المعلم الجاهل
خمسة دروس حول التحرر الذهني
جاك رانسيير
مقدمة الترجمة العربية
كان ينبغي لهذا الكتاب أن يترجم إلى العربية منذ أمد بعيد، ليس لأن مؤلفات جاك رانسيير مؤلف هذا الكتاب ينبغي لها إن تتوافر في العربية لقرائها لأهميتها في حقولها المعرفية فحسب، بل لأنها تعيد تناول ما يبدو بدهياً وتُسائله في بداهته أصلاً، وتقلب المسائل من وجوه لم يعتد الناس تقليبها منها، وتبدو في العادة كمألوفات مسلم بها. ويقع هذا الكتاب في جوهر هذه المساءلة.
ويبدو حرياً بنا في أوقاتنا هذه أن نحاور ما يتضمنه الكتاب من أفكار جريئة تفكك المألوف وتقوض أساساته، فهو كتاب يبحث في مسألة الحرية في سياق التعليم، وفي علاقة الأستاذ بتلميذه، وهذا الأمر جوهري للنظر فيه من حيث أن علينا أن نعيد مساءلة هذه العلاقة بعمق وجرأة، وعلى جميع مستوياتها.
لا يبدو عنوان الكتاب غريباً وحسب، بل قد يبدو مستهجناً لكثيرين أيضاً؛ فكيف يمكن للمعلم أن يكون جاهلاً وهو صاحب المعرفة، وسيد الرسالة المقدسة، الذي حظي، عبر جميع الثقافات والمجتمعات، بالمكانة الرفيعة، والاعتراف بدوره الخاص في تعليم النشء وتربيته؟! فما يتعارف عليه الناس أن التعليم يقوم على ما يعرف المعلم، وليس على ما يجهله، ولكن الكتاب يذهب إلى أن التعليم ينبغي أن يقوم على ما نجهل، حيث "بإمكاننا تعليم ما نجهله"، وليس على ما نعرف. ولعلني لا أبالغ في الاستنتاج بأن رؤية من هذا الطراز لم تكن غريبة عن تراث معرفي عربي إسلامي متبصر، أعمتنا أحادية الرواية واستنساخ التلقي عنه فأقصيناه، وإلا ما الذي يحمله تراث هائل في ثقافة كانت ترى في الجهل جوهر المعرفة؛ فـ"معرفة لا جهل فيها لا تبدو، وجهل لا معرفة فيه لا يبدو" كما يشير لنا النفّري. إن المعرفة تضيء الجهل، والجهل ينير المعرفة. والطرق المقررة سلفاً المضاءة بخطى من سبقوا بالسير فيها، لا تشبه أبداً تلك الطرق المجهولة المعتمة التي تضيئها المغامرة والبحث والكشف. ففي كتابه المواقف والمخاطبات الكثير فيما يخص مدح الجهل الذي يفتح فضاء المعرفة، ويمكن الرجوع إليه واستكشاف ما أنتجته حضارتنا وما تنتجه حضارات أخرى، وبالتالي يمكن لنا تأسيس حوار معرفي ملهم.
يبني رانسيير محاضراته الخمس المتضمنة في الكتاب على تجربة معلم اسمه جاكوطو، امتدت تجربته في التدريس لثلاثين سنة وأكثر، خبر فيها التعليم مع الأطفال ووصل إلى استنتاج يقوم على أن التفسير للتلاميذ يقيِّد عقولهم، لذا كان يرى أهمية ترك المجال لهم ليستكشفوا ويصلوا إلى استنتاجات تتأسس على البحث، لا على تلقي تفسيرات المعلمين، ولذلك فقد كان يفضل "متحرراً جاهلاً واحداً على مائة مليون عالم غير متحرر، تكوّن بفضل التعليم الشمولي"، وأن يتحرر المعلمون من دورهم في التفسير.
وفي هذا المقام، أود شكر د. عز الدين الخطابي الذي تصدى لمهمة ترجمة هذا الكتاب على تعقيده، وأن أقدِّر للزميل عمر القطان حثه لنا لنقوم بترجمته بعد أن كنا ظننا أنه قد ترجم إلى العربية، فإذ به قد كان مشروعاً لمؤسسة عربية، ولكنه تعثر، فعملنا على إعادة إحياء مشروع الترجمة، والحصول على حقوق ترجمته ونشره من جهة الاختصاص.
إننا نأمل في مركز القطان للبحث والتطوير التربوي في مؤسسة عبد المحسن القطان، من هذا الكتاب، أن يهز قناعات، وأن يسهم في تعميق حوارات عبر فتح نوافذ جديدة "للجهل" نحن في أمسّ الحاجة إليها من أجل "معرفة" حرة غير مقيدة، وربما وقتها سندرك، كمعلمين، أن "معرفتنا" التي قد نحقن بها تلامذتنا، لا تتأسس على "جهل" محفّز، بل على معرفة تُسَيِّر الأطفال على "السكة"!
مقدمة ثانية: “الجهل في الثقافة العربية الإسلامية – النفري مثالاً"
"وقال لي العلم المستقرّ هو الجهل المستقرّ.
وقال لي كُلّما قَويت في الجهل، قويت في العلم.
أوقفني في الليل وقال لي لا مَعْلُوم إلاَّ الجَهْل.
وقال لي أعدى عدوٍّ لك، إنما يحاول إِخْرَاجَكَ مِنَ الجَهْلِ لا مِنَ العِلْم.
وقال لي إِنْ صَدَّكَ عن العِلْمِ فإِنَّما يصُدُّك عنه ليَصُدَّكَ عَن الجَهْل.
وقال لي اخْتِم عِلْمَكَ بالجَهْلِ وإلا هلكت به.
وقال لي المعرفة التي ما فيها جهلٌ هي المعرفة التي ما فيها معرفة.
أوقفني في الدّلالة وقال لي المَعْرِفَةُ بَلاءُ الخَلْقِ ... وفي الجهل نجاة الخلق.
وقال لي معرفة لا جهل فيها لا تبدو.
أوقفني وقال لي العِلْمُ على من رآني أضرُّ من الجهل.
أَوْقَفَني في اللَّيْلِ وقال لي إذا جاءك الليل فقف بين يديّ وَخُذْ بيدك الجَهْلَ فاصرف به عنّي عِلْمَ السّماوات والأرض.
وقال لي احتجب عن العِلْمِ بالجَهْلِ وإلاّ لم ترني ولم ترَ مجلسي.
وقال لي العلوم كلّها حُجُبٌ؛ كل علم منها حجابُ نفسه وحجاب غيره.
وقال لي الجهل حدّ في العلم وللعلم حدودٌ، بين كل حدّين جهل.
وقال لي الجهل ثمرة العلم النّافع، والرِّضا به ثمرة الإخلاص الصّادق.
وقال لي اكتب حكمة الجاهل كما تكتب حكمة العالم.
وقال لي العلم الذي ضده الجهل؛ علم الحرف، والجهل الذي ضدّه العلم جهل الحرف. فاخرج من الحرف تعلم علماً لا ضدّ له. وتجهل جهلاً لا ضدّ له.
