من المعروف أنّ جميع الأطفالِ في السنوات الأولى يمرون عبر مرحلة الرسم، فالرسم هو النشاط الإبداعي النموذجي لمرحلة الطفولة المبكرة، خاصةً في فترة ما قبل المدرسة. يرسم الأطفال أثناء هذه الفترة بحماسةٍ وشغف، وأحياناً من دون تشجيع البالغين. ويمكن لأقلِّ مُحفزٍ، في بعض الأوقات، أن يكون كافياً ليدفع طفلاً باتجاه الرسم.
لقد أظهرت الملاحظات أن جميع الأطفال يمارسون الرسم، وأن المراحل التي يمرُّ بها الرسمُ لا تختلف من طفل لآخر في سنٍّ معينة، فالرسمُ في هذه الفترة هوايةُ الأطفالِ المفضلة. إلا أنهم عندما يصلون إلى سن المدرسة، يبدأ حبهم واهتمامهم به يضعف، إلى أن يختفي هذا الانجذاب التلقائي للرسم، بدرجة أو بأخرى، تماماً لدى الأغلبية العظمى من أطفالنا. يستمر هذا الميلُ لدى عددٍ قليلٍ فقط من الأطفال الأكثر موهبةً في هذا المجال، ولدى مجموعات الأطفال المنتمية إلى ظروف تعليمية تشجع الرسم وتعزز تطويره، في المنزل أو المدرسة. من الواضح أنّ هناك نوعاً من العلاقة الداخلية بين شخصية الأطفال في هذه السن المبكرة وحبهم للرسم. من الواضح، أيضاً، أنّ تركيز القوى الإبداعية للطفل الصغير على الرسم ليس من قبيل الصدفة، ولكن لأن الرسم في حد ذاته يتيح الفرصة أمام الطفل للتعبير بسهولة عما يهمه في هذه المرحلة. وعندما يمرّ الطفل في مرحلة انتقالية نحو مرحلةٍ تطويريةٍ أُخرى، يندفع ويتغير، وتتغير، في الوقت نفسه، طبيعة إبداعاته أيضاً.
يُترَكُ الرسمُ بوصفه مرحلة منتهية، ويحلُّ محله نوع جديد من العمل الإبداعي، الإبداع اللفظي أو الأدبي، المهيمن خاصة خلال فترة البلوغ عند المراهق. حتى إن بعضَ الكُتّاب يفترضون أنّه فقط من هذه المرحلة فصاعداً يمكن لأحد أن يتحدث عن الإبداع اللفظي، بالمعنى الدقيق للكلمة، كما يُبديه الأطفال. يقول البروفيسور سولوفيف (Solov’ev):
يبدأ الإبداع اللفظي، بالمعنى الحقيقي للكلمة، في سن البلوغ. ففي النهاية، يحتاج المرء إلى إمداداتٍ كافيةٍ من التجربة الشخصية، والمعرفة المستقاة من الحياة، والقدرة على تحليل العلاقات بين الناس في الأوساط المختلفة، ليكون قادراً على استخدام الكلمات لإبداع شيءٍ من صنيعه هو، شيء جديد (أي من وجهة نظر استثنائية) يجسد ويجمع الحقائق الفعلية للحياة. لا يزال الطفل في سن المدرسة المبكرة غير قادر على فعل ذلك، وعليه، يبدو إبداعه اعتباطيّاً وساذجاً من نواحٍ عديدة.
ثمة حقيقةٌ واحدةٌ أساسيةٌ تُظْهِرُ بصورةٍ مقنعةٍ جدّاً أنَّ على الطفلِ أن يتطور وينمو تحت مظلة الإبداع الأدبي. وبأعلى مستوى من الخبرة المتراكمة، والتمكن اللغوي، وتطوّر عالمه الداخلي الفريد، يكون الطفلُ قادراً على الانخراط في الإبداع الأدبي. تكمن هذه الحقيقة ببساطة في أن لغة الطفل المكتوبة تتأخر عن لغته الشفوية.
يقول راينهارد غاب (Reinhard Gaupp):
وكما نعرف جميعاً، يتأخر التعبيرُ الكتابيُّ لأفكار ومشاعر طفل في المدرسة كثيراً عن قدرته على التعبير عنها شفويّاً. من السهل تفسير هذه الحقيقة. فعندما تُحدِّثُ صبيّاً ذكيّاً أو صبيةً عن أشياء قريبة من فهمهما واهتماماتهما، فإنك تستنبط توصيفات حية وردودَ فعلٍ ذكية في العموم. إن محادثة مثل هؤلاء الأطفال متعة حقيقية. وإذا طُلِبَ من الأطفال أنفسهم إعطاء وصفٍ حرٍّ ومُطلقٍ للموضوع الذي ناقشوه للتوّ معك، فإنك لن تستنبط سوى بعض الجمل الهزيلة. يا لها من حروفٍ جوفاء ورتيبةٍ ومتكلفة تلك التي ينبس بها صبيٌّ في المدرسة إلى أبيه الغائب، ويا لها من محادثةٍ حيةٍ وغنيةٍ تلك التي يجريها الصبي ذاته شخصيّاً عند عودة أبيه. يبدو أنه وما إن يلتقط طفل قلماً حتى تُكبَحَ أفكاره، كما لو أن محاولة الكتابة تخيفه وتُبعده. "لا أملك أيَّ فكرة لأكتبها. لا شيء يمرُّ في خاطري"، يشكو الطفل عادة. ولهذا السبب، من الخطأ الحكم على مستوى النمو العقلي لطفل ما، وعلى ذكائه (خاصةً إن كان في الصفوف الدنيا)، على أساس نوعية/ جودة كتاباته المدرسية.
ينطوي تفسيرُ هذا التباين بين تطوّر اللغة الشفوية والمكتوبة أساساً على الفرق في صعوبة طريقتَي التعبير لدى الطفل؛ فعندما يواجه الطفلُ مهمةً صعبةً للغاية بالنسبة إليه، يتناولها كما لو أنه أصغر سنّاً بكثير مما هو فعليّاً.
يقول بلونسكي (Blonskii):
كل ما يتوجب علينا القيام به هو أن نجعل العمل اللغوي المطلوب من الطفل فعله أكثر تعقيداً، وأن نسند إليه مهمة صعبة، أي أن نُجبره على التحدث على الورق، حينها سندرك على الفور أن لغته المكتوبة تصبح أصغر من لغته الشفوية. ثمة كلمات لا ترتبط في جمل، وهناك زيادة كبيرة في صيغ فعل الأمر. يمكن للمرء أن يرى الشيء نفسه حرفيّاً في كل مكان: عند إرغام الطفلِ على أداء مهمة عقلية صعبة، فيبدأ بإظهار كلِّ الصفات العمرية الأصغر مرة أخرى. إذا عرضنا على طفل في السابعة صورةً بمضمون يتوافق مع عمره وطلبنا منه أن يتحدث عن الصورة، فإنه سيتكلم مثل مَنْ هم في سنِّ السابعة، بمعنى أنه سيقدم توصيفاً لما يراه في الصورة. ولكن، إن عرضنا أمامه صورةً لا يستطيع فهمها، فعندئذٍ سيبدأ حديثه عنها كمن هو في الثالثة من عمره، أي أنه سيُسجل قائمةً بما تحويه الصورة من موجودات، من دون ربطها معاً.
