"لا أحدَ يضعُ أطفالَهُ في قاربٍ إلا إذا كانَ الماءُ أكثرَ أمنًا مِنَ اليابسة".
ورسان شير
المركبُ الذي ينهشُهُ الملحُ يرتجُّ الآن
الأجسادُ الراحلةُ تتكومُ كهضبةٍ من لحمٍ!
الهضبةُ تتنفسُ
الأنفاسُ تبصقُ خيوطَها
كأنَّ الخيوطُ سترفو ما تهتكَ من أحلامٍ
الأحلامُ المتهتكةُ عالقةٌ بكتلةِ الملح
كتلةُ الملحِ العالقةُ بقاعِ المركبِ
في سماءِ المركبِ طيورٌ بيضاءُ بيضاءُ بيضاء
والمناقيرُ في انتظارِ الجثث!
***
ما قبلَ البدء
في العام 1851 وصل أول فلسطيني إلى البرازيل في رحلة لجوء قاسية وصعبة امتدت لأشهر، لعلنا نستطيع أن نتخيل أن سفينة شحن حملته من ميناء حيفا إلى مرسيليا أو جنوا وأخرى حملته إلى ريو دي جانيرو، وفي العام نفسه شارك تجارٌ فلسطينيون في معرض شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية وعرضوا تحفَا شرقية مصنوعة في الأرض المقدسة.
أمَّا في العقد الأخير من هذا القرن فقد حصدت قوارب الموت في المتوسط حياة آلاف من البشر فروا من ويلات الحروب من العراق وسوريا ومن بينهم فلسطينيون من غزة، بعضهم نجا وأكثرهم قضى.
وما بين تلك الهجرات الأولى التي تشكلت تحت وطأة الاستبداد والمجاعات والهجرات الجماعية التي لا زالت تحدث إلى يومنا هذا جرى تهجير فردي وجماعي على امتداد القرن العشرين فما كان منه على هيئة فرار الشباب إلى بلاد غربية هربا من التجنيد الإجباري الذي فرضته الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى أو خوفا من بطش الانتداب البريطاني مرورا بتهجير عشرات الألاف من مدنهم وقراهم في فلسطين إلى مخيمات لجوء لا زال معظمهما قائمة حتى هذا التاريخ.
من هذا الإطار التاريخي المركب والمتشعب والمتعدد الأوجه كان ممكنًا لمقاربات تعليمية مختلفة ومن بينها مقارباتٌ درامية أن تأخذ حيزها، وبخاصة أن موضوعة كهذه تؤثر وتتأثر بحياة الناس وتحفر في الثقافة وفي العلاقة بين الأمكنة وتغيّر مفهوم المكان والهوية. لقد لعبت حركة الانتقال عبر جغرافيات مختلفة تغييرا في إدراكنا للهوية عبر تفكيكها وإعادة النظر فيها، وفي ضوء ذلك أمكنَ للدراما، مثلا، التي اشتغلتها مع معلمين في برامج التكون المهني المختلفة أن تستكشف هذه المفاهيم؛ وأبرزها مفهوم المكان، المسافة، الآخر... وعلاقة ذلك بمصائر البشر وأقدارهم، وانعكاس ذلك على معنى الهوية في تجلياتها كتعبير هوياتي "التعريف الثقافي التاريخي للفرد والجماعة" أو كهوية تعريفية فردية "جواز السفر" وما بينهما من تداخلات وتدخلات.
في التمسك والتخلي وعلاقة كل ذلك بما يمكن أن نسميه ب “ألم الأمل" حيث الرحلة التي تبدأ من الانتزاع من مكانك الأول إلى مكانك الثاني أو الثالث أو … حيث هناك ما يدفعك للخلاص مما أنت فيه وهناك ما يرسم صورة الخلاص كنهاية وردية وما بين المبتدا والمنتهى هناك الكثير من الدم والألم والخوف والبطش والاستغلال والموت.
في هذه المقالة[1] أعبر ثيمة الانتقال، النزوح، الهجرة، التهجير… من خلال تجربتي المباشرة في التعليم سواء أكان ذلك في تعليم التلاميذ في المدرسة أم في التكون المهني للمعلمين.
***
لقد اعتمدت هنا نهجًا يدمج بين ما يسمى السرد المتشظي (Fragmented narrative) و السرد الكولاجي ((the narrative collage))، حيث عبرتُ محطات من التجربة الشخصية منذ كنت معلمًا في مدرسة إلى أن أصبحتُ معلمًا لمعلمين، ,الكتابة تبدو هناك كجذمور؛ الزمن يتداخل ويحاور بعضه، والقصص تجادل بعضها من مواقعها المختلفة ومن أزمنتها المتنوعة.
الكتابة تتخطى الخطيَّة في السرد، والكتابة في تجربة شخصية من هذا النوع أفضت إلى تخلّقُ هذا السرد المتشظي، إنها لعبة الأمكنة في الأزمنة ولعبة الأزمنة في الأمكنة.
إنِّ شظايا القصص المتناثرة عبر تاريخ التجربة وأمكنتها تتعالق لتجد صورتها على هيئة كتابة تبدو متخلية عمدَا عن“رصانة” البحث العلمي و”متطلباته”. إنها الكتابة كمرايا القصص وأشخاصها معًا.
(1) إنَّهُ كولاج
قبل عدة سنوات، قدَّمتُ في مؤتمرٍ للدراما في جامعة نيويورك ورقةً بحثيَّة بعنوان: "تكوين الخبرة: التجربة الإنسانية من الإنتاج الفني إلى الإدراك الجمالي"، وتناولتْ ثيمةَ تحوّلِ الممارسةِ الجماليةِ إلى خبرةٍ معرفيةٍ من خلال توظيف الدراما كسياق، ركَّزتُ فيها على المستوى المعرفي النظري في استناده إلى الممارسة العملية. اليوم، اخترتُ ألا أرهقكم كثيرًا، وأرهقني طبعًا، في الغوص في المستوى النظري كما يحدثُ غالبًا في كثير من المؤتمرات، وإن حدثَ وأوغلتُ فيه فاعذروني؛ النظريُّ له غوايتُهُ دائمًا، إنّه سفرٌ يشبهُ الرحيل.
في هذا النص يختلط نصي بنصوص أدبية وبنصوص معلمين ونصوص طلاب مدارس اشتغلتُ معهم واحتفظتُ بنصوصهم، لعلَّ نوعًا من الحوار/الاشتباك المعلن والضمني يجعل هذا الكولاج الكلامي كافيًا لمقتضيات هذا اللقاء.
§ فهل يمكن المراهنة على مداخلة في شظايا التجربة وشذراتها كـ (كولاج)؟ إنّها المحاولة.
(2) إنني أتغيرُ الآن!
شكرًا للدعوة، مُفْرِحٌ أنْ أكون هنا، ممتعٌ وغريب، إنَّها المرةُ الأولى لي في هذا الجزء من العالم، لم يكن لديَّ ما يكفي لأكوِّنَ صورة كافية له، ولستُ أدري بالضبط ما الذي سيفعله هذا القدوم بي. المؤكد أنني لن أعود أنا هذا الذي كنتُه، كما يحدث في كل سفرٍ. لا شيء في الحياةِ لا يتركُ أثرًا مهما تعاظمَ أو تضاءل؛ إنها الرحلة تعيد تشكيل الهوية وتبث فيها اشتباكاتها الجديدة، بالخطى ننسجُ المخيلةَ ونحبكُ أوهامَها وأحلامَها.
§ هل فعلًا لخطواتنا سطوتُها التي نظنُّ أنّها تَحْدُثُ كلما عبرنا؟
(3) وثيقتان للسفر، وثيقتان للمنع
بوثيقَتَي سفر اثنتين من الدرجة الثانية (أردنيةٍ وفلسطينيةٍ، وكلتيهما لا ترقيان إلى أن تكونا جوازَيْ سفرٍ لا من حيث الجنسية ولا المواطنة) وبكل الوثائق الداعمة، عبرتُ رحلةً منهكة كي يصل طلب الزيارة هذه إلى مرحلة النظر فيه، وانتظرت أكثر تأشيرة لا تأتي، ثم أتت في نهاية المطاف. وبرحلة امتدت إلى أكثر من يوم وليلة وصلتُ هنا. من يحظون بجوازاتٍ تتيح لهم السفر دون قيود قليلون في هذا العالم بالنسبة لعدد البشر، وهؤلاء، في معظمهم، ينتمون إلى دولٍ قوَّتُها هي التي فرضتْ مكانة لجوازاتها. اليوم يمكن أنْ نذهب إلى الإنترنت ونرى جداول ترتيب الدول (rating) حسب عدد الدول التي يتيحها الجواز دون تأشيرة أو بتأشيرة في المطار، وهذا يتغير بارتباط ذلك بالمصالح والعلاقات بين الدول. إنه صراعُ الصدارة في اللائحة. أمّا وثيقة السفر الفلسطينية (حسب passport index)، فإنها في أدناها؛ إنها تتيح 45 دولة، والأردنية تتيح 56 دولة من أصل 188 دولة معترفًا بها في هيئة الأمم. ولكنَّ من يحاولون اللجوء في بلادنا لا يريدون تلك البلاد المصرَّح لهم بها، إنهم يتطلعونَ إلى تلكَ الدولِ الممنوعةِ عليهم.