وقال لي أُخْرُجْ مِن العِلْم الذي ضده الجهل، ولا تخرج من الجهل الذي ضده العلم تَجِدُنِي.
وقال لي أُخْرُجْ مِنَ العِلْمِ، تَخْرُجْ مِنَ الْجَهْلِ".
(النفري، المواقف والمخاطبات).
وسيم الكردي
الفصل الأول
مغامرة فكرية
جاك رانسيير
ترجمة: د. عزالدين الخطابي
في سنة 1818، انخرط جوزيف جاكوطو (Joseph Jacotot) ، أستاذ الأدب الفرنسي المساعد بجامعة لوفان (Louvain) في مغامرة فكرية متميزة . وقد كان بإمكان المدة الطويلة والمضطربة التي قضاها في العمل، أن تحميه من المفاجآت. ففي سنة 1789 احتفل بعيد ميلاده التاسع عشر، حيث اشتغل مدرسا للبلاغة بمدينة ديجون (Dijon) وكان يتهيأ لولوج سلك المحاماة. وفي سنة 1792، عمل جنديا في المدفعية بجيش الثورة وتقلب في عدة مناصب خلال فترة تأسيس الجمعية العمومية (البرلمان)، من مدرب بدائرة المتفجرات، إلى كاتب بوزارة الحربية ، فنائب مدير بمدرسة البوليتكنيك الهندسية .
وعند عودته إلى ديجون، قام بتدريس الحساب والرياضيات الخالصة وحساب التكامل والتفاضل، والإيديولوجيا، واللغات القديمة ،والقانون. وفي شهر آذار / مارس 1815، أصبح نائبا برلمانيا بفضل الاحترام الذي يكنه له مواطنوه. لكنه سيضطر إلى اختيار المنفى بعد عودة أسرة البوربون الملكية إلى الحكم، حيث تكرم عليه ملك هولندا بمنصب أستاذ، بنصف راتب. هكذا، تعرف جاكوطو على قواعد الضيافة وقرر قضاء فترة هادئة بمدينة لوفان. غير أن الصدفة ستغير مجرى حياته. وبالفعل، فإن دروس الأستاذ المساعد المتواضع، ستروق سريعا للطلبة وسيتضح بأن عددا كبيرا من الراغبين في الاستفادة منها لا يعرف اللغة الفرنسية، كما أن جاكوطو من جهته، كان يجهل اللغة الهولندية تماما . لهذا لم تكن هناك لغة يمكن عن طريقها ، تبليغ ما يحتاج إليه هؤلاء الطلبة . ومع ذلك، كانت لجاكوطو رغبة في الاستجابة لطلبهم، وكان من اللازم إقامة حد أدنى من التواصل معهم ، ليشترك الطرفان معا في شيء ما .
وحدث أن صدرت بمدينة بروكسيل (Bruxelles) في تلك الفترة ، طبعة مزدوجة اللغة لرواية طليماك (Telémaque) ( ظهرت الطبعة الأولى لهذه الرواية سنة 1699 ، وقد استوحاها مؤلفها فنيلون (Fénelon) من أوديسيا هوميروس التي تروي مغامرات طليماخوس ابن عوليس وبنيلوب – المترجم - ) . هكذا، تم إيجاد الشيء المشترك المرغوب فيه ودخل طليماك إلى مسرح حياة جاكوطو الذي سيسلم الرواية إلى طلبته وسيطلب منهم عن طريق مترجم ، بحفظ النص الفرنسي مع الاستعانة بالترجمة المرافقة للنص الأصلي . وعندما تمكنوا من حفظ نصف الكتاب الأول ، طلب منهم ترديد ما حفظوه باستمرار والاكتفاء بقراءة الباقي ، حتى يتسنى لهم روايته . طبعا ، كان هذا الحل مؤقتا ، لكنه شكل على المدى القصير تجربة فلسفية ، شبيهة بالتجارب الجاري بها العمل في القرن الثامن عشر (عصر الأنوار) . ورغم أن الواقعة حدثت سنة 1818 ، إلا أن جاكوطو ظل وفيا للقرن المذكور . هكذا، ستتجاوز التجربة ما كان منتظرا منها، بحيث سيكلف الطلبة الخاضعون لها بكتابة ملخص لما قرؤوه بالفرنسية. " وكان يتوقع الحصول على عجمة فظيعة وربما كانوا سيعلنون عن عجزهم المطلق. وبالفعل، كيف سيتمكن هؤلاء الشباب المحرومون من كل تفسير، من فهم وحل مشكلات لغة جديدة بالنسبة إليهم؟ ومهما يكن، فقد كان من الضروري معرفة نهاية هذا السبيل المنفتح على كل الاحتمالات ونتائج هذه المحاولة التجريبية اليائسة. وكم كانت دهشته كبيرة عندما اكتشف بأن هؤلاء الطلبة استطاعوا تجاوز هذا الحاجز الصعب بدون مساعدة أي أحد، مثلما يفعل الكثير من الفرنسيين. وإذن، أليست القدرة مقترنة بالإرادة؟ أو ليس كل الناس قادرين افتراضيا، على فهم ما أنجزه وفهمه آخرون؟ " (1).
كانت هذه التجربة المرتجلة بمثابة شرارة توقدت في ذهنه. فقبل ذلك، كان يؤمن بما يعتقده كل الأساتذة الذين يقومون بعمل متقن. وبيان ذلك، أن مهمة المعلم تتمثل في نقل معارفه إلى تلاميذه ، من أجل الرفع بمستواهم تدريجيا إلى مرتبة علمه . وكان يعرف مثل الأساتذة الآخرين ، بأن الأمر لا يتعلق بشحن ذهن التلاميذ بالمعارف ومطالبتهم بترديدها مثل الببغاوات وبأنه من اللازم تحصينهم من المجازفات التي تتيه فيها العقول غير القادرة على التمييز بين ما هو أساسي وما هو ثانوي وبين المبدأ والنتيجة .