يحدث الشيء ذاته عندما ينتقل طفلٌ من اللغة الشفوية إلى المكتوبة. تُعَدُّ اللغة المكتوبة أصعب لأن لها قوانينها الخاصة التي تختلف في جزء منها عن قوانين التعبير الشفوي، إضافةً إلى أنّ الطفل لم يتقن بعدُ هذه القوانين على نحوٍ تام.
يمكن تفسير الصعوبات التي يواجهها الطفل عند الانتقال إلى اللغة المكتوبة بتعلقها بأسباب داخلية عميقة في كثير من الأحيان. لطالما كان التعبير/ الخطاب الشفوي مفهوماً للطفل، وينبع هذا من التواصل الحي مع آخرين من البشر، إضافةً إلى أنه رد فعل طبيعي تماماً، أيّ استجابة الطفل، لما يجري من حوله ويؤثر عليه شخصيّاً. عندما يبدأ بالتحول إلى اللغة المكتوبة، التي تُعَدُّ أكثر تجريداً واعتباطيةً إلى حدٍّ كبيرٍ، لا يفهم الطفل في الغالب ماذا يجب عليه أن يكتب، إذ ليس لديه أيُّ دافعٍ فعليٍّ للكتابة.
ينطبق هذا الأمر بصورة خاصة على الطفل عندما يُرغَمُ على الكتابة عن موضوع معين في المدرسة. قديماً، كانت هذه هي الطريقة الرئيسة لتطوير الإبداع الأدبي للأطفال في المدرسة بصورة عامة؛ يحدد المعلِّمُ موضوعاً للتعبير، ويتوجب على التلاميذ كتابته، مُحاوِلين جعلَ كتاباتهم مشابهة للغة البالغين الأدبية أو لأسلوب الكتب التي قرأوها سابقاً قدر الإمكان. لقد بقيت هذه المواضيع غريبة بالنسبة للأطفال، فلم تمسّ خيالهم أو عواطفهم، ولم تُعرَض على الأطفالِ نماذج توضح لهم طرق الكتابة. كان من النادر أن يتم ربط هذا العمل بهدفٍ كان مفهوماً ومثيراً للاهتمام وضمن قدرة الأطفال. وهكذا، فإنّ المعلمين الذين وجَّهوا الإبداع الأدبي لتلاميذهم بطريقة خاطئة، غالباً ما تسببوا في قتل الجمال العفوي، والتفرد، والحيوية في لغة الأطفال، وحالوا دون تمكنهم من اللغة المكتوبة بوصفها طريقة مميزة للتعبير عن أفكار المرء ومشاعره. بدلاً من ذلك، طور الأطفالُ، باستخدام تعبير بلونسكي، نوعَ المصطلحات التي تنتج عن التلقين الميكانيكي الخالص الذي يُمارَس على الأطفال في المدرسة إلى جانب لغة الكتب السطحية الخاصّة بالبالغين.
يقول تولستوي:
تتوقف مهارة المعلم الأساسية في تعليم اللغة، والتمرين الأساسي الذي يتوجب توظيفه لهذا الغرض في مساعدة الأطفال على تعلم الكتابة، على تكليفهم بموضوعات، في الواقع إنه ليس تكليفهم بموضوعات بقدر ما هو توفير مجموعة كبيرة من الموضوعات لهم، بالإشارة إلى طول موضوع التعبير، وتوضيح بعض الأدوات الأدبية التمهيدية. لطالما كتب العديد من التلاميذ الأذكياء والموهوبين موضوعات تعبير جوفاء تماماً بطريقة: "شبَّتْ النار، بدأوا بسحب الأشياء إلى الخارج، وأنا خرجْتُ"، ولم يسفر عن ذلك شيء، بالرغم من حقيقة أن الموضوع كان غنيّاً وما وُصِفَ قد ترك انطباعاً عميقاً عند الطفل. لم يفهم التلاميذ لماذا يتوجب عليهم أن يكتبوا ولم يعرفوا الفائدة المرجوة من الكتابة. لم يتمكنوا من فهم الفن؛ جمالية التعبير عن الحياة بالكلمات وجاذبية هذا الفن.
يصبح تطوير الإبداع الأدبي للطفل أسهل وأنجح إلى حد كبير عندما يتم تشجيعه على الكتابة عن موضوع مفهوم بالنسبة له، موضوع يستحوذ على عواطفه، والأهم من ذلك كله، موضوع يشجعه على التعبير عن عالَمه الجُوّاني بالكلمات. ويكتب الطفل غالباً بطريقة سيئة إذ لا شيء لديه يرغب في الكتابة عنه.
يقول بلونسكي:
يجب أن يتعلم الطفلُ أن يكتب فقط حول ما يعرفه جيداً وما فكر فيه كثيراً وعميقاً. لا يوجد شيء أكثر ضرراً للطفل من إعطائه موضوعاً فكر فيه لبرهة قصيرة وليس لديه ما يقوله/ يكتبه عنه. يؤدي مثل هذا التمرين إلى ظهور كُتّابٍ فارغين ومصطنعين. على المرء أن يُنمِّيَ في الطفل الاهتمام الكبير بالعالَمِ من حوله إن أراد أن يخلق منه كاتباً. وإن أفضل حلٍّ هو أن يكتب الطفلُ في الموضوعات التي تهمُّهُ حقّاً، لا سيما إن كانت مفهومة بالنسبة له. يجب أن يتعلم الطفلُ الكتابةَ حول ما يهمُّهُ فعلاً وما فكر فيه كثيراً وعميقاً، وما يعرفه ويفهمه جيداً. يجب أن يتعلم الطفلُ ألا يكتب عما لا يعرفه، ولا يفهمه، ولا يهمه. ومع ذلك، يفعل المعلمُ أحياناً العكس تماماً، وهكذا، فإنه يتسبب في قتل الكاتبِ الموجود داخل الطفلِ.
لهذا السبب، ينصح بلونسكي بأن يتمَّ تحديد أنواع من الأعمال الأدبية الأكثر مُواءَمةً للأطفال، كالملاحظات، والرسائل، والقصص القصيرة جدّاً.