§ هل في لهاثنا خلف جواز سفر "كامل" لهاث يضعنا في أسر ِالنظام العالمي تمامًا؟ لماذا هذا اللهاثُ أصلًا؟
(4) الجهة الأخرى؟!
هنا في نيوزلندا، أقولُ الآن: أنا القادمُ من الجهة الأخرى من الكرة الأرضية، وحينما أعود إلى فلسطين سأقول أنا العائد من الجهة الأخرى من الكرة الأرضية. إنني أحمل شيئًا ما من هذا الـ"هناك" وأتركه "هنا"، وأحمل شيئًا من هذا الـ"هنا إلى الـ"هناك". هذه الأنا التي تنتقل من "أمكنتِها" إلى "أمكنة أخرى" لا تبقى على حالها، هذا الانتقال من "المألوف" إلى "المجهول" عبر "أفق توقُّعٍ" هو رحلةٌ؛ والرحلةُ فيها المغامرة، المخاطرة، المتعة، الخلاص، الألم، الخوف، الموت، الفرح، الرغبة ... .
§ إذن، أيُّهما هي الجهة الأخرى؟!
(5) الرحلة .. واقعًا ومجازًا
منْ أينَ أبدأُ الحديث إذنْ؟ لم أكنْ أتخيلُ حينما شرعتُ في إعداد هذه المداخلة أنَّ المحطاتِ التي عبرَتْها هذه "الأنا" (أقصد "أناي") مسكونةٌ بهجراتٍ كثيرة، إنَّها المفارقة "حيثُ الهجراتُ تسكنُني" في الوقائع، في النصوص، وفي الذكريات، ...! كأنما الانتقالُ هو مكوثٌ أيضًا. كأنما الانتقالُ هو سَكَنٌ. كأنَّنا نُسَكِّنُ رحيلَنا فينا ونسكنُ فيه، نَسْكُنُ ترحالنا الماديَّ والمجازي. فدونما قصد، وبلا أدنى تخطيطٍ، وخلالَ رحلةِ الكتابة هذه، أجدُ، بل أُفاجأ، بأن ثيمة الهجرة بصورِها المختلفةِ تلاحقني مذ كنتُ معلمًا لتلاميذ في المدرسة، إلى أنْ صرتُ معلمًا يعمل مع المعلمين، وتأخذني معها في تشكيل هويتي وإعادة تشكيلها في كل حركاتها وانتقالاتها واقعًا وخيالًا…
§ إذنْ، من أين أبدأُ العبورَ معكم؟ من أين أبدأُ هذه الرحلة؟ هل أذهبُ عبرَ خطِّها الكرونولوجي أم عبر القفز في الأزمنة وفي الأمكنة؟! ما المجازُ الذي أحتذيه ؟ أينَ المجازيُّ وأين الواقعي في كلِّ ذلك؟
(6) مراوغة الهويات
الهوياتُ لا تتشكلُ بخيطِ الزمنِ المتتابع أو عبرَ الأمكنةِ المتتالية، فالأمر أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير، إنها تروحُ وتجيء، تَمتصُّ وتَلْفظُ، تُظهِر وتبطنُ، تُعلنُ وتِسرُّ، تشتبكُ وتتصالحُ، تتقافزُ وتهمدُ، تُجرَحُ وتُضَمَّدُ، تنزفُ وتتوقفُ ... و"مع انتقال أجساد النازحين، فإنَّ الهوياتِ التي تسكنُها تنتقل أيضًا. التعقيدات تنشأ بتفاعلِ الهويات وانتقالاتها عبر الأزمنة والأمكنة كلما انزاحت عن الوطن ... "للكثيرين، فإن مسارات النزوح هي رحلات عنيفة"، وبصورة مماثلة، فإن تحوّلَ هويةٍ هو عنف. إن التشريد هو هزة لإحساس المرء بذاته، هزة لهويته". (Powell, 2012 :300)
§ أيَ تجلياتٍ للهوية تبدو نتيجة تحولاتها العنيفة التي لا تتوقف؟ كيف تقاومُ الذاتُ هزَّاتها؟
(7) الأنا لعينةٌ
مَنْ هي هذه الأنا إذن؟ هذه الأنا اللعينة التي نجتهدُ كبشر في كلِّ أصقاع الأرض لتعريفها؟ إنها تراوغُ وتتملص، تكشفُ وتحجبُ، تعطي وتمنع، تشتبك وتتراجع، تتقدمُ وتحجمُ ... أنتَ لا تعود أنتَ في كل لحظة تعبرُها في الأزمنة والأمكنة. كلُّ محاولة تعريف، هي محاولةٌ بلا جدوى، إنَّ مجردَ المحاولة هو انقلابٌ عليها، وهذا، ربما، هو سرُّها وسرُّ عدمِ القبض فيها على المعنى؛ المعنى الذي يتملَّص منَّا دائمًا. التعريفات، بمعنى ما، هي سقوط في حبائل المعنى التي تتشكلُ من خيوطٍ تنسجها الذاكرةُ وجسدُها معًا عبر ارتحالاتٍ داخلية وخارجية.
§ من أنا إذن؟ منْ أنتَ؟
(8) هجرتي الأولى
هجرتي الأولى، أو لنقل رحيلي الأول، كانَ تهجيرَ أبي؛ تهجيرُ أبي المادي كان تهجيرًا ذاكريًا لي، المكانُ الذي لم أعشْ فيه ولم يكدْ يعيش فيه هو أيضًا، أصبحَ مكانًا تحتلُهُ الذاكرةُ بعد أن احتُلَّ بيته في القدس الغريبة في العام 1948، وأصبحَ مسكونًا بقادمين جدد إلى البلاد، أُزيحَ قسرًا من بيته في غرب المدينة ليجدَ نفسَهُ في شرقِها. هجرةُ أبي الواقعية غدتْ هجرةً مجازية لي، ضغطُ مجازيتها الثقافي حوَّلَها لتغدو وكأنها هجرتي الواقعية، ما حمَّلَني إياه أبي عبر رحلة سرد قصة البيت، وعبر رحلة اصطحاب أبي لي في زيارة إلى البيت بعد احتلال شرق المدينة في العام 1967 بسنوات كانتا كافيتين ليغدوا عصبًا في رحلة العمر. . كأنَّما القصةُ كنصٍّ (شفوي وقصاصات مكتوبة) والزيارة كخُطى، كانتا كافيتين لهذا التعلِّق وهذا الإحساسُ بفقدان مكانٍ لم أعشْ فيه لحظة واحدة. دائمًا أحسُّ بأنَّ هناك سببًا ثالثًا، لا أدركُه ولا أجتهدُ في التقاطه، لهذا التذكُّرِ المستمرِ، وهذا الرحيل الدائم في المكان. إنَّها الإقامةُ راحلة.
لقد باتَ ذلك كله جزءًا من هويتي التي يتملصُ تعريفُها من بين يديَّ كلَّما حاولتُ ذلك، إنَّ التفكير في الأمر، أو تذكرِهِ، أو الإحساس به، يعيد تشكيل الرحلة، ويعيدُ تكوين الهوية؛ يعيد فتح "الأنا" المرة تلو المرة. لاجئ بالفكرةٍ ولاجئ بالتعريف الأممي عبر تلك البطاقةُ الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة التي تُعرّفني كلاجئ.