وباختصار، كان الفعل الأساسي للمعلم يتجلى في التفسير وفي إبراز العناصر البسيطة للمعارف وجعل بساطتها المبدئية ملائمة للبساطة المميزة لعقول صغار السن والجهال . فالتدريس كان في نفس الآن، تبليغا للمعارف وتكوينا للعقول كي تنتقل عبر تدرج منتظم ، من الأبسط إلى الأعقد . هكذا ، يرتقي التلميذ من حيث مستوى الامتلاك المعقلن للمعرفة ومستوى تكوين ذوقه وبلورة أحكامه ، إلى الدرجة التي يسمح بها وضعه الاجتماعي ، لكي يكون مهيأ لاستخدام هذه المعرفة وفق الغايات المحددة من طرف الوضع المذكور . وبهذا المقتضى، تكون مهن التدريس والمحاماة أو الحكم ، مخصوصة للنخب المثقفة ؛ ومهن الرسم أو صناعة الأدوات والآلات مخصوصة للطليعة الجديدة المنتقاة من الشعب ؛ ومهن البحث العلمي والابتكارات الجديدة مخصوصة للعقول الموهوبة والمتسمة بالنبوغ . ومما لا شك فيه ، أن مساعي هؤلاء العلماء كانت مختلفة بشكل جلي عن النظام المعقول للبيداغوجين .فلم تكن هناك أية حجة مناهضة لهذا النظام ، بل على العكس ، كان من اللازم الحصول على تكوين متين ومنهجي ، من أجل تشجيع العبقريات المتفردة . وهو ما عبرت عنه الصيغة اللاتينية الشهيرة (Post hoc , ergo propter hoc) ( تبعا لذلك ، إذن بسبب ذلك ) . هكذا كان يفكر الأساتذة المتقنون لعملهم وهكذا فكر جاكوطو على مدى ثلاثين سنة من ممارسته لمهنة التدريس . لكن وبالصدفة ، ستتعرض العملية للعرقلة من الداخل . فهو لم يقدم لتلاميذه إي تفسير بخصوص العناصر الأولى للغة ، ولم يوضح لهم الإملاء ولا الصرف . لهذا ، قاموا بمفردهم بالبحث عن الكلمات الفرنسية المقابلة للكلمات المعروفة لديهم وعن كيفية إعرابها . كما تعلموا بمفردهم تركيب الجمل الفرنسية التي أصبحت كتابتها وقواعدها مضبوطة تدريجيا ، مع التقدم في قراءة الكتاب . وطبعا، فإن الأمر سيتعلق بعمل من إنجاز مجموعة من الكتاب وليس من إنجاز التلاميذ . فهل كانت تفسيرات المعلم غير ضرورية إذن ؟ وحتى لو اعتبرناها ضرورية ، فمن الذي سيستفيد منها ؟
- النظام المفسر :
وهنا سيستنير ذهن جاكوطو فجأة بهذه البداهة المترسخة داخل كل المنظومات التعليمية ، وهي ضرورة التفسير . فلا توجد ضمانة أفضل من هذه البداهة ، لأن معرفة كل واحد منا مقترنة في الحقيقة بما فهمه . ولكي يفهم المرء ، لا بد من حصوله على تفسير يتمكن قول المعلم عبره من اختراق حجب المادة المدرسة .
ومع ذلك ، فإن هذا المنطق يعتريه بعض الغموض ، كما سيتضح من المثال التالي : يوجد كتاب بين يدي تلميذ ما ، ويشمل هذا الكتاب مجموعة من الاستدلالات الهادفة إلى إفهام التلميذ مادة معينة . وفي الطرف الآخر ، يوجد المعلم الذي سيفسّر مضامين الكتاب . فهو يقدم مجموعة من الاستدلالات لتفسير الاستدلالات المتضمنة في الكتاب المذكور . لكن ، لماذا يحتاج التلميذ إلى مثل هذه المساعدة ؟ ألم يكن في وسع والد التلميذ تقديم الكتاب إلى ابنه بدل دفع أجر المفسر ، وبذلك سيفهم الطفل مباشرة استدلالات الكتاب؟ وعلى افتراض أنه لم يفهمها ، فهل سيستوعب الاستدلالات التي تفسر له ما لم يتمكن من فهمه ؟ وهل تعتبر هذه الاستدلالات من طبيعة أخرى ؟ ألا يتعين في هذه الحالة تفسير طريقة فهمها ؟
هكذا ، يتضمن منطق التفسير مبدأ ارتداد لا متناهي ؛ فتضاعف الاستدلالات لن يجد أي مبرر للتوقف . وما يوقف الارتداد ويمنح للمنظومة قاعدتها ، هو كون المفسر بكل بساطة الحكم الوحيد بالنسبة للوضع الذي يكون فيه التفسير مفسرا . وهو أيضا حكم بالنسبة للسؤال الصعب التالي : هل سيتمكن التلميذ من فهم الاستدلالات التي ستعلمه كيفية فهم الاستدلالات ؟ وهنا ينتصر المعلم على رب الأسرة ، إذ كيف سيكون هذا الأخير متأكدا من أن الطفل فهم استدلالات الكتاب ؟ ذلك أن ما ينقص الأب وما سينقص هذا الثلاثي المكون منه ومن الطفل والكتاب ، هو الفن المتفرد للمفسر ، ألا وهو فن إدراك المسافة . فالسر المكنون للمعلم يتمثل في تعرفه على المسافة الفاصلة بين المادة المدرسة وذات المتعلم ، وأيضا بين التعلم و الفهم . وبهذا المقتضى ، سيكون المفسر هو الذي يضع ويلغي المسافة وهو الذي يبسطها ويزيلها داخل كلامه . ولا يقوم هذا الوضع المتميز للكلام بإلغاء الارتداد اللانهائي ، إلا لكي يقيم تراتبية مفارقة . وبالفعل ، يحتاج نظام المفسر عموما إلى تفسير شفوي لتفسير التفسير المكتوب . ويفترض ذلك أن الاستدلالات تكون أوضح وتنطبع في ذهن التلميذ بشكل أفضل ، عندما يتم تبليغها عن طريق كلام المعلم الذي يتبدد على الفور ، وليس عندما توجد في الكتب ، حيث تكون مسجلة بحروف لا تمحى . فكيف نفهم هذا الامتياز المفارق للمنطوق على المكتوب وللسمع على الرؤية ؟ وبالتالي ، ما هي العلاقة بين سلطة الكلام وسلطة المعلم ؟
تلتقي هذه المفارقة مباشرة مع أخرى وهي أن الكلمات التي يتعلمها الطفل بشكل أفضل ويفهم معناها ويمتلكها لاستعمالها بشكل أفضل أيضا ، هي التي يتعلمها بدون مساعدة المعلم المفسر وقبل أي لقاء به . فما يتعلمه أبناء البشر بشكل جيد ، في إطار الحصيلة غير المتكافئة للتعلمات الذهنية المتنوعة ، هو عدم استطاعة أي معلم إمدادهم بتفسير للغتهم الأم. لأن الكلام يوجه إليهم ويتداول حولهم ، وهم ينصتون ويحفظون ويقلدون ويرددون ويخطئون ويصححون أخطاءهم وينجحون بالصدفة ويعيدون الكرة بشكل منهجي ويستطيعون كلهم تقريبا فهم لغة آبائهم وتكلمها في سن مبكرة ، كيفما كان جنسهم ووضعهم الاجتماعي ولون بشرتهم وقبل أن يباشر المفسرون مهمة تعليمهم .
والحال ، أن هذا الطفل الذي تعلم الكلام اعتمادا على ذكائه الخاص ، وبفضل معلمين لا يفسرون له اللغة ، سينخرط في عملية تعليم حقيقية . هكذا ، سيشعر بأنه لا يستطيع التعلم بالاعتماد على نفس الذكاء المستخدم من قبل ، وكأن استقلالية العلاقة بين التعلم والتحقق أصبحت شيئا غريبا بالنسبة إليه . فبين هذا وذاك سادت الضبابية ، لأن الأمر أصبح متعلقا بالفهم ، وهذه الكلمة تلقي بظلالها على كل الأشياء ، إذ لا يمكن أن يفهم الطفل بدون تفسيرات المعلم . وطبعا ستزداد تفسيرات المعلمين بازدياد عدد المواد المقررة التي يتعين فهمها تدريجيا . تضاف إلى ذلك ، الحالة الغريبة لهذه التفسيرات التي لم تتوقف منذ بداية عصر التقدم ، عن إتقان أدواتها من أجل تقديم تفسير وإفهام أفضل ومن أجل تعلم أجود للتعلم ؛ ومع ذلك لم يحصل أي تحسن على مستوى الفهم . بذلك ستتزايد حدة الاحتجاجات على الانخفاض المستمر لفعالية النظام التفسيري الذي يتطلب طبعا إتقانا جديدا ، لجعل التفسيرات أسهل استيعابا بالنسبة لأولئك الذين لا يفهمونها .