إذا أُريدَ للمدرسة أن تكون تعليمية حقّاً، يجب أن تركز على هذه الأعمال الأدبية المحددة. بكل الأحوال، فالرسائل (الشخصية والتجارية) هي شكل الكتابة الأكثر انتشاراً بين البشر. من الواضح أن المحفز على كتابة الرسائل هو التواصل مع أولئك البعيدين. وعليه، لا بدَّ أن يُحفزَ التعليم الاجتماعي الطفل- الكاتب بطريقة ما: كلما اتسعت دائرة البشر التي يتصل بها الطفل، وكلما ازدادت روابطه معه، ازداد الحافز لكتابة الرسائل. تُوصَفُ الرسائل الموجهة إلى أناس غير موجودين حقّاً أو الكتابة من دون هدف حقيقي بأنها زائفة وكاذبة.
وهكذا، يتجلى التحدي في خلق حافز للكتابة داخل الطفل ثم مساعدته على إتقان تقنيات الكتابة. وصف ليو تولستوي دراسة حالة لافتة شجعت على الكتابة الإبداعية لدى أطفال الفلاحين، شارك فيها بنفسه. وفي مقاله "مَنْ عليه أن يتعلم الكتابة وممَّن: أطفالُ الفلّاحين منّا، أم نحن من أطفالِ الفلّاحين؟"، توصَّل هذا الكاتب العظيم إلى استنتاج يبدو متناقضاً، مفاده أن البالغين، وكتّاباً عظماء مثله، يجب أن يتعلموا الكتابة من أطفال الفلاحين، وليس العكس. تشير هذه التجربة في تشجيع الكتابة الإبداعية لدى أطفال الفلاحين بوضوح إلى كيفية حدوث عملية الكتابة الإبداعية عند الطفل؛ كيف تولد، وكيف تتطور، وما الدور الذي يجب على المعلم الراغب في مواصلة تطوير هذه العملية أن يلعبه. تبدّى جوهرُ اكتشاف تولستوي هذا عندما لاحظ وجود سمات معينة في كتابة الأطفال ميزت هذه السن تحديداً، وأدرك أن المهمة الحقيقية للتعليم لا تكمن في غرس لغة البالغين في الأطفال قبل الأوان، وإنما في مساعدة الطفل على تنمية لغته الأدبية وتطويرها وتشكيلها. كلف تولستوي طلابه مهمة كتابة موضوع يعتمد على المثل القائل: "يطعمُني بيده اليُمنى، ويصفعُني باليُسرى".
"لنتخيل فقط- قلتُ- أنَّ فلّاحاً يستقبل متسولاً، ومن ثم يبدأ بتأنيبه لأنه يحتاج إلى الصدقة، ألا يمكن وصف هذا الموقف بالمثل القائل: يطعمُني بيده اليُمنى ويصفعُني باليُسرى"؟ رفض الأطفالُ في البداية كتابة أيّ شيء لأنهم اعتقدوا أن المهمة كانت أعلى من طاقة استيعابهم، لذا بدأ تولستوي يكتب بنفسه. يقول:
إن أيَّ شخصٍ غير مُتحيِّزٍ يملك أيَّ شعور تجاه الفن والثقافة الشعبية ويقرأ الصفحة الأولى التي كتبتُها، والصفحات التالية من القصة التي كتبها تلاميذي، يميِّزُ هذه الصفحة عن غيرها من الصفحات، حتى من دون التفكير في ذلك. إنها بارزة/ نافرة مثل إبهامٍ متقرح، إنها ملأى بالكذب، وزائفة، ومكتوبة بطريقة سيئة...
بدا غريباً جدّاً، بالنسبة لي، أنْ يُظهِرَ صبيٌّ فلّاح نصف أمِّيٍّ فجأةً مثلَ هذه المهارة الفنية الواعية، ومستوىً عالياً جدّاً من التطور لم يتمكن غوته من الوُصول إليه. بدا غريباً جدّاً ومُهيناً أنني، مؤلف كتاب [الطفولة]، تمتعتُ ببعض النجاح واعترف المثقفون بموهبتي الفنية، لم أتمكن من عدم مساعدة سِمكا (Semka) أو فِدكا (Fedka) (أحد عشر عاماً) أو إرشادهما فحسب، لكنه كان مجرد اندفاعٍ محظوظٍ للإلهام ذاك الذي سمح لي بالمتابعة والفهم. بدا غريباً جدّاً بالنسبة لي أنني لم أُصدِّق ما حدث بالأمس.
كيف، إذاً، استطاع تولستوي أن يوقظ في هؤلاء الأطفال، ممن لم تكن لديهم أيُّ فكرة مسبقة عن ماهية الكتابة الإبداعية على الإطلاق، القدرةَ على التعبير عن أنفسهم بهذه الطريقة المعقدة والصعبة؟ بدأوا عملية الإبداع كمجموعة. بدأ تولستوي، وقدَّموا له الاقتراحات.
"قال أحدهم، لِنُحوِّل هذا العجوز إلى ساحر؛ قال آخَر، لا، لا حاجة لذلك، فلنجعل منه مجرد جندي؛ لا من الأفضل أن نجعل منه لصّاً يسرقهم؛ لا، لا يتوافق هذا مع المَثل"، قالوا. شارك كلُّ الأطفال في كتابة القصة. أصبحوا مهتمّين وزادت حماستهم في خِضمِّ عملية الإبداع نفسِها، وكانت هذه الاندفاعة الأولى باتجاه الإلهام الإبداعي. "هُنا- يكتب تولستوي- من الواضح أنهم شهدوا سحر التقاط التفاصيل الفنية في الكلمات لأول مرة". ألَّف الأطفالُ الشخصيات، وأبدعوها، وصفوا مظهرها الخارجي، عبر مجموعة من التفاصيل، والمواقف المعينة، وتمَّ إدراكُ كلِّ هذا في شكلٍ لغويٍّ واضحٍ معين. "برزت عيناه بدموع لا تنهمر"، كتب تولستوي عن صبيٍّ يعمل على القصة، "عصر يديه النحيلتين المتَّسِختين بطريقة متشنجة؛ ثارت ثائرته عليَّ، وباستمرارٍ كان يحثُّني على الإسراع". "هل كتبتها؟ هل كتبتها؟"، ظلَّ يسأل. عاملَ الأطفالَ الآخرين بغضبٍ وديكتاتورية، أراد أن يكون المتكلمَ الوحيد، لا بالطريقة العادية التي يتكلم بها الناس، بل بالطريقة التي يكتب بها الناس، أي أراد أن يستخدم الكلمات فنيّاً ليصف الصُّوَرَ والمشاعر؛ لم يتحمل، مثلاً، أن يُعادَ ترتيب كلماته. فإن قال: "أصيبت ساقاي"، فلن يسمح بقول: "أُصِبْتُ في ساقيّ". يبين هذا المثال الأخيرُ مدى قوة شعور هذا الطفل بالشكل اللفظي، وإن كانت هذه هي المرة الأولى التي جرَّبَ فيها الكتابة الإبداعية.
