع روح المثل،" اعترض الآخرون.

 

كان الجميع منخرطين في النقاش بحماس بالغ. كان من الواضح أنهم وجدوا في هذه التجربة شيئًا جديدًا ساحرًا: فرصة لمشاهدة عملية التأليف عن كثب والمشاركة فيها. كانت آراؤهم في معظمها قيّمة متقاربة، سواء فيما يتعلق ببناء القصة أو تفاصيلها أو سمات الشخصيات.

 

شارك الجميع تقريبًا في نسج خيوط القصة، لكن منذ البداية برز سيمكا الإيجابي بصورة خاصّة بدقة وصفه الفني، بينما تميز فيدكا بصدق تصويراته الشعرية، وأكثر من ذلك بحيوية خياله وقوته. كانت انتقاداتهم وآراؤهم مدروسة منطقية لدرجة أنني، في أكثر من مناسبة، وجدت نفسي مضطرًا للاستسلام أمام وجهات نظرهما عندما كنت أجادل الأطفال.

 

كنت أتوق إلى أن تكون الدقة في النسج، والتناغم الوثيق بين الفكرة والمثل، حجرَ الزاوية في بناء القصة. أما الأطفال، فقد انصرفت همتهم إلى الجمال الفني وحده، كأنما كانوا يسعون وراء سراب الإبداع الخالص.

 

أردت، في غمرة حماسي، أن أجعل الفلاح الذي آوى المتسول العجوز يندم على صنيعه الطيب. غير أن خيالهم الجامح أبى إلا أن يسلك مسلكًا آخر، فاقترحوا إدخال امرأة شرسة الطباع إلى مسرح الأحداث، كأنها شوكة في خاصرة القصة.

 

حاولت استمالتهم إلى رأيي قائلاً: "في مستهل الأمر، اعتصر قلب الفلاح ألمًا على حال المتسول البائس، ثم ما لبث أن عضّ أنامل الندم على ما تصدّق به من قُوته."

 

لكن فيدكا، بحدة ذهنه المعهودة، ردّ عليّ بسرعة سهم: "هذا ضرب من الهراء! أنّى لرجل أبى الانصياع لزوجته منذ البدء أن تلين قناته الآن؟"

 

وإذ أدركت عمق تفكيره، سألته متلهفًا: "حسنًا، ما هيئة الرجل الذي يجول في خاطرك إذن؟"

 

ابتسم فيدكا ابتسامة عذبة وقال: "إنه يشبه العم تيموفي في كل شيء. لحيته خفيفة كنسمات الصباح، يتردد على الكنيسة كما يتردد النحل على أزهاره التي يرعاها بحبّ جمّ."

 

"أتعني أنه رجل طيب القلب، ولكنه صلب العود كشجرة السنديان؟" قلت، محاولاً سبر أغوار الصورة التي رسمها بريشة خياله.

 

"هذا هو عين ما أقصد،" أكد فيدكا بنبرة واثقة، "ولهذا السبب بالذات لن يحيد عن رأيه، ولو هبت عليه رياح زوجته العاتية."

 

ومنذ اللحظة التي أبصرتْ فيها شخصية الرجل العجوز النور في قصتنا، انطلقت عجلة الإبداع بسرعة تفوق الخيال. هنا، وللمرة الأولى، بدا جليًا أنهم بدؤوا يتذوقون شهد الكتابة، وكأنهم اكتشفوا كنزًا دفينًا من المتعة في تحويل خيالاتهم إلى كلمات منسوجة بخيوط من ذهب.

 

في هذا الغمار، تألق سيمكا نجمًا ساطعًا في سماء الإبداع؛ فقد تدفقت من ينابيع خياله تفاصيل نابضة بالحياة، الواحدة تلو الأخرى، كأنها قطرات الندى على أوراق الورد في صباح ربيعي. بيد أن العيب الوحيد الذي شاب إبداعه هو أن هذه التفاصيل كانت أشبه بلوحات منفصلة، تصوّر كل منها لحظة بعينها، دون أن تنسج خيطًا يربطها بالنسيج العام للقصة.

 

لم أشأ أن أكبح جماح إبداعهم المتدفّق، على العكس، رحت أحثهم على التأنّي والتمهّل، كمن يقطف ثمار الحكمة بصبر وأناة. حرصت على تذكيرهم بألا ينسوا ما سبق أن نسجوه من خيوط القصّة، حتّى لا ينفرط عقد إبداعهم بين يدي النسيان.

 

بدا الأمر وكأن سيمكا يرى ما يجري أمام عينيه، فيصفه بدقة متناهية: الأحذية الخشبية المغطاة بالجليد المنصهر، وقطرات الطين المتساقطة منها كلما دفئت، والخبز الذي تحول إلى ما يشبه البسكويت الجاف حين وضعته المرأة في الفرن لتجفيفه.

 

أما فيدكا، فكان على النقيض تمامًا. كان يرى فقط تلك التفاصيل التي تثير في نفسه مشاعر عميقة، كتلك التي قد يختبرها المرء عند رؤية شخص حقيقي أمامه. رأى فيدكا الثلج الذي التصق بتجاعيد ساقي الرجل العجوز، وكأنه يشعر بوخزات البرد في قدميه هو. استشعر الشفقة التي ألهمت الفلاح ليقول بنبرة متألمة:

 

"يا إلهي! كيف استطاع المشي في هذا البرد القارس؟"

 

بل إن فيدكا ذهب إلى أبعد من ذلك، فراح يجسد بحركاته وإيماءاته الطريقة التي نطق بها الفلاح هذه الكلمات؛ ملوحًا بيده وهازًا رأسه في حركة تنم عن الأسى والتعاطف. رأى في مخيلته معطف الرجل العجوز الرقيق الممزق، وقميصه البالي، الذي ظهر من تحته جسده الهزيل المبلل بندف الثلوج الذائبة.

 

وكأنه يرسم لوحة حية، تخيل فيدكا المرأة، وهي تطيع أمر زوجها متذمرة، تخلع عن قدمي الرجل العجوز حذاءه الخشبي. سمع في أذنيه أنين الرجل المؤلم، وهو يتمتم بين أسنانه:

 

"رفقًا يا بنيتي؛ قدماي تؤلمانني بشدة!"

 

هكذا تباينت رؤى الصبيين للمشهد الواحد. فبينما كان سيمكا يسعى وراء الصور المشهودة المجردة - الأحذية الخشبية، المعطف الرقيق، الرجل العجوز، المرأة الفلاحة - دون أن يُعنى كثيرًا بنسج خيوط الترابط بينها، كان فيدكا يغوص في أعماق المشاعر الإنسانية، ساعيًا للتعبير عن ذلك الشعور بالشفقة الذي غمر قلبه هو.

 

استرسل فيدكا في نسج خيوط القصة، وكأنه يغزل من خيال الصبا ثوبًا للحياة. تحدث عن كيفية إطعام الرجل العجوز، وكيف أنه سيعاني المرض في جوف الليل، ثم كيف سيعلّم الصبي القراءة في الحقل لاحقًا. كان حماسه يفيض كنهر جارف، حتى وجدت نفسي مضطرًا لتذكيره بألّا يتعجل وألّا ينسى ما قد سبق أن ذكره. كانت عيناه تلمعان بدموع تترقرق ولا تنزل، كأنها نجوم تتلألأ في سماء خياله الواسعة. يداه النحيفتان، المتسختان بحبر الكتابة، كانتا تنقبضان بتوتر عصبي، كأنهما تحاولان الإمساك بخيوط القصة المتطايرة. كان متلهّفًا، لا يكفّ عن أزّي لأستمرّ: "هل كتبت ذلك؟ هل كتبت ذلك!" كان يسألني دون توقّف، وكأنه يخشى أن تفلت منه لحظة من لحظات الإلهام.

 

كان في غضبه الإبداعي أشبه بملك متوج على عرش الخيال، مستبدًا في علاقته مع الآخرين. أراد أن يكون الوحيد الذي يتحدث - ليس أن يتحدث كما يتحدث الناس في حياتهم اليومية، بل أن يتحدث كما يكتبون، أو بالأحرى، أن يعبّر فنيًا بالكلمات عن صور الشعور المتدفّقة داخله. على سبيل المثال، لم يكن يسمح بتغيير ترتيب الكلمات، بل كان حريصًا جدًا على ترتيبها بعناية فائقة، كأنه ينظم عقدًا من اللؤلؤ.

 

كانت روحه في تلك اللحظات قد لانت ودبّ فيها شعور الشفقة - أو قل الحبّ إن شئت الدقّة - وراحت تصوّر كل شيء في قالب فني بديع، رافضة بإباء كل ما لا يتوافق مع رؤيتها للجمال والانسجام الأبديين.

 

ما إن انجذب سيمكا إلى وصف تفاصيل قد تبدو غير متناسقة - كالحملان المزروبة في الزاوية قرب الباب - حتى انتفض فيدكا كالأسد الجريح، قائلاً بنبرة حازمة:

 

"كفى يا هذا! ما هذا الهراء الذي تتحدث عنه؟"

 

كان يكفي أن أقترح أي شيء - كأن أسأل عما كان يفعله الفلاح، بينما ذهبت زوجته إلى جارتها - حتى ينطلق خيال فيدكا كفرس جامح، راسمًا صورة حية للحملان، وهي تثغو بالقرب من الباب، والرجل العجوز وهو يتنهد بعمق، والصبي سيروجا وهو يهذي في نومه. وما إن أقترح بعض التفاصيل المصطنعة أو الزائفة في الصورة، حتى يثور غضبه كبركان هائج، معلنًا باستياء شديد أنها لم تكن ضرورية على الإطلاق.