§ كيف يمكن للمكوث أن يكون رحيلًا أيضًا؟
(9) مدينةُ الولادة – مدينة الطفولة
القدس التي ولدتُ فيها، وعاشَ فيها والداي، ستغدو مدينتي التي سأُمنع من دخولها كمئات الآلاف من الفلسطينيين منذ العام 2000، ويستمر ذلك للعام 2017. أمّا المدينةُ التي ارتحلنا إليها وعشتُ فيها طفولتي ويفاعتي فهي مدينة البيرة الملاصقة لرام الله، اللاجئون هنا، في هذه المدينة، كانوا يُعرَّفونَ كغرباء، كلُّ من يسكنُ المدينةَ من غيرِ أهلِها هو "غريب"، هذا إحساسٌ مزدوجُ السبب، أنت في "غيرِ مكانِك"، وأنت "غريبٌ" في عرفِ معظم أهلها، كلنا ننتمي إلى الوطنية نفسها، ولكن المقيمَ له صفةُ "الأصيل" والقادمُ له صفةُ "الدخيل". منْ وقتِها أحسستُ بأنَّهُ "لا توجد ضيافة". في محاضرته اليتيمة في رام الله بعنوان "في الضيافة"، قال الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا إنَّه، فلسفيًا، "لا توجد ضيافة"، وما هي إلا مجازٌ؛ وقد أشار فيما بعد في مقابلة معه إلى أنَّ "فعلُ الضيافةِ لا يمكنه إلا أنْ يكونَ شعريًا". (Derrida, 2000 :2)
§ متى يمكن للضيافة أن تكون واقعًا مضفرًا بالمجاز؟
(10) الغرباء أُصلاء
لُذْتُ بعدَها بالمدينة التي تتشكلُ، وهي رام الله التي تبعد 16 كيلومترًا عن القدس، المدينة التي هجرَها معظمُ سكانِها الأصليين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح معظمُ سكانها من لاجئي فلسطين التاريخية. أولئك تركوا بحثًا عن حياة أفضل لا فقر فيها ولا استبداد. وهؤلاء أُجبروا في العام 1948 على مغادرة بيوتِهم ووجدوا أنفسَهم قَسرًا فيها، وقليلٌ من هؤلاء المهاجرين عاد إليها مع اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. هذه المدينةُ ذات العمر القصير، في مئة عام أو أكثر قليلًا، حدثَ فيها كل هذا الاختلاط وتغيير التركيبة السكانية. إنَّها مدينةُ الغرباء التي سيغدو الغرباءُ فيها "أصلاء"، بمعنى ما. شراكتُهم في كونِهم لاجئين منحتهم ذلك، ولا أحدَ تبقَّى إلا القليلُ من الأصلاء لينعتَهم بالغرباء، وباتت المدينة التي تبدو وكأنها تستضيف.
§ أيُّنا الغريب؟
(11) المدينة الثالثة – حيث أنا الآن و"شرق المتوسط"
في رام الله هذه علَّمتُ اللغة العربية وآدابها والكتابة الإبداعية في مدارس الفرندز لطلبة الصفوف السابع والثامن والتاسع، وقتَها في عقد التسعينيات، في العام 1995، درّستُ رواية "شرق المتوسط"؛ تلكَ الروايةُ التي قرأتُها حينما كنتُ في الاعتقال الإداري في صحراء النقب، (كانت تلكَ الرحلة، وأنا معصوبُ العينين، أطولَ رحلة لي في حياتي، رحلةٌ جبرية، كنت من جيل منعه الاحتلال من السفر على مدى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي). في هذه الرواية يهاجرُ (رجب) على متن سفينة إلى فرنسا، بعد أن قضى زمنًا في السجنِ السعودي. وخلال رحلتِه على ظهر السفينة "أشيلوس"، كان يعبِّر عن أفكاره وأحلامه وهواجسه ومخاوفه ورغباتِه، من خلال مناجاة السفينة: "أشيلوس باخرة الركاب اليونانية تبحر الآن عبر المتوسط، إذا انقطع المطر، وظل البحر مثلما هو الآن، غاضبًا كرجل وقور، فعند الغروب سنصل إلى البيريه، البيريه أول خصلة من أرض اليونان، لن أتوقف فيها أكثر مما تتوقف الباخرة، لا أريد يونان معذبة، سأحيِّي رجالَها من بعيد، وأواصل الرحيل، قالوا إن الحرية في أرض أخرى، أبعد من اليونان، يمكن أنْ يعيش فيها الإنسان أيامه دون أن يوقظه عند الفجر صوت المخبرين وضربات أحذيتهم ... سأرحل إلى تلك البلاد". (منيف 1986 : 78)
في ذلك الوقت، لم أكنْ على درايةٍ بتوظيف الدراما في التعليم، لكنَّ اتفاقًا جرى بيني وبين طلابي على أن يتخيل كلٌّ منا "أشيلوس" التي تخصُّهُ ويناجيها، وعلى حوافِّ هذه "الدراما" التي بدتْ "ذهنيةً"، أنشأَ كلُّ طالبٍ من طلاب الصف، من هذه الارتجالاتِ المتعددة، نَصًا في مناجاتِها، أقتبسُ منها:
أ- "آه أشيلوس، ليتك تبحرين بي إلى نهاية العالم، إلى حافة البحر، كما في الروايات الخيالية، وتقذفين بي خارج هذا العالم، فربما أقع في كوكب آخر، لم تكن قصة آدم وحواء، أريد كوكبًا خاليًا من الشر تمامًا. نعم أشيلوس افعلي .. أرجوك. (غدير 1995: 4)
ب- "ماذا ستفعلين إذا حل بك ما حلّ بي؟ لن تصمدي، سينهبك الأشرار في وسط المحيط. سينزلون عليك من فوق. نعم من السماء، من حيث لا تدرين ولا تحبين. سيمزقون أشرعتك كما مزقوا رغيف الخبز الذي نعتاش به. سيحرقون صواريك كما أحرقوا ثيابنا". (أبو غزالة 1995 :3)
ت- "قولي إذن يا أشيلوس، أعطني الشجاعة الكافية لأُخرج صوتي المخنوق، وأقول للمسافرين كم تعذبت ولكن ... من سيسمعني؟ لا أحد يريد أن يسمع كلمات مكتئبة وبائسة. هل تشعرين مثلما أشعر كل يوم حين أتذكر عذاب السجن؟" (بكر 1995 : 7)
ث- "أشيلوس تقترب من الميناء، تتوقف بحركة بلهاء، تشبه رجلًا ثملًا يتمايل ببطء. والبحر يموج وينشط. فإذا بالناس يتراكمون على ظهر السفينة. فسألت: لماذا؟ لماذا يلاحقون الغربة الشاقة بأرجلهم؟ لماذا لا يعملون في بلادهم مع عائلاتهم بدلًا من تلك الغربة الساكنة في بلاد ليست لهم ولن تكون لهم". (حشمة 1995 : 8)
ج- "أقلعي يا أشيلوس، ... أنت جسرنا نحو الحياة، نحو عالم أفضل، أنت أكثر صبرًا منا جميعًا، وبشكل يندر وجوده في هذا العالم الصدئ. ألست تحملين همومنا جميعًا وهي هموم لم نقدر عليها نحن؟! أنت حقيرة يا أشيلوس، تنقلين الأوغاد والأنذال إلى عالم الحرية فرارًا من واجب، آسف ... أعتذر. والآن (أرسي) برفق يا صديقتي كي لا تسقطي ذرة من أثمن ما يحمله العالم؛ ألا وهو الآمال والأحلام التي سرعان ما ستضيع في نهر الأيام. هل ستضيع فعلًا أم ...؟" (بشناق 1995 : 9)
ح- "اهتزي يا أشيلوس، واجهي الأمواج وغيرها، لا تدعيها تعترضك، فالإنسان الذي لا يواجه مشاكله ويهرب، هو الإنسان الضعيف، ولا يستطيع هذا الإنسان أن يعيش في الغابة. آه يا أشيلوس ما أصعب الحياة والغربة، ولكن لا يوجد لي مكان في وطني، سأكون جبارًا، سوف أدخل الغابة ذات يوم وأقاوم هذه الوحوش وأهزمها، يجب أن أهزمها". (طنوس 1995 : 10)
§ أي أشيلوس لك؟ أي مناجاة ممكنة؟
(12) تهريب البشر: الفلسطيني بين العراق والكويت
منذ أربعينياتِ القرن الماضي، أصبحَ الخليج العربي وجهةَ الحالمين بحياة أفضل، الهاربينَ من مخيمات اللجوء في فلسطين وحولها، كانوا يظنون بأنّ فورة النفط ستحقق أحلامَهم. لم يكن الوصول إلى هناك صعبًا فقط، بل كان في منتهى التعقيد. إنها مواجهتي الأولى كمعلمِ مدرسة مع فكرة تهريب البشر أدبيًا، وجدتُ ذلك في الفصلين الأخيرين من رواية بعنوان "رجال في الشمس" للروائي غسان كنفاني، كانت بعض فصولها جزءًا من المنهاج الدراسي الجديد في فلسطين. لعلها الرواية العربية الأولى التي تعالج هذا الموضوع بحدةِ لافتة وبنهايةٍ روائية فاجعة؛ ثلاثة من الشبان الفلسطينيين الحالمين بالوصول إلى الكويت يقضون اختناقًا في خزان ماء في الصحراء، في النقطة الحدودية بين العراق والكويت خلال محاولة تهريبهم من قبل سائق الخزان الذي يعود لأمير كويتي مقابل بضعة دنانير عراقية. لعلَّ اقتباساتٍ منَ الصفحاتِ الأخيرةِ للروايةِ تُلخِّصُ هذا المصيرَ التراجيدي لشخصياتِها: "انحرفَ بسيارتِهِ عن الطريقِ الأسفلتِ ومضى يتدرجُ في طريقٍ رملي إلى داخـل الـصحراء. لقد قرَّ قرارُهُ منذ الظهيرة على أنْ يدفنهم، واحدًا واحدًا، في ثلاثة قبور ... كانت الجثة الأولى بـاردة صـلبة، ألقى بها فوق كتفيه، أخرجَ الرأس أولًا من الفوهة ثم رفع الجثة من الساقين وقذفها إلى فـوق، وسمح صوتُها الكثيف يتدحرج فوق حافة الخزان ثم صوت ارتطامها المخنوق علـى الرمـل، لقد لاقى صعوبة جمة في فك يدي الجثة الأخرى عن العارضة الحديدية، ثم سحبها من رجليها إلى الفوهة وقذفها من فوق كتفيه ... مستقيمة متشنجة، وسمع صوت ارتطامها بـالأرض ... أمـا الجثة الثالثة، فقد كانت أسهل من أختيها ... جر الجثث - واحدة واحدة - مـن أقدامها وألقاها على رأس الطريق، ... فأخرج النقـود مـن جيوبهـا؟ وانتزع ساعة مروان وعاد أدراجه إلى السيارة ماشيًا على حافتي حذائه. .. انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:" لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟" ... دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع، فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود: -لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا وفجأة بـدأت الـصحراء كلهـا تـردد الصدى: -لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ انتهى". (رجال في الشمس)
لم يكنْ من الممكن لي وقتَها، وأنا حديثُ عهدٍ بتوظيف الدراما في التعليم، أنْ التقطَ محطاتٍ من الرواية، وأنْ أشتغلَ مع طلابي على استكشافها دراميًا؛ كأن في الأمر احتمالًا ممكنًا لاشتباك شخصيّ بين كلِّ طالبٍ وعالمه الواقعي؛ لم أجرؤ على هذه المقاربة الدرامية تحت وطأةِ الخوف من تأثيرات الانحياز العاطفي للطلاب لموضوع يعيشون تداعياته كل يوم، لجأتُ وقتها إلى فيلم "المخدوعون" للمصري توفيق صالح، المبني على الرواية، فدرَّست الروايةَ بنصيها اللغوي والبصري.