إعادة تنظيم الكلمات، وترتيبها، بالنسبة للأدب، كما اللحن للموسيقى، أو كما التصميم للصُّورة. وإن الشعور نحو هذا النمط اللفظي، والتفاصيل التصويرية، والشعور بالحجم، كل هذا، بحسب تولستوي، كان على درجةٍ عاليةٍ من التطور في الطفل. لقد كان الطفلُ يلعب دوراً عندما كان يكتب، وبينما جعل شخصياته تتكلم، تكلم هو "مُستخدِماً نبرة تَعِبَةً وهادئةً، مألوفةً وجادَّة، وهادفة في الوقت نفسه، مُسنِداً رأسه بيده، إلى أن صاح الأطفالُ الآخرون بأعلى أصواتهم ضاحكين". فَهِمَ الأطفالُ هذا العملَ المشترك الحقيقي مع كاتب بالغ بوصفه جهداً تعاونيّاً حقيقيّاً، فشعروا بأنفسهم شركاء مع البالغين بالتساوي. "وهل سنقوم بنشر هذا العمل"؟ سأل الصبي تولستوي. "إن كنا سنفعل، يجب أن نقول: كتبه كلٌّ من ماكاروف (Makarov)، وموروزوف (Morozov)، وتولستوي (Tolstoy)". يكشف هذا الأمر عن موقف الطفل من تأليف هذا العمل المُشترك.
يكتب تولستوي "لقد كان جليّاً". "لم يكن هذا الإبداع نتاج فرصة، بل كان إبداعاً واعياً... لم أصادف أيَّ شيء مثل هذه الصفحات في الأدب الروسي كله".
وبناءً على هذه التجربة، تقدَّمَ تولستوي بالفرضية الآتية: من أجل تطوير الكتابة الإبداعية لدى الأطفال، يرى تولستوي أنَّ كل ما عليك فعله هو توفير الحافز والمواد اللازمة لإبداعاتهم.
كانت المادة كلَّ ما احتاجَهُ مني من أجل تعبئتها بطريقة متناغمة وتامة. وما إن منحتُهُ الحرية المطلقة، وتوقفتُ عن تعليمه، حتى كتب عملاً شِعريّاً لم يكن له مثيلٌ في الأدب الروسي. وهكذا، فإني مقتنع بحقيقة أنَّ علينا التوقف عن محاولة تعليم الأطفال عامة، وأطفال الفلّاحين خاصة، كيفية الكتابة والتأليف، وكيف نُقْدِمُ على الكتابة.
إن أمكن تسميةُ ما فعلْتُهُ من أجل تحقيق هذا الهدف بالتقنيات، إذاً، فهذه التقنيات هي: أولاً: قدِّم أكبر قائمة موضوعات مختارة، من دون اختيار تلك الموضوعات التي تعتقد أنها مناسبة للأطفال على وجه الخصوص، ولكن باقتراح الموضوعات الأكثر جدية التي تهمك شخصيّاً. ثانياً: قَدِّم للأطفال أعمالاً مؤلِّفوها من الأطفال ليقرأوها كنماذج، ومثل هذه الأعمال فقط لا غير. ثالثاً: (لهذه النقطة أهمية خاصة)، لا تنتقد الطفلَ أبداً عندما تُراجِعُ كتابته، لا على الترتيب، ولا فن الخط، ولا الإملاء، ولا بنية الجمل أو المنطق على وجه التحديد. رابعاً: وبما أن صعوبة الكتابة الإبداعية لا تكمن في الطول أو المضمون، ولكن في القيمة الفنية للموضوع، إذاً فالتسلسل الذي تُعرَضُ فيه الموضوعات يجب أن تحدده طبيعة الآلية الكامنة وراء العمل الإبداعي، لا الطول ولا المضمون ولا اللغة.
مهما كانت تجربة تولستوي مفيدة، يشير تأويله لها إلى مثالية مرحلة الطفولة والموقف السلبي من الثقافة والإبداع الفني الذي ميز نظرياته الدينية/ التعليمية إبّان الفترة الأخيرة من حياته. وبحسب النظرية الرجعية لتولستوي:
مثلنا الأعلى ليس أمامنا، إنه خلفنا. والتعليم يهدم بدلاً من أن يُطوِّرَ البشر. تعليم الطفل وإرشاده مستحيل وبلا معنى لسببٍ بسيطٍ يتمثل في أن الطفل يقف أقرب مما أفعل، أقرب مما يقف أيُّ شخص بالغٍ، من الانسجام والحقيقة والجمال والخير كمُثُلٍ عُليا، بالاتجاه الذي أردتُ أن أقوده نحوه باعتزاز. وعيه لهذا المثل الأعلى أقوى لديه مما هو لديّ.
يتصادى هذا الأمر مع نظرية روسو (Rousseau) في العلم، المنشورة منذ زمن، التي تقول: "يولَدُ الإنسانُ كاملاً. هذا التصريح العظيم لروسو، كالصخرة، لا يزال راسخاً وحقيقيّاً. عند الولادة، يكون الإنسانُ نموذجاً للانسجام، والحقيقة، والجمال، والخير".
يحتوي هذا الرأيُ غير الصحيح حول كمال طبيعة الطفل على خطأ ثانٍ اقترفه تولستوي فيما يتعلق بالتعليم. لو كان الكمالُ خلفنا وليس أمامنا، فمن المنطقي تماماً إنكار أهمية التعليم ومغزاه أو إمكاناته. ومع ذلك، إذا رفضنا الاقتراح الأول، وهو ما لا تؤكده الحقائق، فلسوف يتضح بصورة تامة أن التعليم عامة، وتعليم الأطفال الكتابة الإبداعية خاصة، ليس فقط ممكناً، ولكنه محتوم أيضاً. من السهل أن ندرك، وإِنْ باعتبار غير مباشر، أن ما فعله تولستوي مع أطفال الفلّاحين لا يمكن وصفه بصورةٍ مختلفةٍ عن تعليم الكتابة الإبداعية. لقد أيقظ لدى هؤلاء الأطفال وسيلة للتعبير عن تجاربهم ومواقفهم تجاه العالَم الذي كان مجهولاً تماماً بالنسبة لهم سابقاً. لقد قام بالبناء والتأليف والتوليف بالتعاون مع الأطفال؛ نقل حماسه إليهم وقدَّم لهم موضوعاً، بمعنى أنه وجَّهَ عملية الإبداع بأكملها، وعرض لهم تقنياتها، وهكذا دواليك. هذا هو التعليم بالمعنى الدقيق للكلمة.