 

ذات مرّة، اقترحت عليه أن يصف المظهر الخارجي للفلاح بتفصيل أكبر. وافق على مضض، لكن عندما اقترحت أن يصف ما كان يدور في خلد الفلاح، بينما كانت زوجته عند الجار، أثار ذلك في ذهنه فكرة غريبة:

 

"آه! أيتها المرأة!" صاح فيدكا، متخيلاً كلمات الفلاح، "لو قابلت روح سافوسكا الراحل، لمزق شعرك شرّ ممزّق!"

 

نطق فيدكا هذه الكلمات بنبرة متعبة هادئة، لكنها كانت في الوقت نفسه جادة بصورة طبيعيّة وطيبة القلب. كان يسند رأسه إلى يده وهو يتحدث، في مشهد أثار ضحكات الأطفال الآخرين، كأنهم شهدوا مسرحية كوميدية صغيرة.

 

كان الإحساس بالتناسب - ذلك الشرط الأساسي لكل فن - متطورًا بشكل استثنائي لدى فيدكا. كان ينزعج بشدة من أي اقتراح زائد يقدمه أي من الصبية الآخرين. أخذ على عاتقه توجيه بناء هذه القصة بطريقة حازمة، مطالبًا بحقه في أن يكون القائد الملهم لهذه الرحلة الإبداعية. وفي غضون وقت قصير، عاد بقية الصبية إلى منازلهم، تاركين فيدكا وحده مع سيمكا، الذي لم يستسلم لسلطة فيدكا الأدبية، رغم أنه كان يعمل بطريقة مختلفة تمامًا.

 

عملنا من السابعة مساءً حتى الحادية عشرة ليلاً، في جلسة إبداعية مكثفة لم يشعر خلالها الأطفال بالجوع ولا بالتعب. بل على العكس، كانوا في غاية الاستياء مني عندما أشرت إلى ضرورة التوقف عن الكتابة. حاولوا بعد ذلك أن يتناوبوا على الكتابة بأنفسهم، لكنهم سرعان ما أدركوا أن الأمر أصعب مما تخيلوا، فتخلوا عن الفكرة.

 

في تلك اللحظة، وللمرة الأولى، سألني فيدكا عن اسمي. ضحكنا جميعًا عندما اكتشفنا أنه لم يكن يعرفه طيلة هذا الوقت.

 

"أعرف كيف أخاطبك،" قال بنبرة واثقة، "ولكن ما هو اسم عائلتك؟ أنت تعلم أن لدينا عائلة فوكانويتشيف، وعائلة زابريف، وعائلة يرميلينا."

 

أخبرته باسمي، فتساءل بفضول: "وهل سينال ما كتبناه حظّ الطباعة؟"

 

أجبته: "نعم، بالطبع."

 

عندها، تهللت أساريره وقال بحماس: "إذن يجب أن يُكتب عليه: من تأليف ماكاروف، وموروزوف، وتولستوي!"

 

ظل فيدكا متحمسًا لفترة طويلة، ولم يستطع النوم من فرط إثارته. وأنا من جانبي، لا أستطيع أن أصف بدقة ذلك المزيج من المشاعر - الإثارة والسرور والألم، حتى أنّه ثمّة شبح من الندم بينها - الذي اجتاحني خلال تلك الأمسية الاستثنائية. شعرت وكأنني كنت أشهد ما لا يحقّ لأحد أن يراه - تفتح زهرة الشعر الغامضة أمام عيني.

 

كان الأمر بالنسبة لي مزيجًا من الرهبة والروعة؛ كأنني باحث عن الكنوز عثر فجأة على زهرة السرخس الأسطورية، وهي تتفتح في ضوء القمر. كانت المتعة تكمن في اكتشافي المفاجئ وغير المتوقع لحجر الفلاسفة - فن التعبير عن الفكر - الذي كنت أبحث عنه عبثًا مدّةَ عامين.

 

لكن في الوقت نفسه، كان الأمر مرعبًا بعض الشيء، لأن هذا الفن الجديد المكتشف سيجلب معه مطالب جديدة وعالمًا كاملاً من الرغبات قد لا تتوافق مع الجوّ الذي يعيش فيه هؤلاء التلاميذ، أو هذا ما بدا لي في تلك اللحظة الأولى من الاكتشاف.

 

لم يكن ثمّة مجال للشك. لم يكن هذا مجرد صدفة عابرة، بل كان عبقرية إبداعية واعية تتفتح أمام عيني. أرجو من القارئ أن يقرأ الفصل الأول من القصة، وأن يلاحظ لمسات الموهبة الإبداعية الحقيقية المنتشرة فيه. على سبيل المثال، تأمل المشهد الذي تشكو فيه المرأة بغضب من زوجها لجارتها، ومع ذلك فإن هذه المرأة نفسها، التي يشعر المؤلف تجاهها بنفور واضح، تنفجر في البكاء عندما يذكرها الجار بتفكك بيتها.

 

لو كان الأمر يتعلق بكاتب يعتمد على عقله وذاكرته فحسب، لكانت المرأة المشاكسة مجرد نقيض للفلاح، دمية ورقية تُحرك خيوطها لمجرد إثارة غضبه. ولكان من الطبيعي أن تستدعي الجار لمجرد الرغبة في إيذاء زوجها. لكن في عالم فيدكا، تجلى الحس الفني في شخصية المرأة أيضًا، فإذا بها تبكي وتخاف وتعاني. في عينيه، هي ليست مذنبة، بل هي ضحية ظروف أكبر منها.

 

وفي مشهد لاحق، نجد لمسة فنية صغيرة، لكنها بالغة الأهمية، حين يرتدي الجار معطف المرأة. أتذكر كيف صُعقت من روعة هذا التفصيل، لدرجة أنني سألته: "لماذا معطف المرأة تحديدًا؟"

 

لم يقترح أحد منا على فيدكا فكرة جعل الجار يرتدي معطف المرأة. كان ذلك نابعًا من خياله الخصب وحده.

 

أجابني ببساطة: "لأنه أكثر واقعية هكذا."

 

عندما سألته: "ألا يمكننا القول إنه ارتدى معطف الزوج بدلاً من ذلك؟" رد بحزم: "لا، من الأفضل أن يكون معطف الزوجة."

 

وفي الحقيقة، هذه اللمسة الصغيرة هي ما يجعل المشهد استثنائيًا. في البداية، قد لا ندرك سبب اختيار معطف المرأة تحديدًا، ولكننا نشعر في أعماقنا أنه اختيار رائع، إنه لا يمكن أن يكون غير ذلك.

 

كل عبارة فنية، سواء كانت من إبداع غوته، أو من بنات أفكار فيدكا، تتميز عن العبارات العادية بخاصية بسيطة: إنها تستدعي سيلاً لا ينضب من الأفكار والتصورات والمشاهد.

 

فالجار، وهو يرتدي معطف المرأة، يستحضر في أذهاننا صورة فلاح ضعيف البنية، ضيق الصدر، كما كان على الأرجح. معطف المرأة، الملقى على المقعد، والذي يكون في متناول اليد، يرسم أمامنا لوحة كاملة لحياة الفلاحين في أمسية شتوية. بمجرد ذكر المعطف، تتراءى أمام أعيننا لا إراديًّا صورة الساعة المتأخرة، حين يجلس الفلاح، وقد خلع ملابسه استعدادًا للنوم، أمام طبليّة خشبية، بينما تروح النساء، وتغدو في أعمال المنزل - يجلبن الماء ويطعمن الماشية - وكل ذلك الاضطراب الخارجي في نمط حياة الفلاحين، حيث لا يملك أي شخص ملابس خاصة به، ولا يوجد مكان مخصّص لشيء.

 

هذا التعبير الواحد، "ارتدى معطف المرأة"، يرسم الطابع الكامل للبيئة التي تدور فيها الأحداث. وهذه العبارة لم تأتِ عرضًا، بل اختيرت بعناية ودراية.

 

ما زلت أتذكر بوضوح كيف استحضر خيال فيدكا الكلمات التي نطق بها الفلاح عندما وجد الورقة، ولم يستطع قراءتها:

 

"لو كان سيروجا الصغير يعرف القراءة، لقفز من مكانه، وانتزع الورقة من يدي، وقرأها كلها، وأخبرني من هو هذا الرجل العجوز."

 

من خلال هذه الكلمات البسيطة، نرى العلاقة بين الرجل العامل والكتاب الذي يمسكه بين يديه المتشققتين من العمل الشاق. هذا الرجل الطيب، بميوله الأبوية والتقية، يقف أمامنا كأننا نراه بأعيننا. نشعر أن المؤلف يكن له حبًا عميقًا، ولهذا فهمه تمامًا، لدرجة أنه استطاع أن يجعله يعبر عن أفكاره حول تلك الأيام التي ولت، وخطر فقدان الروح في زماننا هذا.

 

كانت فكرة الحلم من اقتراحي، لكن إدخال الماعز ذات الأرجل المجروحة كان من إبداع فيدكا الخالص، وكان مسرورًا بها بصورة خاصّة. وتأملات الفلاح في اللحظة التي بدأ ظهره يحكه فيها، وصورة الليلة الهادئة - كل هذه التفاصيل كانت أبعد ما تكون عن العشوائية. في كل هذه اللمسات يمكننا أن نلمس قوة فنية واعية، تنم عن موهبة فذة.