بقيتْ الرواية جاثمة على صدري وثيمتها تطاردني طوال الوقت، وانشغلت بها على مستويات عديدة، وكانت محاولتي الأولى في المقاربة دراميًا مع نوع ما من التماسف بين الهجرة كحالة وجودية فلسطينية، وبين الهجرة كفعل يومي عالمي.
وبالمصادفةِ قرأتُ خبرًا في صحيفةٍ محليَّةٍ عن حادثةٍ شبيهةٍ لحادثةِ "رجال في الشمس": 58 صينيًا يقضون مختنقين في حاوية في ميناء دوفر خلال محاولة تهريبهم إلى بريطانيا. حوَّلتُ التجربةَ فيما بعد إلى درس درامي، ونشرتُه في كتابٍ للمعلمين. (الكردي 2003)
§ من الذي ينبغي عليه أن يصرخ: "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!" صراخًا حاثًّا وليس صراخَ "إراحةِ ضميرٍ" أو "تبرئة للذمة"؟
(13) الدراما تنبش الذاكرة - بالذاكرة تتخلقُ القصة
في تجربتين لي مع أطفال في مجال الدراما اشتملت كل منهما فيما اشتملت على جانب متعلقٍ بكتابة القصص عبر توظيف الدراما كسياق للكتابة، استند فيهما الأطفال المشاركون إلى روايات النكبة كي يكتبوا قصصًا. هاتان التجربتان أنجزتا في العامين 1999 و2000. أولهما في مدينة رام الله، وثانيهما في مخيم الجلزون للاجئين. وقد تراوحتْ أعمار المشتركين ما بين ثمانية أعوام وأربعة عشر عامًا.
الأطفال في هذه التجربة التطبيقية استمعوا ثم اشتغلوا على ما استمعوا إليه وأعادوا إنتاجه، فهم لا يتذكرون وقائع التذكر طبعًا، فهي ليستْ خبرتهم الشخصية المباشرة، بل ينشئون خبرتهم حول تلك الوقائع عبر تذكرِ خطاب التذكر نفسه، وعلامات الراوي، وما أنتجته المرويات في خيالاتهم.
إن هاتين العمليتين كانتا محكومتين بأفعال العقل والشعور وطبائعهما وآليات إنتاجهما، وهما تتجسدان عبر كلام مضمر أو مفصح عنه. فنحن نشتغل عبر الذاكرة لنشكل "روايتنا" بواسطة اللغة، ونصور ما تختزنه الذاكرة بالكلمات وبالعلامات البصرية أيضًا. ويقوم المستمع بتأويل هذا الكلام وهذه الصور ويعيد إنتاجهما بخبرته، ويجري عليهما عمليتي انتقاء وإقصاء مرة أخرى. وعبر هذا التداخل ما بين راوٍ ومرويٍّ له، تتشكل ذاكرتان فردية وجمعية، تتآلفان حينًا، وتفترقان في حين آخر. فكلامنا الفردي سيغدو كلامنا وكلام الآخرين في كلامنا.
وفي العمليةِ الفنية الإبداعية الدراما، الكتابة، الرسم …، فإن أسلوب الفنان سيقترب به من إنشاء صوته الفردي المتحاور مع أصوات الآخرين، أو صوته الفردي الذي هو صدى لأصوات الآخرين، دعوني هنا أستعير هنري فوسيون "فكما أنَّ الحلمَ اليقظَ يُولِّدُ نتاجاتِ أصحابِ الرؤى، فإنَّ ترشيدَ الذاكرة يؤسس لدى بعض الفنانين شكلًا باطنيًا ليس هو الصورة بمعناهـا الحقيقي، ولا الذاكـرة الخالصة، وإنما هو شكلٌ يخوِّلُ لهم الانفلاتَ من استبدادية الموضوع". فيما يلي عبورٌ لواحدة من القصص التي كتبها ورسمها طفل في الحادية عشرة من العمر:
- أي خطى هذه هي التي تغير المسارات؟
(14) الحذاء حينَ يروي ويحاور ويدلُّ
في قصته "مذكرات حذاء"[2] المستلهمة من ارتجالات درامية وزيارات ميدانية مبنية على حادثة تهجير جماعي لفلسطينيين من قرية يالو القريبة من القدس؛ يدع إبراهيم سالم (11 عامًا) الهاربين تائهين في تلال أريحا؛ المنطقة الشاسعة الجرداء القريبة من الحدود الفلسطينية الأردنية، الحذاء الذي باعه صاحبه لحاجته للمال، يهرب من صاحبه الجديد ويتتبع الهاربين، وحينما يكتشف تيههم، يظهر لهم ويخبرهم بأنه يعرف طريقهم إلى الأردن، يسيرون خلفه، ولكنهم فجأة يجدون أنفسهم في مكان قريب من قريتهم التي هُجِّروا منها. (إبراهيم سالم 11 عامًا)
الفتى القاص يُعيد الهاربين إلى منطقة قريبة من بلدتهم، يتحايل عليهم، يُرجِعُهم، كأنه يرفض فكرة الهجرة، هو يعتقد أنهم لن يستجيبوا له فيتحايل عليهم. لم يقبلِ الفتى ذو الحادية عشرة من العمر أنْ ترحل شخصياته، اخترع فنتازيا، لم يجد بشريًا يمكن له أن يقنع الناس بالعدول عما هم فيه من رحيل وتيه، كأنما الواقع المباشر لا يتيح ذلك، إذن، سيلجأ إلى الغرض، الغرض هنا كان الحذاء، حذاء المشي، الانتقال … الحذاء الذي صار يتكلم، الحذاء الذي أنقذ صاحبه مرتين: بالنقود عبر بيعه. وبالإرشاد المراوغ عبر طريق العودة. إنها الأجسادُ التي تُساق بـ "أقدارِها" وتقودُها "أحذيتها".