وانطلاقاً من الفهم العلميّ الصحيح نخلص إلى قول أنَّ مفهوم التعليم لا يعني، إطلاقاً، أن يُلَقَّنَ الأطفالُ، بطريقةٍ مصطنعةٍ، المُثُلَ والمشاعر والأمزجة التي تكون غريبةً عنهم في كليتها. ينطوي النوع الصحيح من التعليم على إيقاظ ما هو موجودٌ قبلاً في داخل الطفل، ومساعدته على تطويره وتوجيه هذا التطوير في اتجاه محدد. فعل تولستوي مع الأطفال كلَّ ما رواه لنا. ليس المهم بالنسبة لنا الآن نظرية التعليم العامة الخاصة بتولستوي، ولكن المهم هو وصفه الرائع للحماسة التي تُولِّدها عملية الإبداع الأدبي التي يقدمها في هذه الصفحات.
تتجلّى حقيقة أن الأطفال يكتبون بكامل إرادتهم عندما تظهر لديهم الحاجة لذلك. في كتابة أطفال الشوارع، تأتي الإبداعات اللفظية لهؤلاء الأطفال، في المقام الأول، على هيئة أغنيات تعكس جميع جوانب حياتهم. إنها غالباً أغنيات حزينة وتفيض بالكآبة والسوداوية. كما قال بوشكين: "من الحوذيِّ إلى أرقى شاعر في الوجود، كلُّنا نغنّي أغنيات كئيبة". تعكس أغنيات أطفال الشوارع جوانب حياتهم المظلمة والصعبة. فالسجن، والموت المبكر أو المرض، وفقدان الوالدين، والهجر، والعجز عن الدفاع عن النفس، كلها أفكارٌ رئيسةٌ تمثل بواعث لهذه الأغنيات. وصحيح أيضاً أن لهذه الأغنيات باعثاً آخَر، وهو نوع من التبجح، والتفاخر، أو تمجيد لمآثرهم.
إزميلي في جيبي
في الظلام وعبر الثلج
تسللتُ إلى كوخِ شخصٍ ما،
حطمْتُ النافذة بضربة واحدة...
يغنّي طفل الشوارع هذا أغنية عنه. ولكن، حتى في هذا المثال، ما نسمعه حقّاً هو استجابة طبيعية لصعوبة حياته المتعبة ووضعه كمتشرد، ومرارة منطقية ومفهومة لمصيره.
مرَّ عليَّ وقتٌ عندما طلبتُ مساعدة من يدك،
الآن أصبح قلبي قاسياً وصرْتُ لصّاً.
بوسعك أن تبصق عليَّ، أن ترميني بالحجارة، اعتدْتُ على ذلك، وبوسعي أن أتحمَّل،
لا أنتظر شفقتك، أعْلمُ أنَّ أحداً لا يهتمُّ لأمري.
قبل سنواتٍ عدة، جرت محاولة جديرة بالاهتمام لجمع قصص السير الذاتية لأطفال الشوارع، حيث جمعت آنّا غرِنبيرغ (Anna Grinberg) سبعين قصة ألَّفها أطفال الشوارع في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة. كتبت تقول:
أظهر الجميعُ اهتماماً حقيقيّاً في الكتابة عن حيواتهم. عرف بعضهم القراءة والكتابة بصعوبة، أو حتى الأميون منهم، بالرغم من كل العوائق، شقُّوا طريقَهم صُعوداً، وتمكنوا من الحصول على بعض الأوراق والأقلام الصغيرة، وبعد أن حظوا بمكان للجلوس وقلم، عبروا بأنفسهم وشرعوا في الكتابة بوقار وضمير حيّ لعدة ساعات، طالبين المساعدة من جيرانهم، يعيدون الكتابة ويراجعونها بحثاً عن أخطاء بالتحقق من صفحاتٍ مطبوعةٍ مأخوذةٍ من كتبٍ ممزقةٍ التقطوها صدفة. وباستثناء ما كتبه أطفال لم يرغبوا في الكشف عن أنفسهم بصورةٍ تامةٍ، وبهذا حافظوا على سرية هوياتهم، تُظهِرُ هذه القصصُ ميزةً رئيسةً لجميع إبداعات هذا النوع. ثمة ما يتراكم داخل الفرد، ويحاول الخروج بصورة مؤلمة، ويُطالِبُ بالتعبير عنه، باذلاً ما في وسعه للتعبير عنه بالكلمات. يكتب الطفلُ بمنتهى الجدية عندما يكون لديه ما يكتب عنه.
"هذه نهاية كتابتي"، كتبت إحدى الفتيات، "ليتني أستطيع أن أكتب أكثر من ذلك، ما هذا إلا ثلث ما مررتُ به. أوه، يا حياتي، سأتذكَّركِ لفترة طويلة!".
إذا ركَّزنا على التشابه الداخلي، بدلاً من الخارجي، فإننا سننظر إلى هذه القصص باعتبارها تحتوي على كل ملامح الكتابة الإبداعية لدى الأطفال، تلك التي أشار إليها تولستوي. خارجيّاً، تختلف هذه القصص اختلافاً كبيراً عن قصص فِدكا وسِمكا لتولستوي، من حيث المضمون واللغة. إنها مختلفة كما اختلاف الأزمنة التي وُلِدَتْ فيها مجموعات الأطفال هذه والبيئات التي عاشوا فيها. لكنّ الجدية الحقيقية للغة التي يستخدمونها، الدالَّة على حاجةٍ ماسَّةٍ للتعبير عن أنفسهم بالكلمات، وضوح لغة هؤلاء الأطفال وتفرُّدها، هي تماماً عكس اللغة الأدبية المبتذلة عند البالغين. تُذكِّرُنا العاطفة الصادقة والصُّوَر الملموسة في هذه القصص بملامح الكتابة ذاتها في قصص أطفال الفلّاحين التي أوردها تولستوي. قدَّم أحدُ الأطفالِ العنوان الآتي لسيرته الذاتية، مُعبِّراً بذلك عن الشعور العميق والخصوصية الحقيقية للتجارب المرتبطة بالإبداع الأدبي: "الذكريات والحنين إلى بيتي في مقاطعة فولوغود في قرية فيمسك، في الغابة بالقرب من النهر".