 

أتذكر أنني، في لحظة ذهاب الفلاح للنوم، اقترحت أن أجعله يفكر في مستقبل ابنه، وفي علاقات الابن المستقبلية مع الرجل العجوز، وكيف أن الرجل العجوز سيعلّم سيروجا القراءة والكتابة، وما إلى ذلك. عبس فيدكا وقال: "نعم، نعم، جيد جدًا"، لكن كان واضحًا أن هذا الاقتراح لم يرق له، ومرتين نسي إدراجه في القصة. كان الإحساس بالتناسب قويًا فيه كما هو عند أي كاتب محنك أعرفه، ذلك الإحساس بالتناسب الذي يكتسبه الفنانون النادرون بجهد وعناء كبيرين، كان يعيش في روحه الطفولية غير الملوثة بكل قوته الفطرية.

 

أنهيت الدرس؛ لأنني كنت متحمسًا للغاية، أكاد أطير من الفرح بما شهدته من إبداع.

 

"ما بك؟ لماذا أنت شاحب هكذا؟ أحقًا أنت لست على ما يرام؟" سألني رفيقي بقلق واضح.

 

لم أشعر بمثل هذا الانفعال العارم إلا مرتين أو ثلاث في حياتي، وقد مر وقت طويل قبل أن أتمكن من تفسير ما اختبرته تفسيرًا منطقيًا. اعترتني حيرة، وكأنني كنت أتلصص عبر زجاج على خلية نحل، أراقب بنظرات محرمة عمل النحل المستتر عن أعين البشر. شعرت وكأنني اقترفت إثمًا في حق روح ذلك الفتى القروي الطاهرة البريئة، وانتابني إحساس بالذنب كمن يدنس المقدسات.

 

استحضرت في ذهني صورًا لأطفال أجبرهم شيوخ متبطلون فاسدون على استعراض أنفسهم وتقديم مشاهد شهوانية لإثارة خيالاتهم الخامدة المنهكة. وفي الوقت نفسه، غمرتني نشوة حادة، تشبه ما قد يشعر به من شهد أمرًا لم يره أحد من قبل.

 

مرت فترة طويلة قبل أن أتمكن من شرح الانطباع الذي تركه فيّ ما رأيت، رغم إدراكي أنه كان من تلك التجارب التي ترتقي بالإنسان في نضجه إلى مستوى وجودي أسمى، وتدفعه إلى نبذ القديم والانغماس كليًا في الجديد.

 

في صباح اليوم التالي، كدت لا أصدق حقيقة ما عشته في الأمسية السابقة. بدا لي غريبًا للغاية أن يطور فتى قروي نصف متعلم فجأة قدرة فنية واعية، تلك القدرة التي عجز عنها حتى غوته بكل ما بلغه من ذروة التطور الفكري. والأغرب من ذلك أنني، مؤلف "الطفولة" الذي حقق بعض النجاح والشهرة في الأوساط الأدبية الروسية بفضل موهبته الفنية، وجدت نفسي عاجزًا ليس فقط عن توجيه أو مساعدة هذا الفتى فيدكا ذي الأحد عشر ربيعًا وصديقه سيمكا في مسألة الفن، بل إنني بالكاد استطعت - وذلك فقط في لحظة إلهام عابرة - أن أجاريهما وأفهم ما يبدعانه. كان الأمر من الغرابة بحيث عجزت عن تصديق ما حدث في الليلة الفائتة.

 

في ذلك اليوم، انكببنا على متابعة القصة. عندما سألت فيدكا عما إذا كان قد فكر في تتمتها وكيفية سيرها، لم يجب مباشرة، بل أشار بيديه قائلًا ببساطة: "أعرف، أعرف! من سيكتبها؟"

 

شرعنا في كتابة الجزء التالي، ومرة أخرى، تجلى لدى الأطفال نفس الإحساس بالصدق الفني والتناسق والحماس. عندما بلغ الدرس منتصفه، اضطررت إلى مغادرتهم. واصلوا العمل في غيابي وكتبوا صفحتين بنفس الروعة والعمق والأصالة كما في البداية. كانت هاتان الصفحتان أقل ثراءً في التفاصيل، وأحيانًا لم يتم إدراج هذه التفاصيل بمهارة تامة؛ كما ظهر بعض التكرار. كل هذا نشأ بوضوح من كون آلية التأليف لا تزال تشكل تحديًا لهم. وفي اليوم الثالث، سارت الأمور على المنوال ذاته.

 

خلال هذه الدروس، كان صبية آخرون يحضرون في كثير من الأحيان، وبمعرفتهم بروح القصة وفكرتها، قدموا اقتراحات وأضافوا لمساتهم الأصيلة. غادر سيمكا ولم يعد. أما فيدكا، فقد واصل العمل على القصة من البداية إلى النهاية، وعمل كرقيب على جميع التغييرات المقترحة.

 

لم يكن ثمة شك في أن هذا النجاح كان وليد الصدفة: من الجلي أننا عثرنا عرضًا على طريقة كانت أكثر طبيعية وإلهامًا من تلك التي جربناها سابقًا. لكن كل هذا كان استثنائيًا للغاية، ولم أصدق ما كان يجري أمام ناظري. كنت بحاجة إلى ما يشبه المعجزة لتبديد شكوكي.

 

غبت لبضعة أيام، وظلت القصة غير مكتملة. تُركت المخطوطة - ثلاث صفحات كبيرة مكتوبة بالكامل - في غرفة المعلم الذي كنت أطلعه عليها.

 

قبيل رحيلي، بينما كنت منهمكًا في التأليف، قدم تلميذ جديد، وأخذ يعلّم الأطفال فن صنع مضارب الذباب من الورق. وكما جرت العادة، انتشر هوس صنع مضارب الذباب في أرجاء المدرسة، ليحل محل هوس كرات الثلج، الذي كان قد خلف بدوره هوس العصي المنحوتة.

 

في أوقات الراحة وخلال جلسات الغناء، كانت مضارب الذباب تزدهر بلا هوادة، وكل قصاصة ورق تقع في أيدي الأطفال تتحول سريعًا إلى سلاح ضد الذباب المزعج. غادر المعلم لتناول عشائه، غافلًا عن تحذير تلاميذه من العبث بالأوراق المتناثرة على مكتبه، وهكذا تحولت المخطوطة التي تحمل إبداعات ماكاروف وموروزوف وتولستوي إلى مجرد مضارب للذباب.

 

مع إشراقة شمس اليوم التالي، وقبل بدء الدروس، تحول هذا اللهو إلى مصدر إزعاج للتلاميذ أنفسهم، فأعلنوا حربًا شعواء على مضارب الذباب. وفي لحظة من الحماس الجامح، جُمعت كل المضارب، وألقيت في أتون الموقد المشتعل، معلنة نهاية حقبة من اللهو الطفولي.

 

لكن مع انتهاء عصر مضارب الذباب، تبخرت أيضًا مخطوطتنا الثمينة في لهيب النيران. لم أشعر يومًا بخسارة أفدح من فقدان تلك الصفحات الثلاث المكتوبة بعناية. غرقت في بحر من اليأس، وبينما كنت أعصر يدي ألمًا، شرعت في محاولة يائسة لإعادة كتابة القصة. لكن ذكرى الخسارة ظلت تطاردني، ووجدت نفسي - رغمًا عني - أكيل اللوم للمعلم وصانعي مضارب الذباب الصغار.

 

وهنا لا يسعني إلا أن أشير إلى أنه بفضل هذا الجو من الفوضى الظاهرية والحرية المطلقة بين التلاميذ - وهو ما أثار سخرية السيد ماركوف في "المراسل الروسي" والسيد جليبوف في مجلة "التعليم" - تمكنت، دون عناء يُذكر ودون اللجوء إلى التهديد أو الحيلة، من كشف خيوط القصة المعقدة للمخطوطة المفقودة وكيفية تحولها إلى رماد.

 

لمح سيمكا وفيدكا حزني الدفين، ورغم جهلهما بالسبب الحقيقي، أظهرا تعاطفًا عميقًا. وفي لحظة من الشجاعة الخجولة، اقترح فيدكا أن نعيد كتابة القصة.

 

"بمفردكما؟" سألت متعجبًا، "لن أستطيع مساعدتكما هذه المرة."

 

"سنأتي أنا وسيمكا لنقضي الليل في منزلك،" أجاب فيدكا بحماس طفولي صادق.

 

وهكذا، بعد انقضاء الدروس، حل الصبيان ضيفين على منزلي قرابة التاسعة مساءً، وانزويا في مكتبتي. غمرتني السعادة حين لاحظت أنه بعد بعض الضحكات الخافتة، خيم عليهما الصمت المنتج. وعند منتصف الليل، حين اقتربت من الباب، لم أسمع سوى همهمات حوارهما الهادئ وصرير القلم على الورق، كأنغام سيمفونية إبداعية.

 

طلبا رأيي مرة واحدة فقط حول تفصيلة كانت في النسخة السابقة - هل بحث الفلاح عن محفظته قبل أم بعد ذهاب زوجته إلى الجارة؟ أجبتهما بأن الأمر متروك لحسهما الفني.

 

عند الثانية عشرة ليلًا، طرقت الباب برفق ودخلت. كان المشهد الذي طالعني يفوق الخيال في عمقه وجماله.

 

جلس فيدكا، مرتديًا معطفه الأبيض الجديد المزين بحواف من الفرو الأسود، غارقًا في أحضان كرسي وثير. ساقاه متقاطعتان، ورأسه الكثيف الشعر مستند على يد واحدة، بينما عبثت الأخرى بمقص بحركة لا واعية. عيناه السوداوان الكبيرتان تألقتا بضوء غير مألوف، مزيج من الجدية والنضج، تحدقان في أفق بعيد لا يراه سواه. شفتاه غير المنتظمتين، المزمومتان كمن يهم بإطلاق صفير خافت، كانتا في انتظار الكلمة التالية، التي رغم اكتمالها في مخيلته، كان يسعى جاهدًا لصياغتها بدقة.