لقد تمثل كشف جاكوطو في ضرورة قلب منطق النظام التفسيري . فليس من اللازم اعتماد التفسير لمعالجة عدم القدرة على الفهم ، بل على العكس من ذلك ، فإن عدم القدرة يعبر عن الوهم المهيكل للتصور التفسيري للعالم . فالمفسر هو الذي يحتاج إلى غير القادر وليس العكس ، لأنه هو الذي يصنع غير القادر باعتباره كذلك . ذلك أن تفسير شيء لشخص ما ، معناه إثبات أن هذا الأخير غير قادر على فهمه بنفسه .وقبل أن يصبح التفسير فعلا مقترنا بالمربي (البيداغوجي)، اعتبر أسطورة بيداغوجية ورمز عالم منقسم إلى عقول عالمة وأخرى جاهلة وإلى عقول ناضجة وأخرى فجة وإلى قادرين وغير قادرين وإلى أذكياء وبلداء . وتتجلى المهارة الخاصة للمفسر في الحركة الافتتاحية المزدوجة التالية : فمن جهة ، يعلن عن البداية المطلقة ، أي عن اللحظة التي سينطلق فيها فعل التعلم . ومن جهة أخرى ، يلقي حجاب الجهل على كل الأشياء التي يتعين تعلمها ، حتى يكون هو الوحيد المسؤول عن رفعه . هكذا ، سيحاول الكائن الصغير التقرب منه وسيشرع في التعلم ، بعد أن سار على غير هدى ، معتمدا على حدسه فقط . وهنا سيسمع الكلمات وسيرددها وسيطالب بالقراءة ، إلا أنه لن يسمع الكلمات ما لم يسمع المقاطع اللفظية ، وقبل ذلك ، ما لم يسمع الحروف التي لا يحتاج إلى عون الكتاب أو الآباء لسماعها ، بل إلى كلام المعلم .
قلنا إن الأسطورة البيداغوجية قسمت العالم إلى قسمين . لكن يجب القول للتدقيق أكثر ، بأنها قسمت الذكاء إلى قسمين . فهناك حسب هذه الأسطورة ذكاء أدنى وآخر أعلى . أما الأول فيسجل الإدراكات بلا تبصر ويحتفظ ويؤول ويكرر تجريبيا ما يتلقاه داخل الدائرة الضيقة للعادات والحاجات ؛ إنه ذكاء الطفل الصغير والعوام . وأما الثاني ، فيعرف الأشياء عن طريق الاستدلالات ويشتغل بطريقة ممنهجة ، منتقلا من البسيط إلى المعقد ومن الجزء إلى الكل . فهو الذي يسمح للمعلم بتبليغ معارفه وتكييفها مع القدرات الذهنية للتلميذ وبالتحقق من كون هذا الأخير فهم ما تعلمه . وذلك هو مبدأ التفسير الذي يعتبره جاكوطو مبدأ التبليد .
لنفهم الأمر جيدا ولنعمل على استبعاد كل الانطباعات المعروفة . فالشخص المسؤول عن التبليد ليس هو المعلم القديم ، صاحب العقلية الجامدة الذي يشحن ذهن تلاميذه بالمعلومات غير المنظمة ؛ وليس هو ذلك الكائن الشرير الذي يرتكز على حقيقة مزدوجة لضمان سلطته وسلطة النظام الاجتماعي . على العكس من ذلك ، فإن فعالية هذا الشخص ستتجلى بشكل أكبر كلما كان عالما متنورا وصادقا . فكلما كان عالما ، بدت له بشكل بديهي المسافة القائمة بين معرفته وجهل الجهال . وكلما كان متنورا ، بدا له الاختلاف بين السير على غير هدى والبحث بشكل منهجي ، أمرا بديهيا ، وعمل على تعويض الحرف بالعقل وسلطة الكتاب بوضوح التفسيرات .
وقبل كل شيء ، تقر هذه الأسطورة البيداغوجية ، على ضرورة أن يفهم التلميذ ، وينبغي لهذا الغرض ، أن تقدم له التفسيرات بشكل أفضل وباستمرار . ذلك هو هم البيداغوجي المتنور . لكن هل يفهم الطفل الصغير هذا الأمر ؟ كلّا. إذن سأجد طرقا جديدة للتفسير ، تكون أكثر صرامة من حيث المبدأ وأكثر جاذبية من حيث الشكل وسأتحقق من مدى فهمه . فيا له من هم نبيل . لكن للأسف ، تعتبر هذه الكلمة الصغيرة المتمثلة في الفهم بوصفه شعار المتنورين ، هي سبب كل الأضرار . فهي التي توقف حركة العقل وتدمر ثقته في ذاته وتحيد به عن سكته ، بتقسيم عالم الذكاء إلى قسمين وإقرار القطيعة بين الحيوان الصغير الذي يتلمس طريقه والعالم المختال بنفسه ، أي بين الحس المشترك والعلم . فما أن يتم الإعلان عن هذا الشعار الثنائي ، حتى يصبح إتقان طريقة الإفهام بوصفه انشغالا كبيرا للمنهجيين والتقدميين ، بمثابة تقدم في عملية التبليد . فالطفل الذي يتهجى تحت تهديد الضربات ، يخضع للعصا لا أقل ولا أكثر وسيستخدم ذكاءه في أمور أخرى . لكن هذا الطفل الذي تلقى التفسير سيستثمر ذكاءه في هذا العمل الذي يسلم بعدم الإحاطة به ، حيث يعني الفهم بالنسبة إليه ، أنه لن يفهم ما لم نقدم له تفسيرا لذلك . فهو لم يعد خاضعا للعصا ولكن لتراتبية عالم الذكاءات . وفي ما عدا ذلك ، سيشعر بالطمأنينة مثل الآخرين . فإذا كان حل المسألة صعبا جدا ، فإن ذكاءه سيدفعه إلى التعبير عن عجزه ؛ وسيكون المعلم من جهته ، يقظا وصبورا بهذا الخصوص ، فهو سيدرك بأن الصغير لم يعد قادرا على المتابعة، لذلك سيعيده إلى السكة ، عبر إعادة التفسير . وبالتالي، سيكتسب الطفل ذكاء جديدا ، مقترنا بتفسيرات المعلم . ويمكنه أن يصبح فيما بعد مفسرا بدوره ، فهو يمتلك العدة وسيتقنها ، بما أنه سيكون إنسانا مدافعا عن التقدم .