من السهل جدّاً أن نفهم الرابط بين تطور الإبداع الأدبي والمرحلة العمرية الانتقالية في فترة المراهقة. النضج الجنسي هو الحقيقة الرئيسة التي تميز هذه السن. تفسر هذه الحقيقةُ الرئيسة والأساسية كل المزايا الأُخرى المرتبطة بهذه السن. لهذا، تحديداً، تعدُّ فترة المراهقة نقطة تحوُّلٍ حاسمةً في حياة الطفل. منها يدخلُ حياةَ الطفلِ عاملٌ جديدٌ ومؤثر؛ النضج الجنسي والغريزة الجنسية. ويتزعزع التوازنُ المستقرُّ القديم الذي تطور خلال سنوات المدرسة الأولى، دون أن يتحقق بعدُ أيُّ توازن جديد. يشكِّلُ التوازنُ المتزعزع والبحثُ عن توازن جديد أساسَ الأزمة التي يمرُّ بها الطفلُ في هذه السن. ولكن، ما هي طبيعة هذه الأزمة؟
لم يقدّم العلمُ بعد إجابة دقيقة عن هذا السؤال. يرى البعضُ أنَّ السمة الأساسية لهذه الأزمة هي الضعف؛ أي ضعف بنية الطفل وسلوكه الذي يظهر خلال هذه الفترة الحرجة. ويعتقد آخرون، على العكس من ذلك، أنَّ وراء هذه الأزمة ارتفاعاً ملحوظاً في النشاط الحيوي، يشمل جميع جوانب نمو الطفل، وأنّ ظهور الأزمة في هذه السن هو مجرد نتيجة للزيادة في القوة الإبداعية. نعلم أن المراهق في هذه السن ينمو بوتيرة أسرع، كما أن جسده يبدأ بمحاكاة شكل البالغ بسرعة، ولهذا النمو الشامل آثار على سلوك المراهق وحياته الداخلية.
يتكشَّفُ عالَمٌ جديدٌ كليّاً من التجارب الداخلية، والدوافع، ونقاط الجذب في هذه السن، فتصبح حياةُ الطفلِ الداخلية أعقد بصورة لا نهائية مقارنةً بما كانت عليه في السنوات الأولى من مرحلة الطفولة. وتصبح علاقاته مع المُحيطين به ومع بيئته أعقد على نحو أوسع، كما تخضعُ الانطباعات التي يتلقّاها من العالَمِ الخارجي لمُعالجةٍ أعمق. ثمة سمة واحدة واضحة جدّاً في سلوك المراهق ترتبط مباشرة بالميل نحو الكتابة الإبداعية في هذه المرحلة؛ إنه مستوىً عالٍ من الاضطرابات الانفعالية والتقلبات العاطفية في مرحلة المراهقة. عندما يحدث السلوك الإنساني في ظروفٍ معتادة لا متغيِّرة، لا يكون عادة مُشبَّعاً بأيِّ عاطفة ملحوظة أو قوية على نحوٍ خاص، ونكون على نحو عادي هادئين أو غير مبالين عندما نقوم بأفعالٍ معتادة في محيط مألوف. ولكن ما إن يختلّ توازننا السلوكي، تتولد لدينا ردة فعلٍ عاطفية قوية وحيوية جدّاً، وتتشكل العواطف أو القلق كلما اختلَّ توازننا مع البيئة.
إذا بلغ مثلُ هذا الاختلال ذروته في تقوية موقفنا، ضمن انتصارٍ نسبيٍّ على الصعوبات التي واجهناها، فسنُجرِّبُ مشاعر إيجابية بصورة عامة، كالسعادة، والفخار، وغيرها. ومن ناحيةٍ أُخرى، إذا اختلَّ هذا التوازنُ بطريقة تُضعِفُ موقفنا، وإذا أثبتت الظروفُ أنها أقوى منّا وشعرنا أننا في قبضتها، بلا حولٍ أو قوة، ضُعفاءُ، مُهانون، فإننا سنشعر بمشاعر سلبية، كالغضب، والخوف، والحزن. وعليه، يصبح من المفهوم تماماً أن المراحل الحرجة في حياة الإنسان؛ حيث نقاط التحول وإعادة الصياغة والتشكيل الداخلي للشخصية، غنية بردود الفعل العاطفية على وجه الخصوص أو بحياة ملأى بالمشاعر. إنّ السنوات الأخيرة في المدرسة، حيث مرحلة البلوغ مجرد نقطة تحول، أزمة داخلية في تطور الطفل ونموه. وبناءً على ذلك، يصبح من الطبيعي ترافق تلك المرحلة بازديادٍ كثيفٍ وتقلُّبٍ في المشاعر: اختلَّ التوازن بين الطفل وبيئته، كما ذكرنا سابقاً، في هذه السن، بسبب ظهور عاملٍ جديد لم يُجرَّبْ في السابق كثيراً.
إنّ هذا هو مصدرُ التقلب العاطفي الزائد في هذه السن، فهو يُسهم إلى حدٍّ كبيرٍ في تفسير لماذا يستبدل الطفلُ الرسمَ، الذي لطالما كان نشاطه الإبداعي المفضل خلال سنوات ما قبل المدرسة، بالكتابة الإبداعية حال اقترابه من هذه السن. تُمكِّنُهُ اللغةُ من التعبير عن العلاقات المعقدة، خاصة العلاقات الداخلية، بسهولة أكبر بكثير من الرسم. اللغة، أيضاً، أكثر قدرةً على التعبير عن حركة بعض الأحداث، وديناميكيتها، وتعقيدها من رسمٍ صبيانيٍّ، ناقص، وملتبس. ولهذا السبب يُستَبدَلُ رسمُ الأطفالِ؛ النشاطُ الذي يلائم مرحلةَ مَواقفِ الأطفال البسيطة وغير المعقدة تجاه العالَم الخارجي تماماً، باللغة بوصفها وسيلة التعبير الفُضلى، انسجاماً مع المواقف الداخلية الأعمق والأعقد تجاه الحياةِ والعالَم. يحقُّ لنا أن نسأل عن الموقف الذي علينا أن نتبنّاه بشأن الاضطرابات الانفعالية المتزايدة في مرحلة المراهقة. كيف سنُقيِّمه بوصفه حقيقة إيجابية أو سلبية؟ هل مِنْ شيءٍ مرضيٍّ يرتبط به، شيء يودي بالأطفال إلى العزلة أو تركيز اهتمامهم على أنفسهم فقط، شيء يدفع بهم إلى أن يصبحوا حالمين، وينسحبوا من الواقع، كما هو مُلاحظٌ في هذه السن في كثير من الأحيان، أم أنَّ هذا الاضطراب الانفعالي عاملٌ إيجابيٌّ يُثري ويزيدُ، بصورة لامنتهية، من إنتاجية علاقة الطفل مع العالَمِ من حوله؟ لا تتحقق الأشياء المهمة في الحياة من دون قدرٍ كبيرٍ من العاطفة.