 

أما سيمكا، فوقف منتصبًا أمام طاولة الكتابة الضخمة، على ظهره رقعة بيضاء كبيرة من جلد الغنم - أثر مرور الخياطين حديثًا بالقرية. حزامه محلول وشعره أشعث كغابة كثيفة، يخط سطورًا متعرجة، ويغمس قلمه في المحبرة باستمرار، وكأنه يستقي الكلمات من بئر لا ينضب.

 

مددت يدي، وداعبت شعر سيمكا برفق. التفت إلي بوجهه الممتلئ، وعظام خديه البارزة، وشعره المشعث، بنظرة مندهشة في عينيه المفكرتين والنعسانتين. كان المشهد مضحكًا لدرجة أنني لم أتمالك نفسي من الضحك؛ لكن الصبيين ظلا غارقين في عالمهما الإبداعي، غير عابئين بما حولهما.

 

سحب فيدكا، دون أن تهتز ملامحه المتأملة، كم قميص سيمكا ليحثه على مواصلة الكتابة.

 

"انتظر،" همس لي بنبرة آمرة؛ "سننتهي في لحظات!" واصل إملاء أفكاره على رفيقه بحماس متقد.

 

أخذت نسختهما منهما، وبعد دقائق معدودة، وقد فرغا من عملهما الشاق، جلسا قرب الخزانة يتناولان البطاطس ويرتشفان الكفاس، ناظرين بفضول إلى الملاعق الفضية غير المألوفة لهما. فجأة، ودون سابق إنذار، انفجرا في نوبة من الضحك الصبياني العفوي، دون أن يدركا سبب مرحهما المفاجئ. تردد صدى ضحكاتهما في أرجاء المنزل، حتى أن العجوز في الطابق العلوي انضمت إليهما في الضحك، دون أن تعي السبب.

 

"ما الذي يثير ضحكك هكذا؟" سأل سيمكا صديقه، محاولًا استعادة رباطة جأشه. "اعتدل في جلستك، وإلا ستلتهم نفسك من جانب واحد!"

 

وبينما كانا يخلعان معطفيهما، ويتهيآن للنوم تحت طاولة الكتابة، لم يتوقفا عن الضحك الساحر والصحي الذي يميز أطفال الريف. تناولت ما كتباه وقرأته بشغف. كانت نسخة جديدة من القصة السابقة، لكن بلمسات مبتكرة. حُذفت بعض العناصر، وأضيفت جماليات فنية جديدة رائعة. ومرة أخرى، تجلى نفس الإحساس بالجمال والحقيقة والتناسق الذي ميز عملهما السابق.

 

بعد حين، عُثر على ورقة وحيدة من المخطوطة الضائعة. وفي النسخة النهائية المطبوعة من القصة، مزجت بين الإصدارين مستعينًا بالورقة المكتشفة وما استطعت استرجاعه من ذاكرتي. ولد هذا العمل الأدبي في أحضان الربيع المبكر، قبيل اختتام عامنا الدراسي بأيام معدودة.

 

حالت ظروف متنوعة دون إجراء تجارب إبداعية جديدة. نتج عن هذه التجربة قصة واحدة فقط، مستوحاة من مثل شعبي، كتبها اثنان من الصبية الأكثر اعتيادية في مواهبهما والأكثر تطورًا في أسلوبهما، كونهما نشآ في كنف الخدم المنزليين. حملت هذه القصة، المبنية على المثل القائل "من يسكر قبل الفجر يسعد في العيد"، إلى المطبعة وظهرت في العدد الثالث من مجلتنا.

 

تكررت مع هؤلاء الصبية ومع هذه القصة نفس الظواهر التي شهدناها مع سيمكا وفيدكا والقصة الأولى، وإن اختلفت درجات الموهبة والحماس، وتفاوت مقدار تدخلي وتوجيهي.

 

أما في فصل الصيف، فتخلو مدرستنا من صخب الدروس، كما كان الحال دومًا، وكما سيظل في المستقبل المنظور. نفرد مقالًا خاصًا لشرح الأسباب التي تجعل التدريس في مدرستنا أمرًا مستحيلًا خلال أشهر الصيف الحارة.

 

في غمرة أيام الصيف الدافئة، قضى فيدكا ورفاقه من الصبية فترة معي. بعد أن نهلوا من متع السباحة واللعب، وجدوا أنفسهم في حيرة من أمرهم، يتساءلون عما يمكنهم فعله لملء الفراغ. هنا، جاءتني فكرة أن أقترح عليهم كتابة إنشاء، فطرحت عليهم مجموعة من المواضيع المثيرة للاهتمام.

 

سردت لهم قصصًا شتى: واحدة عن سطو مثير على أموال، وأخرى عن جريمة قتل غامضة، وثالثة عن تحول أحد المولوكان إلى المذهب الأرثوذكسي في حادثة أشبه بالمعجزة. ثم اقترحت عليهم أن يكتبوا على شكل سيرة ذاتية قصة صبي نشأ في كنف أب معدم ومنحرف، أُرسل للخدمة العسكرية، ليعود بعدها رجلاً متحولاً إلى الصلاح والفضيلة.

 

شرحت لهم كيف كنت سأكتب هذه القصة لو كنت مكانهم: "سأبدأ بقولي: 'أتذكر عندما كنت صغيرًا، كيف كان منزلنا يضم أمًا وأبًا وعددًا من الأقارب.' ثم سأصف كل واحد منهم بالتفصيل. بعد ذلك، سأروي ذكرياتي عن سُكر أبي المتكرر، ودموع أمي التي لا تنقطع، وكيف كان يضربها بقسوة. ثم سأنتقل إلى لحظة تجنيده، واصفًا عويل أمي وكيف غرقنا في بؤس أشد مما كنا عليه. وأخيرًا، سأصف عودة أبي، وكيف كدت لا أتعرف عليه لولا سؤاله عن ماتريونا - يقصد زوجته. سأختم بوصف فرحتنا الغامرة وكيف تحولت حياتنا إلى الأفضل بعد عودته."

 

كان هذا مجرد إطار عام قدمته لهم، لكنه كان كافيًا لأن يأسر خيال فيدكا تمامًا. فما كان منه إلا أن التقط القلم والورق بلهفة، وشرع في الكتابة بحماس منقطع النظير. أثناء عمله الدؤوب، لم أتدخل إلا باقتراح فكرة الأخت ووفاة الأم. أما كل شيء آخر، فقد نبع من مخيلته الخصبة، ولم يطلعني على شيء سوى الفصل الأول، حتى أتم القصة بأكملها.

 

عندما قدم لي الفصل الأول، وبدأت في قراءته، شعرت بتوتره الشديد، وكأنه يحبس أنفاسه من فرط القلق والترقب. كانت عيناه تنتقلان بين المخطوطة، متتبعًا قراءتي بلهفة، ووجهي، محاولاً التقاط أي إشارة للرضا أو عدمه في تعابيري.

 

حين أخبرته أن ما كتبه كان رائعًا، تورد وجهه من فرط السعادة، لكنه آثر الصمت. بخطوات خفيفة مفعمة بالحماس، حمل دفتر ملاحظاته إلى الطاولة، وضعه عليها بعناية، ثم انسحب من الغرفة ببطء، كأنه يحاول استيعاب لحظة النصر التي عاشها للتو.

 

في الخارج، في ذلك اليوم المشمس، كان فيدكا يلهو بحماس طفولي مع رفاقه، وكلما التقت أعيننا، كان يرمقني بنظرة ممتنة وعاطفية، كأنه يشكرني صامتًا على منحه فرصة التعبير عن ذاته. مع حلول المساء، بدا وكأنه نسي تمامًا ما كتبه، منغمسًا في ضحكاته، ومرحه مع أصدقائه.

 

من جانبي، اكتفيت باختيار عنوان للقصة، واقترحت تقسيمًا للفصول، وصححت بعض الهفوات البسيطة التي وقع فيها بسبب حماسه، وسرعته في الكتابة. في النهاية، تم طبع هذه القصة في شكلها الأولي ضمن كتيب حمل عنوان "سولداتكينو جيتيو "أو "الحياة في منزل جندي."

 

لن أسهب في الحديث عن الفصل الأول، رغم تميزه بجماليات فريدة لا تضاهى. في هذا الفصل، يتجلى جورديف المهمل بكل حيويته وواقعيته - ذلك الرجل الذي يبدو خجلاً من الاعتراف بندمه، معتبرًا أن من اللياقة فقط أن يستفسر من المجلس عن مصير ابنه. ومع ذلك، فإن هذا الفصل يبدو أقل قوة مقارنة بالفصول اللاحقة. وأنا وحدي من يتحمل مسؤولية ذلك، إذ لم أستطع كبح جماح رغبتي في توجيهه وإملاء بعض الأفكار عليه أثناء كتابة هذا الفصل، وكأنني كنت أكتبه بنفسي.

 

إن كان ثمة قصور في تقديم الشخصيات أو وصف الأماكن، فأنا المسؤول الوحيد عن ذلك. لو تركته وشأنه، لكنت على يقين من أنه كان سيروي الأحداث بتلقائية وبراعة فنية تفوق ما قدمه، دون اقتباس أي شيء مني أو التقيد بأساليب وصفية جامدة. كان سيمزج عناصر السرد والوصف بطريقة عفوية، نابضة بالحياة والصدق، بدلاً من الانغماس في وصف مطول للشخصيات وخلفياتهم، ثم المشهد والبيئة، وأخيرًا سرد الأحداث بترتيب منطقي جاف.