(15) جوازُ السفر كرماد
في دراما (المهاجرون) يحرقُ عدد من اللاجئين على ظهر مركب متهالك في عرض المحيط الهندي جوازات سفرهم وأوراقهم الثبوتية، بعد أن يخبرهم المهرب بضرورة ذلك، فهذه طريقة تمنع سلطات البلد الذاهبين إليه من إعادتهم. هنا تنفتح الأسئلة على مصراعيها؛ ما معنى جواز السفر؟ ما المعنى الرمزي الذي يحمله؟ ما قيمته الوظيفية؟ هل جواز السفر هو وثيقة سماح أم وثيقة منع؟ سأسردُ اقتباسات من عدد من تأملات المشاركين:
أ) " تلك اللحظة التي كنا فيها نقرر هل سنرمي جواز السفر في سلة القمامة التي يتم فيها إحراق الجوازات، وكيف نفعل ذلك في حال قررنا فعله، كانت لحظة مطولة ابتلعت اللحظات الزمنية التي تلتها وأحاطت بها ... استغرقتنا في حالة وجدانية ذهنية محورها حرق جواز السفر، ولكنها تتشعب لتمتد إلى كل ما يمكننا الإحاطة به في تلك اللحظة مما يرتبط بمعاني الهوية واللجوء والنفي والإقصاء والكرامة والإنسانية والحياة". (علا بدوي/معلمة)
ب) "كان يوسف يحاول تمزيق جواز سفره، ولأول مرة أرى شيئًا كهذا يحدث أمامي، كنا جميعًا متعطشين لفهم ما يفكر به وهو يقدم على ذلك. إنه سيصير بلا هوية! هل يمتلك جوازي سفر؟ هل زور جواز السفر وكان ذكيًا بتمزيقه؟ هل ارتبط لديه جواز السفر بذكرى أليمة؟ هل سيتجرأ على التراجع عن الهجرة وهو لا يملك جواز سفر؟ طبعًا حديثنا مع يوسف خلق لدينا رؤى متضاربة، الكثير من المهاجرين حذوا حذوه ومزقوا جوازاتهم، لكنني أنا فكَّرتُ في التبعات، كذلك يوسف فكَّر في التبعات، هو قد يعاد إلى بلده لو تم اعتقاله، وهو يحمل معه هويته، وأنا وضعت أمامي احتمال العودة. كيف يكون لفعل واحد ما لا نهاية من الدلالات، لنظرة، أو حتى لغرض من الأغراض؟ كيف يكون جواز السفر ترخيصًا ومنعًا للسفر في الوقت نفسه؟ كيف يكون نعمة ونقمة؟ لماذا هو قابل للتمزيق ويعاقَب على تمزيقه؟ كانت الأجوبة التي أتلقاها عن أسئلتي –أسئلة الجميع- قوية من الطرفين، لأنها لم تكن أجوبة شخصية، بل كان الشخصي يتحدث باسم المجتمع". (نعيم حيماد/ معلم)
ت) " بدأتُ استشعر بعض الشيء عن ماذا يعنى أن يكون الإنسان مهاجرًا من خوف إلى مجهول تاركًا وطنًا وأهلًا؟ وماذا يعنى أن يحاول الشخص أن يتخلص من بطاقة هويته، أو الاحتفاظ بها؟ استشعرت خلال هذه الدراما فكرة أن يكون الإنسان مقهورًا لدرجة أن يصدق قبطان السفينة الذي غالبًا سيكون متلاعبًا، فقط لأنه ليس لديه خيار آخر". (منة عقيل)
(16) الجثة: تنظيف الأثر
في دراما (المتوسط) يقضي أحدُ ركّاب المركب، يرتئي الباقون، بعد ترددٍ شديد، إلقاءَ جثته في الماء، ويقررون طقوسًا لذلك، ثم يُدفعون إلى ضرورة تنظيفِ مكان الجثة، فالميتُ، كما أخبرهم مهرِّبُهم، كانَ مريضًا بمرضٍ مُعدٍ. قبلَ هذه المعلومة كانوا مترددين في الشروع في التنظيف، وحينما علموا بها بدأوا يتحركون واحدًا واحدًا ضمن بناء المشهد عبر المعايشة؛ بحيث تكون هناك قدمٌ في العالم المتخيل، والأخرى في العالم الواقعي؛ "إنْ كنتَ أنتَ نفسك على ظهر هذا المركب، فكيفَ تُقدّمُ مشهد التنظيف؟ لنجربْ جميعًا"؛ كانت هذه اللحظة هي التي انشغلنا في تبئيرها واستكشاف دلالاتها.
في الدراما، بعد ثمانية عشر يومًا على ظهرِ سفينة في عرض المتوسط، يقضي رجلٌ؛ لكل راكبٍ من ركابِها ذكريات ما معه، جميعهم يُجمعون على طيبته، بساطته، انزوائه، يقررون دفنه في البحر، يفتشونَ ملابسه، يجدون: ساعة يد، صورة فوتوغرافية لثلاثة أطفال يضحكون، صورتان شخصيتان له. فيما يلي مشهدان:
مشهد أول
- لمَ تريدُ الاحتفاظَ بساعته؟
- لأثبتَ لأهله أنني كنت معه، وأنَّ وفاته أمرٌ حقيقي.
إن فكرة العودة ما زالت تستحوذ عليه، يتوقع رؤية أهل الميت، يرحل وهو ينظر إلى الخلف.
مشهد ثانٍ
لنعد إلى تنظيف مكان الجثة:
المهرب: - علينا تنظيف مكان الجثة!
أحد الركاب: - ولكن
أحد الركاب: - لا
أحد الركاب: - لنترك الأمر!
أحد الركاب: - أنا لن أشارك
المهرب: - مرضه كان معديًا!
الركاب: (صمت عميق)
المهرب: - لو كنتُ على اليابسة لأحرقتُ الجثة وأغراضها وكل شيء، لكننا على ظهر السفينة؛ السفينة لا نستطيع إحراقها!
أحد الركاب: كلنا علينا أن نشترك في تنظيف مكان الجثة كي لا نموت، علينا جميعًا أنْ ننظف.
صور من التنظيف:
أ) إحداهن تمسح بيد وتحمل الصورة الفوتوغرافية للأطفال في يدها الأخرى؛ نظرة على اليد ونظرة أطول على الصورة.
ب) رجل يمسح ببطء شديد، يدعك المكان نفسه.
ت) رجل يدعك بعشوائية في كل الموقع، ونظره كبندول الساعة.
ث) امرأة تضع لثامًا على فمها وأنفها، تنظر إلى البعيد، تمسح المكان، وكأنَّ يدها لا تصل أرض القارب.
§ في واحد من التعليقات على المشاهد، قالت إحداهن: "كأنني كنت أمسح ذاكرتي وأنا أمسح مكان الجثة"، هل هذا هنا فعل من أفعال التطهير، أم فعل من أفعال التجنب، أم فعل من أفعال التغييب؟
(17) الأم الفاقدة - الأم المُشارِكةُ التي لم تصل!
على صفحاتِ التواصل الاجتماعي، نشرتُ صورًا لمحطات دراما المهاجرين؛ علّقت إحداهنَ: لقد فقدتُ ولدي الشاب الذي حاول قطع المتوسط في اتجاه أوروبا. كانتْ هذه المرأةُ إحدى المعلمات اللواتي كان ينبغي لها أنْ تحضرَ هذا المساق، إنها معلمةٌ من غزة، لم تتمكنْ من الخروج منها بعد أنْ رُفِضِ تصريحها كما حدث لكل المعلمين الذين يعيشون في غزة. ما قرأتُهُ كان صاعقة؛ لم أكنْ أعرف، ولم أكنْ أتخيل، هاجمني الافتراض بأنَّها كانتْ معنا.
§ لا أستطيع لهذه اللحظة أنْ أتخيل ما الذي كان يمكن له أن يحدث؟ وما الذي كان ينبغي عليَّ أن أفعله؟
(18) البيت المجازي مرة أخرى (بيت أبي – بيتٌ لي)
بعد ست سنوات من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، وكنت وقتها ما زلت فتى صغيرًا، اصطحبني أبي في 18/1/1973 في زيارة واحدة إلى البيت (الأمر الذي كان يتكرر مع أخوتي أيضًا بين وقت وآخر)، كان ذلك بعد 6 سنوات تقريبًا من احتلال شرق المدينة البيت الذي كان ما كاد يمتلكه ويرممه ويسكنه في حي القطمون في القدس الغربية في العام 1947. وقد بات البيت بعد ذلك مسكونًا بعائلة يهودية اشكنازية أوروبية.