يقول بِستراك (Pistrak):
لا يقدِّمُ التعليم الفني المعرفة أو المهارات، بل يعطي الحياةَ وَقْعاً، أو ربما، لعلَّ من الأدقِّ القول، خلفية للعيش. يصبح للقناعات، التي انطبعت في أذهاننا في المدرسة من خلال المعرفة، جذورٌ في نفسية الطفل عندما يتعزز عاطفيّاً. لا يُمْكِنكَ أن تكونَ مُقاتلاً مُخْلِصاً إن لم يمتلئ عقلُكَ، في لحظة المعركة، بصُوَرٍ واضحة، وقوية، وحيَّة، تُلهِمُكَ لتُقاتل. لا يُمْكنكَ أن تكافح ضدَّ الطرق القديمة، إن لم تحمل في داخلك أيَّ كراهيةٍ لها، فالقدرة على الكراهية عاطفة. لا يُمْكنكَ بناء الجديدِ بالحَماس إن لم تكن قادراً على حُبِّ هذا الجديدِ بحَماسٍ أيضاً، وبعد كل هذا، يتنامى الحَماسُ بوصفه نتيجة للنوع الصحيح من التعليم الفني.
أجرى ف. قيزه (F. Giese)، قبل الحرب، دراسةً عن الكتابة الإبداعية للأطفال من مختلف الأعمار. كان قادراً على الوُصول إلى أكثر من 3,000 عملٍ مُؤلَّفٍ من قِبَلِ أطفالٍ تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة والعشرين. أُجرِيَ عملها في ألمانيا قبل الحربِ، ولهذا السبب وحده لا يمكن استقراء النتائج هكذا ببساطة، إذ إنَّ المزاجَ والاهتمامات وكلّ العوامل التي تعتمد عليها الكتابة الإبداعية تختلف اختلافاً كبيراً هُنا عمّا هي عليه في دراسة قيزه. وعلاوة على ذلك، وبما أنَّ دراسته أُجرِيَتْ على مثل هذا النطاق الواسع، فقد اقتصر على تسجيل أكثر الجوانب سطحيةً وأعمِّها لقصص الأطفال وقصائدهم، وتحديد المزاج السائد والشكل الأدبي في مختلف الأعمار. ومع ذلك، قد تكون نتائج دراسته ذات أهميةٍ كبيرةٍ باعتبارها أول محاولة لإجراء مثل هذا الاختبار واسع النطاق لكتابة الأطفال الإبداعية، لدرجة أنها، مع ذلك، تُظهِرُ بعضَ الصفات المرتبطة بالعمر، التي، بشكلٍ أو بآخر، ووفقاً لشرطٍ واحدٍ أو آخر، قد تَظهرُ أيضاً لدى أطفالنا.
وأخيراً، تحظى هذه النتائج بشيءٍ من الأهمية لأنها توفر لنا المواد التي يمكن أن نقارنها مع ما لدينا من بيانات تخص المراهقين. تُظهِرُ البياناتُ التي يذكرها المؤلف كيف يختلف الموضوع الرئيس في شِعر ونثر الأولاد والبنات بوصفه الوظيفة التي يُزاولها العُمر. تبرز التجربة الاجتماعية قليلاً في الشِّعر، إلا أنّ وجودها يهيمن على كتاباتهم النثرية، التي تُعَدُّ واضحةً بصورةٍ خاصةٍ مقارنةً بكتابات الأطفال في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة السابقة. ارتفعت نسبةُ النثر المُكرَّسة للتجربة الشخصية خلال هاتين السنتين عند الصِّبيان من 23,1 بالمئة إلى 53,4 بالمئة، وعند الفتيات من 18,2 بالمئة إلى 45,5 بالمئة، بمعنى أنها تجاوزت الضعف، في حين أنّ نسبة مثل هذه الموضوعات في الشِّعر عند الصِّبيان والفتيات الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة بلغت صِفراً. يمكن تفسير النسبة الكبيرة نسبيّاً من الموضوعات المستقاة من التجربة الاجتماعية لدى الأطفال الصغار بحقيقة أنَّ قيزه ضمَّنَ في تصنيفه هذا جميع الأحداث التافهة المحتملة، والأحداث اليومية، مثل اندلاع حريق، ورحلة خارج المدينة، وزيارة إلى متحف، وهلمَّ جرّا. فقط ما نسبته 2,6 بالمئة من الكتابات النثرية و2,2 بالمئة من الكتابات الشِّعريَّة هي ما تضمَّن أحداثاً حصلت في المدرسة، أي إلى هذا الحد الضئيل تؤثر حياةُ المدرسةِ في العالَمِ الداخلي/ الجواني للأطفال. ومن ناحية أخرى، ففي الشِّعرِ تحضُرُ الموضوعات الإيروتيكية أكثر من النثر، كما أن الدوافع الإيروتيكية الحادثة في كتابات الفتيات تسبق كتابات الصِّبيان، في سن الثانية عشرة والثالثة عشرة. وبينما يغيب هذا الموضوع إلى حد ما عن كتابات الصبيان، فإنه يظهر في ما نسبته 36,3 بالمئة في كتابات الفتيات، وبعد ذلك تنخفض النسبة في كتابات من تتراوح أعمارهم بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة، ومن ثم تزيد مرة أخرى في السادسة عشرة والسابعة عشرة، والنسبة لدى الفتيات أعلى منها عند الصبيان، بطبيعة الحال.
"إن عالَم الحكاية الخيالية"، يلاحظ قيزه، "ما هو إلا شِعرٌ أنثوي، لا يعرف الصبيان أيَّ شيء عنه".
إنّ العدد الضئيل للدوافع الاجتماعية في الشِّعر والنثر للكُتّاب الألمان الصغار مثيرٌ للاهتمام، إذ إنَّ مثل هذه الموضوعات غائبةٌ في الشِّعر في جميع الأعمار تقريباً، في حين أنها تمثل نسبةً ضئيلةً جدّاً في النثر، تُساوي في حدِّها الأقصى نسبةَ 13,8 بالمئة في فئة الفتيات اللاتي تبلغ أعمارهن الثانية عشرة والثالثة عشرة. ومن الجدير ذكره ازديادُ نسبةِ الموضوعات الفلسفية في الشِّعر. يرتبط هذا بلا شك بنشوء الفكر التجريدي والاهتمام بالقضايا التجريدية لدى هذه الفئة العمرية. وأخيراً، فإنّ ثيمة/ موضوعة الطبيعة تتمثل في الشِّعر والنثر تمثيلاً جيداً بين كتابات الصبيان والفتيات على حدٍّ سواء.
تُكرِّسُ الفتياتُ في سنِّ التاسعة معظمَ أعمالهن للكتابة عن هذا الموضوع، أما الصبيانُ في سنِّ الثانية عشرة والثالثة عشرة فيكتبون عن الطبيعة في نصفِ أعمالهم. يُخصِّصُ الأطفالُ الألمان، وبشكلٍ خاصٍّ الفتيات، نسبةً كبيرةً من كتاباتهم للموضوعات الدينية. ومع ذلك، تضعف وتيرة هذه الثيمة في سنِّ السادسة عشرة.