 

ومن المدهش أن الأوصاف المطولة، التي قد تمتد لصفحات عديدة في الأعمال الأدبية التقليدية، غالبًا ما تفشل في تعريف القارئ بالشخصيات بقدر ما تنجح لمسة فنية واحدة، مدسوسة بعفوية في ثنايا العمل، حتى قبل تقديم وصف مفصل للشخصيات. خذ على سبيل المثال، في هذا الفصل الأول، جملة واحدة نطق بها جوردي: "هذا بالضبط ما أحتاجه"، وهو يلوح بيده في حركة حاسمة، مقررًا الانخراط في الخدمة العسكرية، راجيًا فقط من المجلس عدم التخلي عن ابنه - هذه الجملة البسيطة تكشف عن شخصية جوردي أكثر مما قد يفعله وصف مطول لملابسه وهيئته وعادته في ارتياد حانة القرية!

 

وبالمثل، نجد أن المرأة العجوز، المعروفة بنهرها الدائم لابنها، تترك انطباعًا أعمق بكثير عندما تتحدث في لحظة محنتها مع زوجة أخيها:

 

"ستندمين على هذا يا ماتريونا! ماذا بوسعنا أن نفعل؟ يبدو أنها مشيئة الرب. أنت ما زلت في ريعان شبابك، ولعل الله يمن عليك برؤية أيام أفضل. أما أنا فقد أثقلتني السنون - لا يكاد يمر يوم دون علة... أخشى أن منيتي قد اقتربت!"

 

في الفصل الثاني، لا تزال بصمات تدخلي واضحة في بعض مواطن التفاهة والسطحية، إلا أن اللمسات الفنية العميقة في وصف اللوحات ومشهد موت الصبي تنتشل العمل، وترتقي به إلى مستوى أدبي رفيع. اقترحت عليه أن يصف الصبي بساقين نحيفتين، وأوحيت إليه بإضافة تفصيلة عاطفية عن العم نيفيدا، حفار القبور. لكن شكوى الأم المعبر عنها في جملة واحدة: "يا رب، ليتك تأخذ هذا العبد الصغير!" تلخص للقارئ جوهر المأساة بأكملها.

 

ثم يأتي وصف تلك الليلة المشؤومة، حين يستيقظ الأخ الأكبر على نحيب أمه، وإجابتها المقتضبة على سؤال الجدة "ما الخطب؟": "رحل صغيري." ومشهد البابوشكا العجوز، وهي تنهض بصمت لتشعل النار، وتغسل جثمان الصبي المسكين - كل هذه التفاصيل من نسج خياله؛ موجزة، بسيطة، لكنها تنبض بقوة لا تقاوم! لا يمكنك حذف كلمة واحدة، أو تغييرها، أو إضافة شيء إليها. في خمسة أسطر فقط، يرسم صورة كاملة لتلك الليلة الكئيبة، منعكسة في مرآة خيال صبي لم يتجاوز السادسة أو السابعة من عمره:

 

"في جوف الليل، ارتفع نحيب أمي. نهضت الجدة متسائلة:

'ما الخطب؟ ليحفظنا المسيح.'

همست أمي بصوت مخنوق:

'فارقنا الصغير.'

أشعلت الجدة الشموع، غسلت جثمان الصبي، ألبسته ثوبه وشدت حزامه، ثم وضعته تحت الأيقونات المقدسة. وعندما بزغ الفجر..."

 

كأنك ترى بعينيك ذلك الصبي الصغير، أيقظه نحيب أمه المألوف، فأطل بعينين نعستين من تحت غطائه، يرقب بخوف وفضول ما يجري في الكوخ. وتلمح تلك الأم المكلومة، زوجة الجندي، التي هتفت بالأمس في لحظة يأس: "ليت هذا الصغير يموت!" وها هي الآن، وقد تحققت أمنيتها القاسية، يغمرها الندم والحزن حتى لم تعد تنطق سوى بكلمات متقطعة: "رحل صغيري"، كأنها لا تدرك ما حل بها، تستنجد بالعجوز لتعينها في محنتها.

 

وتلك المرأة المسنة، أنهكتها الحياة وأثقلت كاهلها، نحيلة بأطراف لا يكاد يكسوها لحم تشهد على كدحها الطويل، تتحرك بتؤدة وسكينة كمن اعتاد مواجهة المصائب: تشعل شمعة خافتة، تجلب الماء لتغسل جسد الصبي الراحل، ترتب كل شيء بعناية أليفة، ثم تضع الجثمان المغسول والمكفن "تحت الأيقونات" في مشهد يجمع بين القداسة والحزن.

 

وكأنك عشت تلك الليلة الطويلة بكل تفاصيلها الموجعة، تلك الساعات التي لا تعرف النوم، حتى بزوغ الفجر. كأنك مررت بها بنفسك، تماماً كما مر بها الصبي، يرقب من تحت غطائه بعينين واسعتين: بكل دقائقها ولحظاتها تحفر تلك الليلة ذكراها في مخيلتك، لا تمحى.

 

في الفصل الثالث، يتجلى إبداع الكاتب الصغير بوضوح أكبر. شخصية الأخت الكبرى تنبض بالحياة، من صنع خياله وحده. حتى في الفصل الأول، بلمسة واحدة بارعة يرسم علاقة الأخت بالعائلة: "كانت تعمل من أجل ثيابها؛ تستعد للزواج." هذه الجملة البسيطة تكشف عالماً كاملاً: فتاة لا تشارك في هموم العائلة وأفراحها، لها عالمها الخاص، هدفها الذي منحتها إياه الحياة - زواجها المرتقب، عائلتها المستقبلية.

 

أي كاتب محترف، خاصة من يسعى لتعليم الناس وتقديم نماذج أخلاقية، كان سيقع في فخ تصوير الأخت إما كمثال للأنانية واللامبالاة، أو كنموذج للتضحية والإيثار. لكن النتيجة كانت ستكون شخصية مسطحة، بلا روح. أما هذا الفتى، بحسه الفني الفطري وفهمه العميق للحياة، فيدرك أن لهذه الفتاة عالمها الخاص المشروع، حيث تأتي هموم العائلة في المرتبة الثانية أمام حلمها بالزواج.

 

لو صورنا الأخت كفتاة مثالية مضحية، لما أحببناها كما نحبها الآن. إنها حية نابضة في مخيلتنا: ممتلئة الخدين، متوردة الوجنتين، تخرج في المساء للرقص بأحذيتها الجديدة التي اشترتها بعرق جبينها، وفستانها الأحمر الزاهي. تحب عائلتها، رغم أنها مثقلة بالفقر والشقاء اللذين يتناقضان مع روحها المرحة. نشعر بطيبتها لأن أمها لم تشكُ منها يوماً. ومع ذلك، فهي بحبها للزينة، وأغانيها العفوية، وقصصها عن أحاديث القرية التي تلتقطها في الحقول صيفاً والشوارع شتاءً، تمثل شعلة الأمل الوحيدة في ذلك البيت الحزين أثناء غياب الجندي.

 

هناك حكمة عميقة، حين يقول إن الفرحة الوحيدة كانت عندما تزوجت الأخت. يصف حفل الزفاف بتفاصيل محببة، ويجعل الأم تقول بعده: "الآن يمكننا أن نعيش بسعادة." فكأن رحيل الأخت أخذ معه آخر بصيص من البهجة والأمل في ذلك البيت.

 

وصف الزفاف كله يأسرك بروعته وحيويته. هناك تفاصيل تذهلك، وأنت تتذكر أن كاتبها صبي في الحادية عشرة، فتسأل نفسك متعجباً: "كيف أدرك كل هذا؟"

 

هكذا ترى، من خلال هذا الوصف الموجز والقوي، عبقرية صبي صغير، لا يكاد يصل إلى حافة الطاولة، بعينين ذكيتين ملاحظتين، لم يلتفت إليه أحد من قبل، لكنه وهب ذاكرة فذة وحساً مرهفاً.

 

حين يريد قطعة خبز، لا يقول إنه "طلب" من أمه، بل "توسل" إليها. يختار هذه الكلمة عن وعي، لأنه يدرك صغر حجمه مقارنة بأمه، وطبيعة علاقتهما: خجول أمام الآخرين، لكنه حميم معها في خلوتهما.

 

ومن بين آلاف التفاصيل التي رآها في حفل الزفاف، يختار ما يرسم لنا صورة كاملة عن طبيعة هذه المراسم. حين قيل إن الجو حزين، أمسكت العروس بأذني "كوندرياشكا" وبدآ يتبادلان القبلات، في مشهد يجمع بين المرح والحزن.

 

ثم يأتي وصف موت الجدة، ذكرياتها الأخيرة عن ابنها، والطابع الخاص لحزن الأم - كل هذا مرسوم بدقة وإيجاز، نابع من روح الكاتب الصغير وحده.

 

كنت قد تحدثت أكثر عن عودة الأب، حين أعطيتهم فكرة القصة. أعجبني هذا المشهد، فوصفته بعاطفية مبالغ فيها. لكن المشهد نفسه أثار إعجاب الصبي، فطلب مني ألا أتدخل: "لا تخبرني،" قال بثقة، "أنا أعرف." ومن هذه النقطة، كتب بقية القصة في جلسة واحدة، متدفقة بالإبداع والحياة.

 

يستهويني بشدة استطلاع آراء النقاد الآخرين، غير أنني أرى لزامًا عليّ الإفصاح عن رأيي بكل صراحة وجرأة. لم يسبق لي أن صادفت في تاريخ الأدب الروسي بأكمله نصًا يضاهي هذه الصفحات في روعتها وتفردها. يصور المشهد لقاء العائلة دون أدنى إيحاء بعاطفية مفتعلة؛ إنه سرد بسيط لما جرى، يقتصر على ما هو ضروري لفهم القارئ لموقف كل شخصية.