إن ذلك البيت "الفعلي/الواقعي" لأبي هو بيت "شعوري/معنوي" لي؛ هو عاش فيه، وأنا لم أسكنه، هو "يتذكره" عبر تجربة "تذكر" مادية يومية مباشرة احتلت قسطًا من حياته، وأنا أتذكره عبر وسيطين "بصري" و"كلامي"؛ أما "البصري"، فقد مرّ بلمحة بصر، ففي الوقت الذي لا أتذكر فيه سوى ملامحه العامة، فإنني أتخيل تفاصيله. وأما "الكلامي"، فهو ما أخبرني به أبي عن ذكرياته في هذا البيت. وعبر هذا الإخبار اللغوي، فقد بدأت بتشكيل ذاكرة أبي عن ذلك البيت، من خلال ذاكرته المعبَّر عنها بكلامه، ولكن بكلامي أنا. في الذاكرة هناك بيت حقيقي فقدناه، رأيته بعيني، جلتُ فيه لمرة واحدة. أما في الخيال، فإن هذا البيت قد سُكن بعد أبي بعائلة يهودية إشكنازية أوروبية، (وكان قد اختلط عليّ الأمر بينها وبين اليهودية العراقية التي سكنت} البيت المجاور، وظللت لسنوات طويلة أظن أنَّ المرأة التي فتحت لنا الباب في العام 73 تلك المرأة العراقية ...، واختلقتُ، ولا زلت أختلق تفاصيل كثيرة لذلك البيت، مستندًا إلى إشارات "التذكر" القليلة، وملتمسًا "الخيال" في رسم عوالم أبنيها وأقوّضها كل يوم، كأنني أعيد تضفير المكان، أعيد إحياءه عبر إعادة القصة، فما الذي أملكه غير ما يقول أبي وتلك الزيارة اليتيمة وبعض قصاصات من الورق؟! الحقيقة الوحيدة هنا هي "بيت أبي"، وكل شيء آخر فهو الرواية؛ تضفير السرد، وإعادة القول قولًا جديدًا، وبهذا المعنى ننتج المعنى ونعيد إنتاجه، هو معنى يتغير كلما أُنتِج. أما لماذا كل ذلك؟! فلأنه هو الذي يضفِّر الهويةَ، وهو الذي ينسج المعنى، وما بين "أنا" و"هو" و"الآخر" (كلِّ آخرَ) تنحبكُ السجادة، وتُنْتَسلُ لتُنسَجَ من جديد، هي لا تنتظر كما انتظرتْ بانيلوبَ أوديسيوس ، بل هي أنْ لا بقاء للهوية على حالها كلما مرَّ من الزمن وقتٌ.
- أين يسكن المرءُ؛ بيتَهَ أم ذاكرتَهَ؟! لعلَّ دراما قادمة سأبنيها على هذا السؤال
(19) حمّال تذكُّرٍ ... أنا
ولذلك، فإن فعل "التذكر" في الحالتين؛ حالةِ أبي في التذكر دون وسيط، وحالتي في التذكر عبر وسيط، أنتج ذاكرة جديدة، تضافر في تشكيلها كلام الراوي وما رآه المروي له بعينه، وإعادة إنتاجهما عبر كلام المروي له وذاكرته وخياله. وهذه الذاكرة المتوارثة أثقلتني لأنها أشعرتني، وما زالت، بظلمٍ فظيع، وكأنني أنا الذي فقدت ذلك البيت! واستمر هذا الشعور بالتنامي لأن ظلمًا يوميًا "فعليًا" بدأت أتحسسه على جسدي حتى الآن بسبب عُمْرٍ كله انقضى تقريبًا تحتَ احتلال عسكري. إن "التذكر" و"تذكر التذكر" أفضيا إلى نشوء إحساس بعنف واقع عليَّ زاد من وطأتِهِ العنفُ الواقعيُّ اليوميُّ الذي عشته عبرَ معظمِ سنواتِ العمر.
فالآباءُ والأمهاتُ والأجداد والجدات يروون حكاية نكبتهم لأجيال لاحقة، وبات كل جيل يُسلِم الراوية لجيل يليه. وأصبح "التذكر" و"تذكر التذكر" مستحوذين على جانب جوهري من التكوين الثقافي لشخصية الفلسطيني. ولم يحدث الاستحواذ فقط على أولئك الذين مروا بتجربة التهجير المباشرة أو أبنائهم، بل ألقت بظلالها على أولئك الأشخاص الذين لم يمروا بتلك الحالة ولا أبنائهم. فرواية النكبة باتت تَذكرًا جمعيًا وجدَ تجلياته في كل مناحي الحياة، ولذلك فإنَّ هذا الفعل من أفعال بناء الرواية على الذاكرة، أشاع أيضًا شعورًا جمعيًا بالظلم التاريخي الشامل.
كنت قد كتبت ذات مرة بأن أبي قد حمّلني ميراثًا بصريًا وكلاميًا بات جزءًا عضويًا من مكونات ذاكرتي اللاحقة، الكبارُ يحمِّلون الصغارَ عادة ذكرياتهم، وفي حالتنا، فإنَّ الذكرياتِ التي يحمِّلنا إياها الكبار هي في الغالب ذكرياتُهم المؤلمة. إنَّ أطفالَ جيل النكبة وما بعده يحملونَ في الغالب ذاكرةً مثقلةً تتمحورُ حول الفقدان.
يبدو ضروريًا تحررُ الذاتِ مما تحملُهُ لنا الذاكرة، بمعنى فهمها وإدراكها، وألَّا تُحَوَّلَ إلى سجنٍ يأسرُنا في داخله، فلا ننظرُ إلى المستقبل، لأنَّ الأيامَ القادمات لا تستطيعُ استرداد الماضي، ولكنها تستطيع الإسهام في تشكيل مستقبل ما نتطلعُ إليه.
(20) الذاكرة والتذكر واللغة
فكما تقومُ الذاكرةُ على التذكر، فإنَّها تقومُ على النسيان، وما يتمُّ تذكره يقابلُهُ ما يتم نسيانُهُ. إنَّ التذكُّرَ هو فعلُ استدعاءٍ لصورٍ من الماضي، وفي الوقتِ نفسِهِ إغفالٌ لصورٍ أخرى، هو يقوم على عمليتي انتقاء وإقصاء، وهما عمليتان عقليتان وانفعاليتان، ولكنْ بدرجاتٍ متفاوتة، تختلفُ من شخصٍ إلى آخر (سواء أكان ذلك هو الراوي أم المروي له) ولذلكَ، فإنَّ الحالتين العقلية والانفعالية بما يرافقهما مما هو مثير، أو مهم، أو ملفت، أو جذاب، أو مؤثر، أو مفهوم أو غامض ... الخ، تؤثران فيما سيظهر في القصص والرسومات وما سيختفي.
(21) النص مقابل النص
المؤَلف يستطيع أنْ يقفَ خارج اللغة، وأنْ ينظرَ إليها من خلال مسافةٍ ما، وأنْ يتعامل معها ضمنَ سياقاتٍ متعدَّدة، وبالتالي، فإنَّ النوع اللغويَّ الذي يُنشئه يمكن أن يعبّرَ عنْ شخصيته الفردية أكثر مما قدْ تُعبّر عنه أنواع الكلام التي يتمُّ إنتاجُها في سياق غير سياقات الإنتاج الأدبيّ الفنيّ، فخطاباتُ الآخرين وأصواتُهم أكثرُ حضورًا من تلك التي يتمُّ إنتاجُها في سياق النشاط الإنساني الحياتي غير الفني. ولا يتعارضُ هذا القول مع مفهوم التناص كما قد يبدو للوهلة الأولى؛ فهذا المفهوم ينظر إلى النصّ الذي يبدعه المؤلف في المجال الأدبي على أنّه، في حقيقته، مجموعة نصوص أُخرى آتية من نصوص آخرين. فالنص يتحقق من حصيلة ثقافية تراكمية انبنتْ عبر تلاقح نصوص عديدة أفضتْ إلى إنتاجه. النصُّ يُدين لغيره من النصوص أكثر مما يدين لصاحبه، فكلُّ نصٍّ ينوجد في علاقته مع نصوصٍ أخرى (Kristeva, 1980 :69). ولذلك، فإنَّ جوليا كريستيفا حينما تتحدث عن الكيفيَّة التي يتشكَّل بها النصُّ، فإنها تقول: "كلُّ نصّ ينشأ كفُسيفساء من الاقتباسات؛ كلُّ نصٍّ هو امتصاص وتحويل لآخر" (Kristeva,1986 :37). ولذلك، يغدو دور المؤَلف، وكما يراه رونالد بارث، في أنّه يضع هذه النصوص في مواجهة بعضها بعضًا، وهو عبر ممارسته لفعله الإبداعيّ يستطيع أنْ يُنتج نصَّه الفرديّ الناتج منْ تفاعله مع نصوص الآخرين، فالنصُّ "هو ... فضاءٌ متعدد الأبعاد، حيثُ أنَّ الكتابات المتنوعة، لا واحدَ منها أصليٌّ، هي مزيج، وتصادم. فالنصّ نسيج من الاقتباسات ... والكاتب يحَاكي فقط الإيماءات التي هي دائمًا سابقةٌ، وليستْ أصليةً أبدًا. قوتُهُ فقطْ في مزجِ الكتابات، في وضع أحدهَا في مواجهة الآخر، بطريقة لا تُريح أيٍّ منها" (Barthes, 1977). (المشكالية، ص 30،31)
(22) خلاصات ختامية
صورة شخصية لحالة غير شخصية
_________________________________________________
المرأةُ التي كانتْ تحاولُ عبورَ بحرِ إيجة، برفقةِ كثيرين بملامحَ نهشها الملحُ، لم تتغيرْ ملامحُ وجهها تمامًا، بالمصادفة كانَ المصوِّر يَرى، منها، عبرَ عدستِهِ المرتجفةِ
أظافرَها المعجونةَ بطينِ الحقل
حدقتيها المغسولتين بندَاهُ
فكرتَها الممرغةَ بشعرِها الترابيِّ المشتبكِ بقفلِ حقيبتِها الممرغِ بالصدأ
زفرتها التي تبدو كابتسامة مركونةٍ على جدار عتيق لمدينة ساحليةٍ لم تعدْ تُرى في خلفيةِ الصورة
بضعةَ أحلامٍ تمشي على عكازاتٍ من لدائنِ (منى حاطوم)
هذا كلُ شيء كان يظهرُ أيضًا، من بعيد، لضابطِ الطرادِ الحربي الإيطالي الذي لا يكادُ يقولُ شيئًا، وتكادُ ابتسامته البلهاء تطفو على سطح الماء، وتنقرها نوارسُ لم تعد تعرفُ وجهتَها إلى الشط.