- الصدفة والإرادة :
كان هذا هو حال المفسرين الخاضعين بدورهم للتفسير . وكان من الممكن أن يكون هو حال الأستاذ جاكوطو ، لو لم تضعه الصدفة أمام واقعة . فقد كان يعتقد بأن على كل استدلال الانطلاق من الوقائع والخضوع لها . ولا يعني ذلك أن جوزيف جاكوطو كان ماديا . فهو على العكس كان يقر ، مثل ديكارت (Descartes) الذي برهن على الحركة وهو يمشي ، وأيضا مثل معاصره مين دوبيران (Maine de Biran) الملكي والمتدين جدا ، بوقائع العقل الفاعل وكان يعتبر نشاط هذا العقل أكثر يقينية من كل الأشياء المادية . وهذا هو بيت القصيد ، ففي الواقع تعلم طلبته نطق الفرنسية وكتابتها دونما حاجة إلى تفسيراته . فهو لم يلقنهم علمه ولم يفسر لهم جذور الكلمات (Radicaux) ولا إعرابها (Flexions) . كما أنه لم يتبع طريقة بعض البيداغوجيين الإصلاحيين ، مثل مربي إميل (Émile) ( المقصود هنا مؤلَّف جان جاك روسو الذي عرض فيه لتصوره التربوي – الفلسفي . المترجم ) ، الذين يضللون تلاميذهم ليرشدونهم بشكل أفضل فيما بعد والذين يضعون بمكر ، عدة حواجز ويطالبون هؤلاء التلاميذ باجتيازها اعتمادا على أنفسهم . فهو قد تركهم وحدهم أمام نص فنيلون – الذي لم تكن ترجمته مدرجة بين السطور كما هو معمول به في المدارس – معتمدين على إرادتهم في تعلم الفرنسية . هكذا ، أمرهم باجتياز غابة تجهل مخارجها ، واضطر إلى ترك ذكائه جانبا ، والمقصود به ذكاء المعلم الذي يشتغل كوسيط ويربط بين الذكاء المسجل داخل الكلمات المكتوبة وذكاء المتعلم . في نفس الآن ، عمل على إلغاء تلك المسافة المتخيلة التي تعتبر مبدأ التبليد البيداغوجي . فكل شيء تم تحت تأثير العلاقة بين ذكاء فنيلون الذي أراد استخدام اللغة الفرنسية بطريقة معينة ، وذكاء المترجم الذي أراد أن يضع المقابل الهولندي للنص الفرنسي ، وذكاء المتعلمين الذين أرادوا تعلم اللغة الفرنسة . وبدا من خلال هذه العلاقة ، أنه ليس هناك ضرورة لاعتماد ذكاء الآخر . وبشكل تلقائي ، جعلهم جاكوطو يكتشفون معه ما توصل إليه ، وهو أن كل الجمل وبالتالي كل الذكاءات التي تنتجها ، هي من نفس الطبيعة . فالفهم هو عبارة عن ترجمة أو وضع مقابل للنص وليس لأسبابه . ولا يوجد شيء أو خلفية وراء الصفحة المكتوبة ، يستدعي عمل ذكاء آخر ، أي ذكاء المفسر ، كما لا توجد لغة المعلم ، أي لغة حول اللغة تتوفر كلماتها وجملها على سلطة الحديث عن علل كلمات وجمل النص . وقد قدم الطلبة الفلامانيون (Flamands) البرهان على ذلك : فللحديث عن كتاب طليماك ، لم يكن بين أيديهم سوى كلمات هذا الأخير . لهذا ، كان يكفي اعتماد عبارات فنيلون لفهم جمله والتعبير عما تم فهمه . فالتعلم والفهم هما طريقتان للتعبير عن نفس الفعل المتعلق بالترجمة ، ولا شيء يوجد خارج النصوص ، اللهم إرادة التعبير أي الترجمة . فإذا كان الطلبة قد استوعبوا اللغة عبر حفظهم لفنيلون ، فذلك لا يرجع فقط إلى التمرين القاضي بمقارنة صفحة اليمين بصفحة الشمال ، لأن ما يهم ليس هو القدرة على الانتقال من هذا العمود إلى ذاك ، بل القدرة على قول ما نفكر فيه بكلمات الآخرين . وإذا كان الطلبة قد تعلموا ذلك من فنيلون ، فلأن فعل هذا الكاتب كان هو نفسه فعل مترجم . فلكي يحول درسا في السياسة إلى حكاية أسطورية ، ترجم فنيلون بفرنسية عصره ، يونانية هوميروس (Homère) ولاتينية فرجيل (Virgile) واللغة العالمة أو البسيطة لمئات النصوص الأخرى ، من حكايات الأطفال إلى التاريخ الأكاديمي . وطبق على هذه الترجمة المزدوجة ، نفس الذكاء الذي يستخدمه الطلبة بدورهم ، لعرض آرائهم حول الكتاب بلغة هذا الأخير .
وفضلا عن ذلك ، فإن الذكاء الذي ساعدهم على فهم فرنسية طليماك ، كان هو نفسه الذي ساعدهم على تعلم لغتهم الأم ، من خلال الملاحظة والترديد والتحقق وإرجاع ما يبتغون معرفته إلى ما يعرفونه مسبقا والعمل والتفكير في ما أنجزوه . لقد اتبعوا خطوات غير مألوفة مثل الأطفال ، أي أنهم ساروا بغير هدى . وهنا نتساءل : ألم يكن من اللازم قلب النظام المألوف للقيم الفكرية ؟ ألم تكن منهجية السير على غير هدى ، المرفوضة في حد ذاتها ، هي الحركة الحقيقية للذكاء الإنساني الممتلك لسلطته الخاصة ؟ ألا يسجل منعها أولا وقبل كل شيء ، إرادة تقسيم الذكاء ؟ طبعا ، فإن المنهجيين يقرون بتعارض منهجية الصدفة السيئة مع المنهج الاستدلالي . لكنهم يمنحون لأنفسهم مسبقا ، ما يريدون البرهنة عليه . فهم يفترضون وجود حيوان صغير ، يرغب في الاكتشاف ويصطدم بأشياء العالم التي لا يستطيع رؤيتها ، لذلك فهو في حاجة إلى تدخلهم كي يتعلم التمييز بين هذه الأشياء . إلا أن الكائن الصغير المذكور ، هو أولا كائن متكلم . فالطفل الذي يردد ما سمعه ، والطالب الفلاماني " التائه " داخل طليماك الخاص به ، لا يسيران على غير هدى، لأن كل مجهوداتهما واكتشافاتهما تتجه صوب ما يلي : هناك قول موجه إليهما من طرف شخص ، ويريدان معرفته والإجابة عليه ، ليس كتلاميذ أو علماء بل كأشخاص ، مثلما يجيب المرء شخصا وجه إليه الكلام ، شخصا غير راغب في فحصه ، أي انطلاقا من مبدأ التكافؤ .