 

الجندي، في لحظة عودته إلى بيته، لم ينطق سوى بثلاث عبارات موجزة. في البداية، وقد تمالك نفسه، قال:

"كيف حالكم؟"

ثم، وقد بدأ ينسى الدور الذي يتصنعه، تساءل:

"أهذه كل العائلة التي لديك؟"

وأخيرًا، انكشف كل شيء في كلماته:

"أين أمي الحبيبة؟"

 

ما أبسط هذه الكلمات وأكثرها طبيعية! ومع ذلك، فلم تُغفل أي من الشخصيات. الصبي، رغم سعادته ودموعه، لم ينس أنه طفل؛ فبينما كان والده يذرف الدموع، راح هو يفتش في حقيبته وجيوبه بفضول. حتى الأخت لم يتم إهمالها في المشهد؛ فنراها، تلك الفلاحة الممتلئة الصغيرة بحذائها الأنيق، تدلف إلى الكوخ بتواضع، وتقبّل والدها في صمت معبّر.

 

ونشهد الجندي، في حالة من الارتباك والسعادة، يحيي الجميع دون تمييز، غير مدرك لهوية كل منهم. وحين يتعرف أخيرًا على ابنته الشابة، يضمها إليه ويقبلها، لا كامرأة غريبة، بل كابنته التي تركها منذ زمن بعيد، في لحظة تجمع بين الحنين والندم المكتوم.

 

لقد تغير الأب، وأصلح من حاله. كم من العبارات المتكلفة والمصطنعة كنا سنضيفها لو كنا نحن من يكتب هذا المشهد! لكن فيدكا، ببساطة ملهمة، يخبرنا كيف أحضرت الابنة النبيذ، وكيف رفض الأب أن يشرب.

 

ونرى أيضًا الأم الفلاحة، وهي تستخرج آخر عشرين كوبيك تملكها، تهمس بلهفة للشابة عند المدخل لتذهب وتشتري الخمر، تدس العملات النحاسية في يدها. ثم نتابع الشابة، وهي تهرول إلى الحانة، مئزرها يرفرف فوق ذراعها، والقارورة في يدها، صوت حذائها يتردد، ومرفقاها يتأرجحان خلف ظهرها.

 

نراها تعود إلى الكوخ، وقد علا وجهها احمرار الخجل والإثارة، تخرج القارورة من تحت مئزرها. الأم، بمزيج من الفخر والابتهاج، تضعها على الطاولة، ثم تُظهر مشاعر متضاربة من الإهانة والفرح؛ لأن زوجها لم يبادر إلى الشرب. وندرك أنه إن قاوم إغراء الشراب الآن، فقد تغير حقًا. نشعر كيف أصبح الجميع، حتى الغرباء، جزءًا لا يتجزأ من نسيج هذه العائلة.

 

"طلب أبي البركة، وجلس إلى الطاولة. جلستُ بجانبه؛ أختي اتخذت مكانها على المقعد، بينما وقفت أمي بجوار الطاولة، عيناها معلقتان بأبي وهي تقول:

'كم تبدو شابًا! لم يعد لديك لحية!'

ضحك الجميع."

 

فقط عندما ينصرف الزوار يبدأ الحديث العائلي الحميم الحقيقي. هنا فقط ينكشف أن الجندي قد نال حظًا من الرخاء، وبأبسط الوسائل وأكثرها شيوعًا في العالم: لقد وقعت في يديه، بمحض الصدفة، أموال تخص الآخرين - الخزينة العامة أو المجتمع.

 

بعض القراء علقوا على هذا التفصيل معتبرين إياه غير أخلاقي، مؤكدين أن فكرة الميزانية العامة كبقرة حلوب يجب قمعها لا تشجيعها. لكن بالنسبة لي، هذه اللمسة، بغض النظر عن قيمتها الفنية، ثمينة بشكل خاص. فهي تعكس واقعًا: أموال الدولة تقع أحيانًا في أيدي البعض، فلماذا لا تصل أحيانًا إلى جندي مشرد؟

 

غالبًا ما نجد تباينًا صارخًا بين مفهوم الأمانة لدى عامة الناس والطبقة العليا. فمطالب الناس تكون صارمة للغاية فيما يخص الأمانة في العلاقات الحميمة - مع العائلة، القرية، الجماعة المحلية. أما فيما يتعلق بالغرباء - الجمهور العام، الدولة، وخاصة الأجانب أو الخزينة العامة - فمفهومهم للأمانة يصبح ضبابيًا وغير محدد.

 

الفلاح الذي لن يكذب أبدًا على أخيه، ويتحمل كل أنواع الحرمان من أجل عائلته، ولن يأخذ كوبيكًا زائدًا أو غير مكتسب من جاره أو رفيقه في القرية، هذا الفلاح نفسه قد يستغل غريبًا أو شخصًا من المدينة بلا رحمة، ويكذب في كل كلمة يتفوه بها أمام نبيل أو مسؤول. وإن كان جنديًا، فقد يقتل أسيرًا فرنسيًا دون أدنى وخزة ضمير. وإذا وقعت أموال الدولة بين يديه، فسيعتبر من الخيانة لعائلته ألا يستولي عليها لنفسه.

 

في الطبقات العليا، نرى النقيض تمامًا. فالواحد منا قد يخدع زوجته أو أخاه أو تاجرًا عامله لعقدين، أو خادمه أو فلاحيه أو جاره بسهولة بالغة. لكنه في الوقت ذاته، حين يكون خارج البلاد، يتوخى الحذر الشديد ألا يخدع أحدًا، ويسأل دومًا إن كان مدينًا لأحد بالمال عن غير قصد. هذا الشخص نفسه قد ينهب فوجه أو شركته لأجل الشمبانيا والقفازات، ويبذل قصارى جهده في إظهار اللطف لأسير فرنسي. لكنه فيما يخص خزينة الدولة، يعتبر أن تحويل الأموال لمصلحته الشخصية من أفظع الجرائم، حتى لو كان معدمًا. يكتفي باعتبار الفعل جريمة، وغالبًا ما يستسلم عند الصراع، فيرتكب ما يراه هو نفسه مخزيًا.

 

لست هنا لأحكم أي الفريقين أفضل؛ بل أصف الواقع كما أراه. ألاحظ فقط أن الأمانة ليست مجرد قناعة، وأن عبارة "قناعات أمينة" لا معنى لها. الأمانة عادة أخلاقية؛ ولاكتسابها، لا بد من البدء بالعلاقات الأقرب. عبارة "قناعات أمينة" في رأيي عديمة المعنى تمامًا؛ فهناك عادات أمينة، لكن لا وجود لقناعات أمينة.

 

كلمات "قناعات أمينة" ليست سوى عبارة جوفاء؛ ولذا، فإن هذه القناعات الأمينة المزعومة، حين تُطبق على أبعد ظروف الحياة - كالخزينة العامة والحكومة وأوروبا والإنسانية - دون أن تستند إلى عادات الأمانة المتأصلة في أقرب العلاقات الحياتية، تثبت عجزها أمام واقع الحياة.

 

لنعد إلى القصة. مشهد الاستيلاء على الأموال العامة، الذي قد يبدو للوهلة الأولى منافيًا للأخلاق، هو في رأينا على العكس تمامًا، إذ يحمل طابعًا في غاية الجمال والتأثير. كم من مرة كشف لنا أديب من دائرتنا، في بساطة روحه، وهو يحاول تصوير بطله كمثال للشرف، عن كل ما في خياله من وضاعة وانحلال! أما هنا، فعلى العكس، كان على المؤلف أن يجعل بطله سعيدًا؛ كانت عودته لعائلته كافية لسعادته، لكن كان لا بد من التخلص من الفقر الذي أثقل كاهل العائلة لسنوات. فكيف له أن يحصل على المال؟ من الخزينة العامة غير الشخصية! إن كان عليه منحهم الثروة، فلا بد أن يأخذها من مكان ما - ولن يجد مصدرًا أكثر شرعية أو معقولية!

 

في مشهد تفسير أمر هذا المال، نجد تفصيلًا بديعًا، كلمة واحدة تصدمني بقوة جديدة كلما قرأتها. إنها تشرح الصورة بأكملها، وترسم كل الشخصيات وعلاقاتها. إنها مجرد كلمة واحدة، مستخدمة بشكل غير نظامي ونحويًا خاطئ - كلمة "زاتوروبيلاس"، أي "أسرعت". سيقول معلم النحو إن هذا مخالف للقاعدة. فـ"زاتوروبيلاس" تتطلب مكملًا - "أسرعت - لتفعل ماذا؟" هكذا سيسأل المعلم. لكن القصة تقول ببساطة:

 

"أخذت الأم المال، وأسرعت وحملته لتخبئه."

 

هذا رائع! أود أن أستخدم مثل هذه الكلمة، وأتمنى لو أن معلمي اللغة يقولون أو يكتبون مثل هذه الجملة.

 

"بعد العشاء، قبّلت الأخت والدها مجددًا، وعادت إلى منزلها. ثم شرع والدي في تقليب محتويات حقيبته، بينما كنت أنا وأمي نراقب. فجأة لمحت أمي كتيبًا صغيرًا وقالت:

 

'أوه! هل تعلمت القراءة؟'

 

أجاب والدي:

 

'نعم، تعلمت.'

 

ثم أخرج والدي طردًا كبيرًا وناوله لأمي.

 

سألت أمي:

 

'ما هذا؟'

 

قال والدي:

 

'مال.'

 

ابتهجت أمي، وأسرعت حاملة المال لتخبئه. ثم عادت وسألت:

 

'من أين حصلت عليه؟'

 

أجاب والدي:

 

'كنت ضابط صف، وكانت بحوزتي الأموال العامة: دفعت للجنود وبقي معي بعضها؛ فاحتفظت به.'