1) في الدراما نحنُ نخلق عالمًا متخيلًا من أجلِ مساءلةِ العالم الواقعي. نحن نرى أنفسَنا ونرى الآخرين بظروفهم ومواقفهم ورؤاهم ووجهات نظرهم وتصرفاتهم، وفي ذلك تصنيف. وحين نعرِّف أنفسنا، فإننا نعرِّفها بالآخر. ليس هناك (أنا) صافية كما يرى ميخائيل باختين، والآخر فينا كثير، من يأتي إلينا ونذهب إليه راضين أو مجبرين. وفي هذه الرحلة الفنية نعبر الألم، الفن كألم، الفن كقسوة. إننا نقارب موضوعات حد السكين ببيداغوجيات الفن؛ الدراما، المسرح، الحركة، رواية القصة، الرسم، الفنون الأدائية والتركيبية ... .
2) لا شيءَ يمكنُ التقاطُهُ كحقيقةٍ نهائية، لا يريدُ الراحلون أنْ يعترفوا بأنَّ هناكَ ما سيتغير، إنهم لا زالوا هناكَ حيثُ الخوفُ من إعادةِ تعريف الهوية، التعريفُ يكشف هنا وهَنَ الإحساسِ بالهوية في العمق، رباطةَ جأشِها على السطح. حينما تنتقلُ في الأمكنة فأنتَ تعبرُ زمنًا سيغدو جزءا من تكوينك لهويتك، في هذا الرحلةِ الخطرةِ أنتَ تعبرُ بجسدك، جسدِكَ الذي سيتحولُ، جسدِك الثقافي الذي سيتغير، إذنْ فإنَّ الانشغالَ بتعريفِ الهوية هو انشغال بالزئبق، انشغال الرغبةِ في الاستحواذ عليه، وحيثُ لا يمكن لكَ الإمساك به، فإنكَ لنْ تستقرَ، والهويَّةُ لا استقرار فيها.
3) النصوصُ، الرسومُ، المشاهد الدرامية ... جميعها تتشبث بالماضي؛ هذا ما لاحظته كاستنتاجٍ أوليٍّ؛ جميع الأغراضِ التي يتم تخيلها مثلًا للاجئين كـ: صورة فوتوغرافية عائلية، مفتاح البيت، دفتر اليوميات، عِقد، ... نجدها تنتمي إلى عالم الماضي، وتنتمي إلى العالم الجمعي، تُذكِّرُ به، تحيلُ إليه، تتطلع إلى العودة إليه؛ إنَّه فعلُ الحنين، النوستالجيا للجماعةِ المتروكةِ تجدُ طريقَها كلَّما كانَ الإبحارُ أكثرَ غموضًا، وكلَّما كانَ الإبحارُ أكثرَ وضوحًا أيضًا. في الحالةِ الرماديةِ يَتسَيَّدُ الالتباسُ، القيمةُ الماضويَّةُ تتراجعُ، الخلاصُ الفرديُّ هو الحُلم الذي سيغدو، في الأغلب، كابوسًا.
4) الهويةُ لا يمكنُ القبضَ عليها، إنها مُراوِغةٌ، "ولا ينبغي علينا لبرهةٍ أنْ نقللَ من أهميةِ فعل إعادة الاستكشاف التخيلي الذي يستلزمه هذا المفهوم للهوية الأساسية المعاد اكتشافها" عبر الفعل الفني؛ دراما، رسم، كتابة ... إننا نعترف بأهمية هذا المعنى للهوية، لكن ينبغي الانتباه إلى طبيعتها الوهمية. (Hall، 1994 : 224)
5) هؤلاءِ الذين يفقدونَ بلادَهم ويربحون أحلامهم يلهثونَ خلفَها، الطرقاتُ التي يعبرونها تغدو أفاعيَ تلتفُ على أحلامهم، إنَّها تفصلُ الذاكرةَ عن أحلامِها وتحوِّلُها إلى كوابيس.
6) الجسدُ يتحركُ وتتحرك هويتُهُ معه، إذا كانت الهويةُ غيرُ ساكنةٍ، فإنَّ حركةَ الجسد تفضي إلى تحولاتٍ في الهوية، الجسدُ المتحركُ في فضائه يُنتج هويتَهُ، الجسدُ العابرُ لفضاءات أخرى ينتج هويته أيضًا، المجابهاتُ القاسيةُ خلال الرحلة وخلال الوصول تشتبك مع الهوية وتعيد إنتاجها، كأنّما يعادُ إنتاجُ تمزقاتِ الهوية. هناك لحظاتٌ حاسمةٌ في إعادة تشكيل الهوية: الشعورُ بأنَّ هذا المكان ينبغي أنْ أغادرَهُ، قرار المغادرة، المساومة مع المهربين، إتلاف الوثائق الشخصية/ إحراق الجواز/ رميه في سلة النفايات ... . أنْ تجدَ نفسَكَ في معسكرِ احتجاز/ السلطة وعلاقات القوة، تعبئة النموذج الهجرة... .
7) ليسَ كلُّ تركٍ يشابه بعضَهُ، وليستْ كلُّ إقامةٍ تماثلُ غيرها، كلُّ رحيلِ له قسوتُهُ وحنانُهُ، القسوةُ لا تتشابهُ والحنينُ لا يماثلُ بعضَهُ.
8) في التمسكِ والتخلي وعلاقة ذلك بما يمكنْ أن نسميه بـ "ألم الأمل" حركة جذب ورخي، وحيث الرحلةُ التي تبدأ من الانتزاع من مكانِكَ الأول إلى "مكانِكَ" الثاني، حيث هناك ما يدفعُك للخلاص مما أنتَ فيه. وهناك ما يرسمُ صورة الخلاص كنهايةٍ وردية، وما بين المبتدأ والمنتهى من دم وألم وخوف وبطش واستغلال وموت.
9) عودةٌ إلى التعريفاتِ والتباساتِها، كأنَّنا سنجدُ أنفسَنا دائمًا أمامَ إعادةِ النظرِ في التعبيرات، والنظرِ في ائتلافاتها واختلافاتها؛ إنَّ المحاولةَ تخلقُ الالتباس باستمرار، وكلُّ واحدةٍ منْ الكلمات تحملُ معانيَ تنقلبُ دلالاتِها بانقلاب سياقاتها، وفي كثير من الأحيان، فإن أثقالها الرمزية وأحمالها التاريخية تحد من مطواعيتها: الهجرة، التهجير، السفر، الرحيل، الترحال، الانتقال، الإحلال، الاغتراب، المبارحة، المغادرة، القطيعة، النزوح، الفرار ... . ويقابلُها: الوصول، النزول، الإقامة، المكوث، السكن، اللجوء، التوطن، الاستيطان، ... .
(23) الموت كصدى
هناك نص كنتُ قد كتبته قبل عامين بعنوان "صدى"، أودُّ أنْ أختمَ به:
ضِفةُ النهرِ تتسعُ لاثنينِ فقط؛
بَرْدٌ وجسدْ.
ضفةُ النهرِ باردةٌ كقلبٍ ميِّتٍ؛
كثلجٍ وبَرَد.
ضفةٌ النهرِ كانت تميدُ تحتَ وطأةِ قدميه؛ هذا الفلاحُ المارُ بينَ هواءٍ يرتجفُ وأشجارٍ أصابَتْها الرعدَةُ، وبينهما على الحافّةِ، كما قيلَ فيما بعد، حَلبيٌّ مِنْ حيِّ الحمدانيَّةِ، أو دمشقيُّ مِنْ بابِ توما!