لقد اتضحت الحقيقة ، فهؤلاء الطلبة تعلموا بمفردهم ، بدون معلم مفسر . وما حدث مرة ، يظل ممكنا على الدوام . وفي جميع الأحوال ، فإن هذا الاكتشاف أحدث انقلابا في مبادئ الأستاذ جاكوطو . لكن هذا الأخير كان على دراية ، بوصفه إنسانا ، بالتغيرات التي تطال مسار أي إنسان . فقد كان أبوه جزارا قبل أن يشتغل محاسبا عند جده النجار الذي سهر على تعليم حفيده في المدرسة الإعدادية . وكان جاكوطو نفسه يزاول مهنة أستاذ للبلاغة عندما استدعي للخدمة العسكرية سنة 1792 . ومكنه تصويت زملائه من الارتقاء إلى رتبة نقيب في المدفعية . وفي سنة 1793 أصبح هذا المتخصص في اللاتينية (Latiniste)مدربا في مجال الكيمياء بدائرة المتفجرات وساهم في التكوين المكثف للعمال الذين كانوا يرسلون إلى مختلف مناطق البلد لتطبيق اكتشافات فوركروي (Fourcroy) . وتعرف في مكاتب هذا الأخير على فوكلان (Vauquelin) وهو قروي تمكن من الحصول على تكوين في الكيمياء بدون علم مشغله . وبمدرسة البولتكنيك ، عاين وصول شباب تم انتقاؤهم من طرف لجان شكلت بطريقة مرتجلة ، بناء على معيار مزدوج وهو تمتعهم بالحيوية الذهنية وبالروح الوطنية . ولاحظ كيف تطوروا وأصبحوا رياضيين جيدين ، ليس بفضل الرياضيات التي كان يفسرها لهم مونج (Monge) أو لاغرانج (Lagrange) ، بل بفضل الرياضيات التي كانوا ينجزونها أمام أعين أساتذتهم . واستغل جاكوطو نفسه ، وظيفته الإدارية لاكتساب كفاية رياضية سيستثمرها لاحقا عندما سيدرس بجامعة ديجون . كما أضاف العبرية إلى اللغات القديمة التي كان يدرسها وألف بحثا في النحو العبري . وقد اعتقد لأسباب لا يعرفها إلا هو ، بأن هذه اللغة ستتطور في المستقبل . وأخيرا ، اكتسب رغما عنه ولكن بصرامة ، خبرة البرلماني الذي يمثل الشعب . باختصار ، كان يعلم أن بإمكان إرادة الأفراد والأوضاع الخطيرة التي يجتازها الوطن ، أن تخلق قدرات غير مسبوقة في ظروف يتحتم فيها حرق مراحل التقدم القائم على التفسير . واعتبر بأن حالة الاستثناء المحكومة بحاجات الوطن ، لا تختلف مبدئيا عن الاستعجال الموجه لاكتشاف العالم من طرف الطفل أو المتحكم في المسار المتفرد للعلماء والمخترعين . وفيما وراء تجربة الطفل والعالم والثوري ، كشفت منهجية الصدفة المطبقة بنجاح على الطلبة الفلامانيين ، عن سرها الثاني . فمنهجية التكافؤ هذه ، كانت من قبل منهجية الإرادة ، لذلك فإن بإمكاننا التعلم بمفردنا وبدون معلم مفسر ، عندما نريد ذلك ، بفعل رغبتنا الملحة أو إكراهات الأوضاع المحيطة بنا .
- المعلم المحرِّر:
لقد اتخذت هذه الإكراهات بالمناسبة شكل تعليمات صادرة عن جاكوطو ؛ وأدى ذلك إلى نتيجة حاسمة بالنسبة للمعلم وليس بالنسبة للتلاميذ . فهؤلاء تعلموا بدون معلم مفسر ولكنهم لم يستغنوا عن المعلم مع ذلك . فمن قبل ، لم يكونوا متوفرين على المعرفة ، والآن أصبحوا مالكين لها ، وهذا معناه أن جاكوطو علمهم شيئا ما . ورغم ذلك ، فهو لم يبلغهم معرفته وبالتالي لم يتعلم التلاميذ معرفة المعلم . فوضع هذا الأخير تحدد بواسطة التعليمات التي أدخلت تلاميذه في دائرة يمكنهم الخروج منها بمفردهم ، وذلك بتنحية ذكائه جانبا وخلق المواجهة بين ذكائهم ومعرفة الكتاب . هكذا ، تم الفصل بين الوظيفتين المتجليتين في ممارسة المعلم المفسر وهما : وظيفة العارف ووظيفة المعلم . كما تم الفصل بين ملكتين ضمن فعل التعلم وتحرير العلاقة بينهما ، ونقصد بذلك الذكاء والإرادة . فبين المعلم والتلميذ، قامت علاقة خالصة بين إرادة وأخرى ، وهي علاقة هيمنة الأستاذ التي ستنبثق منها علاقة حرة تماما بين ذكاء التلميذ ومعارف الكتاب . ويعتبر هذا الأخير أيضا عنصرا مشتركا ورباطا ذهنيا مساويا بين المعلم والتلميذ . بذلك ستسمح هذه المنظومة بالفصل بين الأصناف المتعددة للفعل البيداغوجي وتحديد التبليد المفسِّر بدقة . فالتبليد يوجد حيث يكون الذكاء خاضعا لذكاء آخر. فالإنسان الراشد – وحتى الطفل – يكون في حاجة إلى معلم عندما لا تتوفر إرادته على القوة الكافية ليتبع طريقه بالاعتماد على نفسه. بيد أنّ هذا الخضوع هو فعليًّا خضوع إرادة لإرادة أخرى ، وهو لا يؤدي إلى التبليد إلّا عندما يربط ذكاء شخص ما بذكاء شخص آخر . والحال أننا نجد داخل فعل التعليم والتعلم إرادتين وذكاءين بحيث يشكل توافقهما ما ندعوه بالتبليد . ففي التجربة التي ابتكرها جاكوطو ، ارتبط التلميذ بإرادة هي إرادة المعلم وبذكاء هو ذكاء الكتاب ، وهما متمايزان تماما عن بعضهما البعض . وسيكون التحرر هو الاختلاف المعروف والقائم بين العلاقتين، أي فعل الذكاء الذي لا يخضع إلا لنفسه ، في الوقت الذي تطيع فيه الإرادة إرادة أخرى .
بذلك ، أدت هذه التجربة البيداغوجية إلى القطيعة مع منطق كل البيداغوجيات . فممارسة البيداغوجيين تقوم على التعارض بين المعرفة والجهل ، وهم يتميزون عن بعضهم البعض من خلال الوسائل المختارة لتحويل الجاهل إلى عالم . وهذه طرق صارمة أو متسامحة ، تقليدية أو حديثة ، منفعلة أو فاعلة ، ومن الممكن وضع مقارنة بين نتائجها ومردوديتها .