 

غمرت السعادة أمي، فراحت تقفز كالمجنونة. كان النهار قد ولّى والمساء يقترب. أشعلوا النار. تناول والدي الكتيب، وشرع في القراءة. جلست قربه أصغي، بينما كانت أمي توقد شظية. قرأ والدي كتابه لوقت طويل. ثم أووا إلى الفراش. استلقيت على المقعد الخلفي مع والدي، واستلقت أمي عند أقدامنا. ظلوا يتحدثون لوقت طويل، حتى قارب الليل منتصفه. ثم استسلموا للنوم."

 

ثمة تفصيل آخر، يكاد لا يُلحظ، لكنه يفاجئك ويترك أثرًا عميقًا، وهو طريقة ذهابهم إلى الفراش: الأب والابن يستلقيان معًا، والأم عند أقدامهما، وقد طال حديثهم قبل أن يخلدوا للنوم. أتخيل كيف تكور الابن بحميمية إلى صدر والده، وكم كان الأمر رائعًا ومريحًا له، وهو مستلقٍ نصف مستيقظ، أن يسمع هذين الصوتين، أحدهما لم يسمعه منذ زمن بعيد.

 

قد يبدو أن القصة قد بلغت نهايتها: عاد الأب، وأصبح الفقر من الماضي. لكن فيدكا لم يكتفِ بهذا. كانت هذه الشخصيات الخيالية واقعية وحية في مخيلته لدرجة أنه احتاج لرسم صورة حية لحياتهم الجديدة، وأن يوضح لنفسه أن المرأة الفلاحة لم تعد زوجة جندي وحيدة بائسة مع أطفال صغار، بل أصبح في البيت الآن رجل قوي، سيرفع عن كتفي زوجته المتعبتين عبء المصائب والفقر، ويقود حياة جديدة مستقلة، ثابتة، ومفعمة بالبهجة.

 

ولهذا يرسم لنا مشهدًا واحدًا: الجندي القوي يقطع الحطب بفأس مسنن، ويحمله إلى الكوخ. نرى الصبي حاد البصر، المعتاد على أنين أمه وجدته الضعيفتين، يتأمل بدهشة وإعجاب وفخر ذراعي والده العضليتين العاريتين، وضربات الفأس القوية التي تهوي مع أنفاس العمل اللاهثة، والجذع الذي يتشظى كالشظية تحت الفأس ذي الأسنان المتباعدة.

 

تنظر إلى هذا المشهد، وتطمئن تمامًا على مستقبل زوجة الجندي. أقول لنفسي، لن تعرف اليأس بعد اليوم، أيتها المسكينة.

 

"في الصباح، استيقظت أمي، أتت إلى والدي وقالت:

 

'جورديف! انهض، نحتاج حطبًا للفرن.'

 

نهض باتيا، ارتدى ثيابه، وضع قبعته، وسأل:

 

'أهناك فأس؟'

 

أجابت أمي:

 

'نعم، لكنه للأسف كليل جدًا، لن يقطع.'

 

أمسك والدي الفأس بقوة بكلتا يديه، اتجه نحو الجذع، أوقفه على طرفه، وهوى عليه بكل قوته، فشقه؛ قطّعه حطبًا، وحمله إلى الكوخ. شرعت أمي في تدفئة البيت؛ أشعلت النار، وبحلول ذلك الوقت كان النهار قد أشرق تمامًا."

 

لكن هذا لم يكفِ الفنان. أراد أن يظهر جانبًا آخر من حياتهم، شاعرية الحياة العائلية السعيدة، فرسم لنا هذه الصورة:

 

"حين أشرق النهار تمامًا، نادى والدي:

 

'ماتريونا!'

 

أتت أمي وقالت:

 

'نعم، ما الأمر؟'

 

قال والدي:

 

'أفكر في شراء بقرة، خمسة حملان، حصانين جميلين، وكوخ. ترين أن كل شيء قد تداعى... سيكلف هذا كله نحو مائة وخمسين روبلًا فضيًا.'

 

فكرت أمي لبرهة؛ ثم قالت:

 

'نعم، لكننا سننفق كل المال.'

 

قال والدي: 'سنعمل.'

 

قالت أمي:

 

'حسنًا، لنشترِهم إذن؛ لكن ثمة أمر - من أين سنحصل على الخشب؟'

 

سأل والدي:

 

'أليس لدى كيريوخا؟'

 

أجابت أمي:

 

'هذه هي المشكلة بالضبط - لا! آل فوكانويتشف استحوذوا على كل شيء.'

 

فكر والدي، ثم قال:

 

'حسنًا، سنحصل على بعضه من بريانتسف.'

 

قالت أمي:

 

'أشك في ذلك كثيرًا.'

 

أجاب والدي:

 

'لا بد أن يكون لديه... إنه حارس الغابة!'

 

حذرت الأم قائلة: "احترس منه، فهو وحش حقيقي!"

 

رد الأب بثقة: "سأحمل له بعض الخمر، وأتبادل معه الحديث. وأنتِ، هل تطهين لنا بيضة في الرماد للغداء؟"

 

أعدت الأم وجبة بسيطة من طعام حصلت عليه من أهلها. حمل الأب زجاجة الخمر، وانطلق نحو بريانتسف، تاركًا إيانا في انتظار طويل. شعرت بالوحدة في غياب أبي، فتوسلت لأمي أن تسمح لي باللحاق به.

 

رفضت أمي بحزم: "ستضل الطريق."

 

انخرطت في البكاء، مصرًا على الذهاب. عاقبتني أمي بالضرب، فتكورت على الموقد، أنتحب بصوت أعلى. وفجأة، دلف أبي إلى البيت، متسائلاً: "ما سبب هذا البكاء؟"

 

أوضحت أمي: "أراد فيديوشكا اللحاق بك، فعاقبته."

 

اقترب أبي مني وسألني برفق: "لماذا تبكي يا بني؟"

 

فجأة، غمرني الشعور بالأسف تجاه أمي. توجه أبي نحوها، متظاهرًا بضربها مازحًا، وهو يردد: "لا تضربي فيديا! لا تضربي فيديا!"

 

تصنعت أمي العويل، بينما جلست أنا على ركبة أبي، والسعادة تغمرني. جلس أبي إلى المائدة، وأجلسني بجواره، ثم نادى بمرح: "هيا يا أماه، أطعمينا أنا وفيديا - نحن جائعان!"

 

قدمت لنا أمي بعض اللحم، فشرعنا في التهامه بشهية. بعد الانتهاء، سألت أمي: "حسنًا، ماذا عن الخشب؟"

 

أجاب أبي: "خمسون روبلاً فضيًا."

 

علقت أمي بقلق: "هذا ليس بالكثير."

 

أكد أبي بثقة: "لا داعي للقلق - إنه خشب ممتاز."

 

كم هو مشهد بسيط، لكنه يفتح نافذة واسعة على حياتهم العائلية! ترى الصبي في براءته الطفولية، يتأرجح بين البكاء والفرح في لحظات. تلمح كيف يميل بفطرته نحو أبيه القوي، القادر على شق الجذوع، دون أن يدرك عمق حب أمه. وترى الأم، في حكمتها، تتفهم هذا الميل دون غيرة.

 

وهناك جورديي الرائع، الذي تفيض السعادة من قلبه. تراقب كيف يتشاركون اللحم، في مسرحية عائلية صغيرة يدرك الجميع أنها مجرد لعبة، لكنهم يستمتعون بها من فرط السعادة.

 

"لا تضربي فيديا!" يصيح الأب مازحًا، يلوح بذراعيه. والأم، المعتادة على الدموع الحقيقية، تتظاهر بالبكاء، وابتسامة الفرح تشع من عينيها نحو زوجها وابنها. والصبي، المتربع على ركبة أبيه، يشعر بفخر وسعادة غامرة، دون أن يدرك سببها - ربما لمجرد أن الجميع سعداء الآن.

 

"هيا يا أماه، أطعمينا أنا وفيديا - نحن جائعان!" يقول الأب، مُجلِساً ابنه بجواره. أي حب عميق وفخر أبوي يتجلى في هذه الكلمات البسيطة! إنه المشهد الأكثر صدقًا وتأثيرًا في هذه القصة الساحرة.

 

لكن ما الذي نستخلصه من كل هذا؟ ما أهمية هذه القصة في سياق التربية، خاصة وأنها من إبداع صبي قد يكون استثنائيًا؟ قد يقول البعض:

 

"ربما ساعدته، كمعلم، دون وعي في صياغة هذه القصة وغيرها، ويصعب التمييز بين ما هو منك وما هو أصيل."

 

وقد يقول آخرون:

 

"لنفترض أن القصة جيدة، لكنها مجرد نمط أدبي واحد."

 

أو:

 

"فيدكا ورفاقه الذين تنشر كتاباتهم هم مجرد استثناءات محظوظة."

 

وقد يعترض البعض:

 

"أنت نفسك كاتب؛ ربما وجهت الصبية، دون قصد، نحو مسارات يصعب وصفها كقواعد عامة للمعلمين غير الكتّاب."

 

وأخيرًا، قد يقولون:

 

"من الصعب استخلاص أي قاعدة عامة أو نظرية من هذا. إنها مجرد ظاهرة مثيرة للاهتمام، لا أكثر."

 

سأحاول الرد على هذه الاعتراضات بتحليل دقيق.

 

إن الإحساس بالحقيقة والجمال والخير لا يرتبط بمستوى التطور الفكري. هذه المفاهيم تعبر عن التناغم في علاقتنا مع الحقيقة والجمال والخير. الكذب ليس سوى خلل في هذه العلاقة مع الحقيقة، إذ لا وجود لحقيقة مطلقة.