كانَ يلوذُ بطفلتِهِ الجثةِ؛
ثلاثةٌ وثلاثونَ عامًا، وأربعة أعوامٍ زمنانِ غائرانِ معًا؛ أتيَا معًا مِنْ هناكَ حيثُ الأغاني تجدُ رائحةَ الموتِ عندَ النهرِ الحلمِ. هذا الفلاحُ اليونانيُ الذي كانَ يذرعُ نهرَ إيفروس هذا الصباحَ بترنيماتِهِ السائلةِ كتراتيلَ من زمنِ عراكٍ يوناني تركيٍّ عتيق، تجمَّدتِ الأغنيةَ بينَ شفتيهِ؛ هذا يحدثُ لأولِ مرةٍ؛ كانتْ أغنياتُهُ فيما مضى تسيلِ كجمرٍ على الماءِ
وقف، ووقف، ووقف
كان صامتًا تمامًا؛ صمتُهُ عبرَ الزمهريرَ من أولهِ إلى آخرهِ، صدرُه كان يَصْفُرُ كعواءِ ريحٍ قَلقةٍ. حدَّقَ فيما يراهُ بكلتا عينيهِ، حدقتاهُ أفلتَتا من بياضِهما؛ كان ينظرُ إلى ما يراه كأنَّهُ لا يراهُ، ارتجفتْ يداهُ، وإيقاعُ أغنيتِهِ ارتجفَ أيضًا، أقعَى على الأرض، وَهَمَّ بالجثتينِ، لمْ يُفلِحْ في فَصمِهما؛ كانتا متعالقتينِ، حملهُما معًا؛ كانتا خفيفتينِ تمامًا، أودعَهُما أغنيتَهُ وواراهما الصدى!
***
مراجع وهوامش
المراجع بالعربية
أبو غزالة ، رائد (1995) حوار مع أشيلوس أخرى (مجلة كلمات، العدد الأول) مدارس الفرندز
بشناق، أحمد (1995) حوار مع أشيلوس أخرى (مجلة كلمات، العدد الأول) مدارس الفرندز
بكر، أمل (1995) أشيلوس (مجلة كلمات، العدد الأول) رام الله، مدارس الفرندز
حشمة، منار (1995) حوار مع أشيلوس أخرى (مجلة كلمات، العدد الأول) مدارس الفرندز
طنوس، وائل (1995) حوار مع أشيلوس أخرى (مجلة كلمات، العدد الأول) مدارس الفرند
الكردي، وسيم (2002) "رجال في الشمس: حضور النص وغيابه، ط1مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله/ فلسطين
الكردي، وسيم (2003) المشكالية: من أجل حوار حواري، ط1 مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله/فلسطين
منيف، عبد الرحمن (شرق المتوسط) (1986) بغداد، المكتبة العالمية بغداد والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت
ياسر، غدير (1995) أشيلوس (مجلة كلمات، العدد الأول) رام الله، مدارس الفرندز
المراجع بالإنجليزية
Barthes, Roland. (1977) Image-Music-Text. London: Fontana.
Derrida, Jacques (2000) Of Hospitality (Anne Dufourmantelle invites Jacques Derrida to respond), Translated by Rachel Bowlby, Stanford University Press, Stanford, California
Kanafani, Ghassan (1999) Men in the Sun, trans. Hilary Kilpatrick, London, Lynne Rienner Publishers, Inc.
Kristeva, Julia. (1980) Desire in Language: A Semiotic Approach to Literature and Art, New York: Columbia University Press.
Kristeva, Julia. (1986) ‘Word, dialogue, and the novel’, in T. Moi (ed.), The Kristeva reader. New York: Columbia University Press. pp 35-61.
Powell, Katrina M. (2012) Rhetorics of Displacement: Constructing Identities in Forced Relocations
, College English, Volume 74, Number 4, March 2012, The National council of teaching of English
Shire, Warsan (2018) No one puts their children in a boat unless the water is safer than the land (online) Available from: https://www.globalcitizen.org/en/content/no-one-puts-their-children-in-a-boat-unless-the-wa/ (accessed 20 May 2018)
Stuart, Hall (1994) Cultural identity and diaspora” from Williams, Patrick and Laura Chrisman, Colonial discourse and post-colonial theory; a Reader pp 227 -237: Harvester Wheatsheaf
Passportindex (2018) (online) Available from:https://www.passportindex.org/?country=ps (accessed 15 April 2018)
[1] [1] - نواة هذه الورقة هي مداخلة رئيسية في مؤتمر المؤسسة الدولية للبحث في الدراما في التعليم في أوكلاند – نيوزلندة، تموز 2018
the 9th International Drama In Education Research Institute, IDIERI 9: Tyranny of Distance. 2-9 July 2018
[2] مذكرات حذاء
"وأنا في طريقي إلى المدرسة رأيت على الرصيف حذاءً مهترئاً، ففزعت منه، لأن له عينين وأذنين وأنفاً وفماً، هربت منه، ولكنه أسرع بالكلام، مما أوقفني للاستماع له. كان ( أبو محمد)و (أبو أمين) يسيران في طريق ضيقةٍ وعرةٍ، وكان (أبو محمد) يذهب شمالاً ويميناً، فاهترأ نعلاي من كثرة المشي ، وبعد لحظاتٍ وقف وبدا على وجهه الحزن وقال: "آه...ماذا سنفعل الآن؟ لقد ضاعت زوجتي وأولادي الاثنين" فقال له (أبو أمين): آه...لا تفتح جروحي ".
أكملا بحثهما، ووصلا إلى رام الله، واستراحا قليلاً، وأكملا البحث، فوصلا إلى مكانٍ مهجور فدخلاه، وكانت المفاجأة أن وجدا زوجتيهما وأولادهما، وبعد اللقاء، بدأوا يفكرون إلى أين سيذهبون.
أثناء تفكيرهم، بدأت أتذكر كيف هربنا يوم التهجير، وبينما كنت أتذكر، أحسست بدموع ساخنةٍ تتساقط على (بوزي) فقد كان (أبو محمد) يبكي، وكان يقول بحزنٍ شديدٍ: "ماذا سنفعل...ماذا سنفعل؟ّ!" وأثناء بكائه مر رجل في الطريق.
قال الرجل: "لماذا أنتم جالسون هنا؟" فقلنا:"نحن تائهون"، فسأل: "أين تريدون الذهاب؟" فقلنا: "إلى عمان"، قال: "سآخذكم إلى عمان بشرط أن تعطوني أربع ذهبات"، فقلنا له: "من أين لنا بالذهب؟ّ" فقال لنا: "دبروا حالكم"، ففكر (أبو محمد) ببيعي، فهو يمتلك حذاء آخر، فأخذ يبحث عمَن يشتريني، وبعد وقتٍ وجد تاجراً، فعرضني للبيع. في البداية رفض التاجر، لأنه قال في نفسه:" هذا الحذاء مهترىء لا ينفع لشيء"، ثم أدار التاجر رأسه، وأكمل السير، إلا أنه سمع وقعي على الأرض، فأدار وجهه، فاندهش عندما رآني أتحرك على الأرض، فأسرع، واشتراني بأربع ذهبات.
وضعني التاجر في حقيبةٍ من القماش، وأغلقها جيداً، وبعد وقتٍ، وجدت نفسي على رفً في دكانه، وكان التاجر ينادي: "حذاء جميل للبيع". عندها قررت الهرب، وفي ساعات الليل قفزت على الأرض وركضت وركضت إلى أن وصلت إلى مكانٍ لا أعرفه.
مرَت في الطريق صديقة لي أعرفها، وهي (حٍذاءةٌ) مثلي، كانت تعرف الطريق التي سلكها (أبو محمد) وجماعته، وأخذنا نركض حتى دركناهم.
وجدنا (أبو محمد) يستريح من التعب مع البقية، فاختبأنا خلف حجر كبير وراقبناهم، لاحظنا أنَ (أبو محمد) يطيل النظر إلى الدليل الذي كان مغمض العينين، وظنه نائماً، فحاول أن يوقظه، فلم يفق، فوضع (أبو محمد) أذنه على صدر الرجل، وبعد قليل رفع رأسه، وبدا الحزن على وجهه، وقال: " لقد مات الدليل، ماذا سنفعل...ماذا سنفعل؟"
وبينما كان (أبو محمد) منشغلاً فيما سيفعله، اقتربت أنا وصديقتي منهم، ففوجىء (أبو محمد) بوجودي، وقال لي: "ما الذي أتى بك إلى هنا؟!" فشرحت له ما حدث لي، وأخبرته بقصة صديقتي الجديدة، وقلت له: "إن صديقتي تعرف الطريق جيداً إلى عمان"، ففرح (أبو محمد)، وسار معنا، وبعد عدة ساعاتٍ، لاحظ(أبو محمد) بأننا اقتربنا من رام الله!!! فصرخ: "كيف خدعتني، هل هذا معقول؟!" فقلت له: "لقد أتينا بك إلى رام الله، لكي تكون قريباً من قريتك". (الإرشيف الشخصي)