من هذا المنظور ، نستطيع في مقاربة أولى ، مقارنة سرعة تحصيل تلاميذ جاكوطو مع بطء الطرق التقليدية . وتفترض المواجهة بين الطرق المختلفة ، حدا أدنى من الاتفاق حول غايات الفعل البيداغوجي ، المتمثلة في نقل معارف المعلم إلى التلميذ . لكن جاكوطو لم ينقل أي شيء ولم يستخدم أية طريقة . فهذه الأخيرة كانت من ابتكار التلميذ ، كما أن تعلم الفرنسية بهذا القدر أو ذاك ، لم يكن مهما في حد ذاته . لهذا لم تعد المقارنة قائمة بين طرق عدة، بل بين استعمالين للذكاء وتصورين للنظام العقلي . فالطريق السريع لم يكن هو طريق أفضل بيداغوجيا ، بل كان طريق الحرية ، وهو الطريق الذي جربه جاكوطو مع جيوش الثورة في سنتها الثانية وعلى مستوى صناعة المتفجرات أو تأسيس مدرسة البولتكنيك الهندسية ، إنه طريق الحرية الذي يستجيب لضرورة المواجهة العاجلة للخطر المحدق بهذه الحرية نفسها ، وأيضا طريق الثقة في القدرة العقلية لكل كائن إنساني .
ويتعين التعرف على العلاقة الفلسفية الأساسية بين التبليد والتحرر ، من خلال العلاقة البيداغوجية بين الجهل والمعرفة . بذلك طرحت على المحك أربعة ألفاظ وليس لفظين فقط. فبإمكان فعل التعلم أن يتم وفق أربعة تحديدات مركبة بأشكال مختلفة ، مثلا بواسطة معلم محرِّر أو معلم يساهم في التبليد ، بواسطة معلم عارف أو جاهل . وطبعا فإن احتمال الاقتراح الأخير هو الأصعب . فمن الممكن أن نسمع عن اضطرار عارف التخلي عن تفسير معرفته ، لكن كيف يمكن أن نقبل بأن يكون جاهل سببا في حصول جاهل آخر على المعرفة ؟ فقد كانت تجربة جاكوطو نفسه غامضة من حيث قدرته على تعليم الفرنسيّة. لكن ما دامت قد بينت بأن معرفة المعلم ليست هي التي كونت التلميذ ، فلا شيء يمنع المعلم من تدريس شيء آخر غير معرفته ، أي تدريس ما يجهله . وبهذا المقتضى ، عمل جاكوطو على تنويع تجاربه وعلى القيام عن قصد ، بتكرار ما حدث عن طريق الصدفة . وشرع بالتالي في تدريس مادتين لا يتوفر على أية كفاية بشأنهما ، وهما مادة الرسم ومادة الموسيقى (البيانو). وقد رغب طلبة الحقوق في أن يشغل جاكوطو كرسي أستاذ بكليتهم ، غير أن جامعة لوفان انزعجت من التصرفات الغريبة لهذا الأستاذ المساعد الذي يأتيه الطلبة أفواجا، متخلين عن محاضرات أساتذتهم ، ويتكدسون داخل قاعة صغيرة تضيئها شمعتان فقط ، لكي يسمعوا كلاما مثل : " يجب أن تتعلموا بأنه ليس لدي ما أعلمكم إياه " (2) . واعتبرت السلطة التربوية التي تمت استشارتها في الموضوع بأنها لا تستطيع منح أية تسمية لهذا التعليم . وبالفعل ، فقد اهتم جاكوطو بتجريب الفرق بين العنوان والفعل ؛ وبدل إلقاء درس في القانون بالفرنسية ، كان يعلم طلبته فن المرافعة بالهولندية . وكانوا يرافعون بشكل جيد ، لكنه كان يجهل لغتهم .
- دائرة القوة :
بدت التجربة مرضية بالنسبة لجاكوطو ، لذلك أصبح من الممكن توضيحها . فباستطاعتنا تعليم ما نجهله إذا ما حررنا التلميذ ، أي إذا ما ألزمناه باستعمال ذكائه الخاص . فقد يقوم المعلم بسجن الذكاء بشكل تعسفي داخل دائرة لن يغادرها هذا الأخير إلا بفعل الضرورة . ويكفي لتحرير الجاهل ، أن يكون المرء متحررا هو نفسه ، أي واعيا بالسلطة الحقيقية للعقل الإنساني . فبإمكان الجاهل أن يتعلم بمفرده ما يجهله المعلم ، إذا كان هذا الأخير مقتنعا بهذه الإمكانية وأجبر المتعلم على تحيين قدراته . هكذا ، نبرز دائرة القوة المتجانسة مع دائرة العجز التي تربط التلميذ بمفسر الطريقة القديمة ( وسنطلق عليها من الآن فصاعدا هذه الصفة ) . لكن علاقات القوة تظل متمايزة ، فدائرة العجز قائمة باستمرار ، وهي تعبر عن مسار المجتمع الكامن وراء الصراع الجلي بين الجهل والعلم . ومن جهتها تنشر دائرة القوة نفوذها ، لكنها لن تتبدى إلا كتحصيل حاصل ( طوطولوجيا ) أو كأمر غير معقول ؛ إذ كيف سيفهم المعلم العارف بأن بإمكانه تعليم ما يجهله مثلما يقوم بتعليم ما يعرفه؟ فهو سيعتبر هذه الزيادة في القوة العقلية بمثابة تخفيض من قيمة العلم . ومن جهته ، فإن الجاهل سيعتبر بأنه غير قادر على التعلم بنفسه فبالأحرى تعليم جاهل آخر ؛ لأن المبعدين من عالم الذكاء ، يخضعون بأنفسهم لحكم إبعادهم . وباختصار ، ستشرع دائرة التحرر عندئذ في الظهور .
وهنا تبرز المفارقة . فإذا تأملنا الأمر بعض الشيء ، فإن " الطريقة " المقترحة ستبدو من أقدم الطرق ، وهي تتحقق كل يوم ، في كل المناسبات التي يحتاج فيها الفرد إلى امتلاك معرفة لا يتوفر بصددها على الوسائل الخاصة لتفسيرها . فلا يوجد إنسان على الأرض ، تعلم شيئا بمفرده دونما حاجة إلى معلم مفسر وإلى فرصة أخرى. هكذا ، سندعو هذه الطريقة في التعلم ب " التعليم الشمولي " وسنؤكد بمقتضى ذلك " بأن التعليم الشمولي وجد فعليا إلى جانب كل الطرق التفسيرية ، منذ نشأة العالم . وبالفعل ، فإن هذا التعليم الذاتي ساهم في تكوين كل العظماء " . لكن هناك أمر غريب وهو " أن كل واحد جرب ذلك ألف مرة في حياته ، إلا أنه لم يخطر ببال أحد أن يخاطب شخصا آخر قائلا : لقد تعلمت أشياء كثيرة بدون تفسير ، وأعتقد أن بإمكانك التعلم مثلي (..) فلا أنا ولا أي شخص آخر في العالم ، فكر في استخدام هذه التجربة لتعليم الآخرين " (3) . ويكفي أن نخاطب كل ذكاء غاف لدى كل واحد بالقول: استمر في فعل ما أنت فاعله (Age quod agis) " تعلم الفعل وقلده واعرف نفسك بنفسك ، فذلك هو مسار الطبيعة " (4) . كرر بشكل منظم الطريقة المنبثقة من الصدفة التي عرفتك بحجم قدرتك ، فبإمكان نفس الذكاء الاشتغال داخل كل فعاليات العقل الإنساني. وهنا نجد أنفسنا أمام أصعب قفزة . فالجميع يمارس هذه الطريقة عند الحاجة ، لكن لا أحد يريد الاعتراف بها أو تحدي الثورة الفكرية التي تعنيها . ذلك أن الدائرة الاجتماعية ونظام الأشياء ، لا يسمحان بالتعرف عليها كما هي ، أي كطريقة حقيقية ، يتعلم كل واحد ويقيس قدرته بواسطتها . ويجب التجرؤ على الاعتراف بذلك ومتابعة التحقق المنفتح لسلطة الذات ، وإلا فإن طريقة العجز القديمة ستبقى دوما داخل نظام الأشياء.