 

فأنا لا أكذب حين أقول إن الطاولات تتحرك بلمس الأصابع إذا كنت أؤمن بذلك، حتى لو كان خطأً. لكنني أكذب حين أنكر امتلاكي للمال، وأنا أعلم أنني أملكه. الأنف الكبير ليس قبيحًا بذاته، لكنه قد يبدو كذلك على وجه صغير. القبح هو اختلال في علاقتنا بالجمال.

 

منح عشائي لمتسول أو تناوله بنفسي ليس خطأً في حد ذاته. لكن فعل أي منهما، بينما أمي تتضور جوعًا هو انحراف عن مفهوم الخير.

في رحلة تشكيل الطفل، سواء كنا نعلمه أو نربيه أو نطوره، نسعى - ولو دون وعي - نحو هدف سامٍ واحد: تحقيق أقصى درجات الانسجام بين الحقيقة والجمال والخير. لو كان الزمن جامدًا، ولو لم يكن الطفل كائنًا حيًا متطورًا، لاستطعنا بهدوء نحت هذا الانسجام، نضيف حيث نرى نقصًا، ونحذف حيث نلمح فائضًا.

 

لكن الطفل كائن حي نابض؛ كل جانب من كيانه يتوق للنمو، يسابق الآخر. وفي خضم هذا السباق، نخطئ فنظن أن هذا التسارع هو الغاية، فنساعد في التطور، دون أن ندرك أهمية التناغم في هذا التطور.

 

هنا يكمن الخطأ الأزلي في كل النظريات التربوية. نتوهم أن مثالنا أمامنا، بينما هو في الحقيقة خلفنا. إن نمو الإنسان الحتمي ليس وسيلة لتحقيق ذلك المثال المتناغم الذي نحمله في أعماقنا، بل هو حاجز وضعه الخالق في طريق بلوغ هذا المثال السامي. في هذا القانون الحتمي للتقدم تكمن فكرة ثمرة شجرة معرفة الخير والشر التي ذاقها أبوانا الأولان.

 

يولد الطفل السليم وهو تجسيد حي لذلك الانسجام المطلق بين الحقيقة والجمال والخير الذي نحمله في داخلنا. إنه أشبه بالكائنات غير الواعية - النبات، الحيوان، الطبيعة ذاتها - التي تعكس باستمرار تلك الحقيقة والجمال والخير التي نسعى إليها ونتوق لها. عبر العصور وبين كل الأمم، ظل الطفل رمزًا للبراءة والنقاء والخير والحقيقة والجمال.

 

"يولد الإنسان كاملًا" - هذه الحكمة الخالدة التي أطلقها روسو تقف شامخة كالصخرة، ثابتة وحقيقية. مع أولى أنفاسه، يضع الإنسان أمام نفسه نموذجًا للانسجام والحقيقة والجمال والخير. لكن مع كل ساعة تمر، كل دقيقة تنقضي، تتسع الهوة بين الواقع، وذلك النموذج الأولي المثالي. كل خطوة، كل ساعة تهدد بتمزيق نسيج هذا الانسجام، وكل لحظة تالية تنذر بانتهاك جديد، دون أمل في استعادة ما فُقد.

 

للأسف، يغفل معظم المربين عن حقيقة أن الطفولة هي النموذج الأمثل للانسجام. بدلًا من ذلك، يتخذون من تطور الطفل - الذي يسير وفق قوانين ثابتة - هدفًا في حد ذاته. هذا الخطأ في فهم التطور يشبه ما يقع فيه النحاتون المبتدئون.

 

فبدلًا من السعي لتحقيق توازن دقيق أو انتظار الفرصة المناسبة لتصحيح الخلل، يستمر هؤلاء النحاتون في إضافة المزيد والمزيد من الطين. وبالمثل، يبدو أن المربين مهووسون بفكرة واحدة: كيف نضمن استمرار عملية التطور دون توقف. وحتى إن فكروا في الانسجام، فإنهم يسعون إليه بالتطلع نحو نموذج مستقبلي غامض، متجاهلين النموذج الأصيل في الماضي والحاضر.

 

مهما كانت تربية الطفل غير منتظمة، تظل فيه بذور الانسجام الأولى. لو اكتفينا بتعديل مسار التطور - أو على الأقل عدم التدخل فيه - لأمكننا أن نأمل في الاقتراب من الانتظام والانسجام الحقيقيين.

 

لكننا، في غرورنا وانبهارنا بمثال زائف للكمال الناضج، نفقد صبرنا أمام كل ما نراه شاذًا في الطفل. نثق ثقة عمياء في قدرتنا على تصحيح هذه "العيوب"، عاجزين عن فهم وتقدير الجمال الفطري للطفولة. لذا نسارع لإيقاظ الطفل من براءته، محاولين تقويم كل انحراف نلاحظه. ننظم ونعلم: نرفع هذا الجانب ليساوي ذاك، ثم نعود لنرفع الآخر. وهكذا نستمر في "تطوير" الطفل، مبعدين إياه أكثر فأكثر عن نموذجه الأصلي الكامل، حتى يصبح تحقيق المثال الخيالي للإنسان البالغ الكامل أمرًا مستحيلًا.

 

الحقيقة الصادمة هي أن مثالنا يكمن خلفنا، لا أمامنا.

 

التعليم، في جوهره، يفسد الإنسان بدلًا من تحسينه. كلما زاد "فساد" الطفل - بمعنى ابتعاده عن فطرته الأولى - قلت حاجته للتعليم، وزادت حاجته للحرية. إن محاولة تعليم الطفل وتربيته أمر عبثي، لسبب بسيط: الطفل أقرب مني، وأقرب من أي بالغ، إلى ذلك المثال من الانسجام والحقيقة والجمال والخير الذي نزعم، في كبريائنا، أننا نقوده إليه.

 

وعي الطفل بهذا المثال أعمق وأقوى من وعينا نحن البالغين. كل ما يحتاجه منا هو المادة الخام ليملأ بها ذاته بانسجام من جميع الجوانب. حين منحتُ الطفل حرية كاملة، متوقفًا عن محاولات "تعليمه"، أبدع هذه القصة الشعرية التي لا مثيل لها في الأدب الروسي. لذا، أرى أنه من المستحيل علينا تعليم الأطفال - خاصة أبناء الفلاحين - فن الكتابة والتأليف، لا سيما التأليف الشعري. كل ما يمكننا فعله هو أن نريهم نقطة البداية.

 

إن كان ما فعلته لتحقيق هذه الغاية يمكن تسميته منهجًا، فإليكم هذه المبادئ:

 

أولًا: اقتراح أوسع وأكثر تنوعًا من المواضيع، لا نختلقها خصيصًا للأطفال، بل نقترح أكثرها عمقًا وجدية، تلك التي تثير اهتمام المعلم نفسه.

 

ثانيًا: تقديم أعمال الأطفال أنفسهم كمادة للقراءة ونماذج للتعلم، لأنها دائمًا ما تكون أكثر صدقًا وأناقة وأخلاقية من أعمال البالغين.

 

ثالثًا - وهذا بالغ الأهمية: عند مراجعة أعمال الأطفال، يجب الامتناع تمامًا عن إبداء أي ملاحظات حول نظافة الدفاتر أو جمال الخط أو صحة الإملاء، وبالأخص حول ترتيب الأفكار أو المنطق.

 

رابعًا: كما في عالم الأدب، حيث لا تكمن الصعوبة في حجم العمل أو محتواه أو تعقيد موضوعه، يجب ألا يكون التقدم في المواضيع مرتبطًا بحجمها أو محتواها أو لغتها، بل بآلية الإبداع نفسها. هذه الآلية تتضمن: أولًا، اختيار فكرة واحدة من بين عشرات الأفكار والصور المتزاحمة؛ ثانيًا، انتقاء الكلمات المناسبة لتجسيدها؛ ثالثًا، حفظها وإيجاد موضعها المناسب؛ رابعًا، تذكر ما سبق كتابته لتجنب التكرار أو الإغفال، مع القدرة على ربط اللاحق بالسابق؛ وأخيرًا، الموازنة بين التفكير والكتابة دون السماح لأحدهما بالتشويش على الآخر.

 

لتحقيق هذه الغاية، اتبعت النهج التالي: في البداية، توليت بعض هذه المهام بنفسي، ثم بدأت تدريجيًا في نقلها جميعًا إلى عهدة الأطفال. بدأت باختيار أفضل الأفكار والصور لهم، وتحديد مواضعها، وتصحيح ما كُتب، ومنع التكرار. كنت أكتب بنفسي، تاركًا لهم مهمة صياغة الأفكار والصور بكلماتهم. ثم منحتهم حرية الاختيار الكامل، وسمحت لهم بتصحيح ما كُتب. وأخيرًا، كما في قصة "حياة جندي"، تولوا العملية الكاملة للكتابة بأنفسهم.

 

لم يكن هناك شك في أن هذا النجاح كان مزيجًا من الصدفة والإلهام: لقد عثرنا، ربما عن غير قصد، على طريقة أكثر طبيعية وتحفيزًا من كل ما جربناه سابقًا. كان الأمر استثنائيًا لدرجة أنني كدت لا أصدق ما كان يحدث أمام عيني. كان لا بد من حدوث ما يبدو وكأنه معجزة لتبديد شكوكي وإقناعي بحقيقة ما نشهده.

***

خاصة ب "تعبير"

 

 

مراجع وهوامش


Title: Who Should Learn Writing of Whom; Peasant Children of Us, or We of Peasant Children?
Author: Leo Tolstoy
Topics: Educationschoolyouth
Date: 1862
Source: Original text from RevoltLib.com, 2021.