لكن ، من يرغب في الابتداء ؟ فقد وجد في عصر جاكوطو أناس عديدون ذوو إرادة طيبة، كانوا مهتمين بتعليم الشعب والرفع من شأنه بوصفهم مدافعين عن النظام الثوري القائم ، لكي يتخطى رغباته الغريزية . وباعتبارهم ثوريين جعلوه واعيا بحقوقه وكتقدميين عملوا على تقليص الهوة بين الطبقات عن طريق التعليم ، وكرجال صناعة منحوا أفضل الذكاءات الشعبية وسائل الارتقاء الاجتماعي . بيد أنّ أصحاب هذه النوايا الطيبة واجهوا عائقا رئيسيا ، وهو أن أفراد الشعب لا يتوفرون على الوقت الكافي ولا على المال لتحقيق هذه المكاسب . لذلك ، تم البحث عن وسائل غير مكلفة لنشر الحد الأدنى من التعليم الذي يعتبر حسب الحالات ، ضروريا وكافيا لتحسين وضع الكادحين . وقام التقدميون ورجال الصناعة بتفعيل طريقة سميت ب " التعليم التعاضدي " ، حيث تم تجميع عدد كبير من التلاميذ داخل مكان فسيح وتوزيعهم إلى مجموعات يقودها المتفوقون الذين سيصبحون مرشدين لزملائهم فيما بعد . هكذا ، ستنتشر تعليمات ودروس المعلم بواسطة هؤلاء المرشدين ، ليستفيد منها السكان الذين هم في حاجة إلى التعليم . وقد أعجب أنصار التقدم بهذه المبادرة ، فبفضلها نزل العلم من أعالي القمم إلى أبسط الذكاءات وتبعته السعادة والحرية .
ومع ذلك ، اعتبر جاكوطو بأن هذا النوع من التقدم يحد من الحرية ، لأنه بمثابة تدبير متقن. والحال ، أنه كان ينتظر شيئا آخر من شعار التعليم التعاضدي ، وهو أن يكون كل جاهل معلما لجاهل آخر ، بحيث يساعده على اكتشاف قدراته الذهنية . وبشكل أدق ، فإن مشكلته لم تكن متعلقة بتعليم الشعب ، لأن التعليم خصص للمجندين المنضوين تحت رايته (راية الشعب) وللمرؤوسين الذين تعين عليهم فهم الأوامر وللشعب الذي كان من اللازم قيادته ، بالمعنى التقدمي لمفهوم القيادة ، أي بدون ارتكاز على الحق الإلهي وبحسب تراتبية القدرات فقط . فمشكلته تعلقت بالتحرر ، أي بقدرة كل فرد من أفراد الشعب على الشعور بكرامته كإنسان ومعرفة قدرته الذهنية والعمل على استخدامها . وقد أكد مناصرو التعليم بأن هذه القدرة هي شرط الحرية الحقيقية . وبذلك أقروا بضرورة تعليم الشعب ، حتى ولو اختلفوا حول طريقة هذا التعليم .
لكن جاكوطو لم يقتنع بحصول الشعب على الحرية نتيجة ما يتلقاه من تعليم ، بل على العكس من ذلك ، رأى في العملية شكلا جديدا للتبليد .فمن يدرس دون أن يحرر ، يساهم في التبليد . ومن يحرر لا يهتم بما يجب على المحرَّر تعلمه . فبإمكانه أن يتعلم ما يريد ، ولربما لن يتعلم شيئا ؛ وسيعلم أن بإمكانه التعلم لأن نفس الذكاء يعمل داخل الإنتاج الإنساني ولأن الإنسان قادر دوما على فهم كلام الآخر .
لقد كان لناشر جاكوطو ابن يشكو من الإعاقة بشكل ميؤوس منه . وسيقوم جاكوطو بتعليمه العبرية وبعد ذلك أصبح هذا الابن عاملا ماهرا في الطباعة . طبعا فإن اللغة العبرية لم تفده في شيء ، اللهم في معرفة ما تجهله أكثر الذكاءات موهبة ومعرفة ، وهو أن التعلم لم يكن أمرا مستحيلا .
هكذا اتضحت الأشياء ، لأن الأمر لا يتعلق بطريقة لتعليم الشعب ، بل بمنفعة يتعين أن يكون الشعب على علم بها ، وهي أن قدرتهم لا تختلف عن قدرة الآخرين ، ويكفي الإعلان عن ذلك . وبهذا المقتضى ، سيؤكد بأن من الممكن أن نعلم ما نجهله وأن باستطاعة رب أسرة فقير وجاهل ، إذا كان محررا ، أن يقوم بتعليم أبنائه دونما حاجة إلى معلم مفسر . وحدد طريقة هذا التعليم الشمولي ، المتمثلة في تعلم شيء ما وتقديم الباقي انطلاقا من المبدأ التالي : وهو أن كل الناس سواسية في الذكاء .
لقد كان لهذه التجربة وقع مؤثر بلوفان وبروكسيل ولاهاي ، واضطر الناس إلى السفر من باريس وليون ومن إنجلترا وبروسيا ، لمتابعة الحدث ، كما ذاع الخبر بسان بطرسبورغ ونيو أورليانز وبلغ ريو دي جانيرو . واحتد السجال بهذا الخصوص على مدى سنوات، مما زعزع أسس جمهورية المعرفة. والسبب هو أن رجلا بسيطا وعالما شهيرا ورب أسرة فاضلا ، تصرف بجنون لأنه لم يكن يعرف اللغة الهولندية .
***
*الكتاب من إصدار: مؤسسة عبد المحسن القطان
مراجع وهوامش
- هوامش الفصل الأول :
1) Félix et Victor Ratier, « Enseignement universel. Émancipation intellectuelle », Journal de philosophie panécastique, 1838, p. 155.
2) Sommaire des leçons publiques de M. Jacotot sur les principes de l’enseignement universel, publié par J. S. Van de Weyer, Bruxelles, 1822, p. 11.
3) Enseignement universel. Langue maternelle, 6ème édition, Paris, 1836, p. 448, et Journal de l’émancipation intellectuelle, t. III, p. 121.
4) Enseignement universel. Langue étrangère, 2ème édition, Paris, 1829, p. 219.
المؤلف: جاك رانسيير، أستاذ سابق بشعبة الفلسفة بجامعة باريس 8، نذكر من بين مؤلفاته: ليل البروليتاريين (1981)، الخلاف. السياسة والفلسفة (1995)، على ضفاف السياسة (1998)، تقاسم ما هو محسوس. الجماليات والسياسة (2000).