إن البيانات التي تتناول الموضوعات والأمزجة السائدة في الكتابة المخصصة في المدرسة، وتلك التي تجري بصورة مستقلة، مثيرة للاهتمام. وهُنا، ندرك أن الموضوعات ذاتها تتمثلُ عبر نوعي الكتابة الإبداعية على نحو مختلف جدّاً. فالثيمات البطولية، على سبيل المثال، تفسر نسبة 54,6 بالمئة الهائلة من الكتابة المدرسية، وما نسبته 2,4 بالمئة فقط من الكتابة المستقلة. وعلى العكس من ذلك، تظهر الثيمات الإيروتيكية والفلسفية في نسبة 3 بالمئة فقط من موضوعات الإنشاء المدرسية، ونسبة 18,2 بالمئة و29 بالمئة من الكتابات المستقلة. كما يتمثل عالَمُ الحكايات الخيالية خمس عشرة مرة أكثر في الكتابات المدرسية عنه في الكتابات المستقلة (المنزلية). وأخيراً، لا تظهرُ ما تسمى الموضوعات المتبقية في أيٍّ من الأعمال المدرسية، وإنما تظهر في 28,1 بالمئة ممّا يُكتَبُ خارج المدرسة. إنّ الأمزجة التي يعبر عنها الأطفال في هذين النوعين من الكتابة متباينة أيضاً. وهكذا، فالمزاج الجاد والحزين، مثلاً، منتشرٌ خمس مرات أكثر في الأعمال المكتوبة في المدرسة. تمتاز هذه المقارنة بأهميتها الكبيرة؛ إذ إنها تُشيرُ إلى أيِّ درجةٍ تُحفَّزُ وتُحَسَّنُ الكتابة الإبداعية لدى الأطفال كنتيجة للتأثيرات الخارجية، وما الشكل المختلف الذي تتخذه عندما تتولد ذاتيّاً.
البيانات المتعلقة بالمزاج السائد في الأعمال التي دَرَسَها قيزه. توضح هذه النتائجُ أن الأمزجة الحزينة والكئيبة نادراً جدّاً ما تظهر في أعمال الأطفال، وأن الأمزجة المرحة هي الأوسع انتشاراً. وهكذا، وبينما يظهر كِلا المزاجين في شعر الصبيان بنِسَبٍ تكاد تكون متساوية؛ 5,9 بالمئة و5,2 بالمئة، فإنّ مزاجاً مرحاً يظهر في شعر الفتيات بنسبة 33,4 بالمئة، في حين أن مزاجاً كئيباً يظهر بنسبة 1,1 بالمئة فقط. يميز المزاج المرح نثر الصبيان عشر مراتٍ أكثر من المزاج الكئيب، وتشير الأرقام إلى النسب ذاتها لدى الفتيات. إن عدداً ضئيلاً جدّاً من الأعمال ذات الأمزجة الجريئة/ المُغامِرة جديرٌ بالملاحظة، ومن الواضح أن السبب في ذلك يعود إلى الصعوبة التي يقدِّمُها هذا النوعُ (genre) للأطفال. الأمزجة الفكاهية نادرة أيضاً، مثل الناقدة، وهذا يرتبط بوضوح بالنسبة المتدنية للموضوعات الساخرة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن المزاج السائد هو الأكثر عرضة للتغيير من جميع جوانب الكتابة الإبداعية التي يمارسها الأطفال، وهكذا ينبغي أخذ البيانات المذكورة بوصفها مؤقتةً/ تجريبية.
سيكون من المستحسن إتمامُ دراسة الكتابة الإبداعية للأطفال هنا بطريقةٍ مشابهةٍ حتى نتمكن من تحديد الموضوعات والأمزجة السائدة في أعمال أطفالنا الأدبية. تتعلق البيانات الآتية بالأشكال الأدبية الأكثر شيوعاً في أعمال الأطفال.
يُعَدُّ التقريرُ أو المقال نمط الكتابة غير الفنية الأكثر شيوعاً، كما هو متوقع. القصة في المركز الثاني، والحكاية الخيالية في المركز الثالث. نِسَبُ الأعمال المسرحية (0,1) والرسائل (1,9) متدنيةٌ للغاية. يجب أن تُوَضَّحَ النتيجة الأخيرة بناء على حقيقة أنَّ أكثر الأشكال طبيعيةً/ فطريةً لكتابات الأطفال بالمعنى النفسي هو الأقل صقلاً في التعليم التقليدي للأطفال. لا تخلو البيانات المتعلقة بطول كتابات الأطفال وشكلها النحوي (مدى تطبيقه لقواعد اللغة) من الفائدة. وبينما يتقدم الأطفالُ في السن، تمتدُّ الكتابةُ أكثر. أظهر التقرير الذي احتسب متوسط عدد المقاطع في شِعر ونثر الصبيان والفتيات من مختلف الأعمار أن الزيادة في طول الأعمال الأدبية عاملٌ مباشر لمُحتواها. خَلُصَ شنيرسون (Shneyerson)، الذي دَرَسَ كتابات الأطفال، إلى أنَّ الدراما والشِّعر ليسا أشكالاً طبيعية/ فطرية عند الأطفال. يرى أنه إن وُجِدَتْ هذه الأشكالُ في كتابة الأطفال الإبداعية، فإنها تظهرُ بصورة رئيسة كنتيجة لتأثيراتٍ خارجية. من ناحية أخرى، النثرُ، في رأيه، يلائم الأطفالَ أكثر. إن البيانات التي جمعها ف. ب. فاختيروف (V.P. Vakhterov) حول السؤال ذاته، ولَّدَتْ النتائج الآتية: كتب 57 بالمئة من مجموع الأطفال الذين قام بدراستهم الشِّعر، و31 بالمئة النثرَ، و12 بالمئة أعمالاً درامية/ مسرحية. نعلم جميعاً أنَّ الثراء النسبي للأشكال النحوية في لغة الأطفال مؤشِّرٌ مهم، ولطالما ميَّزَ علماءُ النفسِ فترة العجز النحوي في الكلام لدى الأطفال باعتبارها مرحلة خاصة للغاية تُسهِمُ في تطوير لغتهم.
في الواقع، إن الافتقار إلى الأشكال النحوية في الكلام لهو علامةٌ واضحةٌ على أنَّ التفكير اللغوي والسلوك لدى الطفل لا يضعان في الحُسبان الروابط والعلاقات بين الأشياء والظواهر، بمقدار ما تُستخدَمُ الأشكال النحوية، على وجه التحديد، للتعبير عن هذه الروابط والعلاقات. لهذا، عندما تظهر الجملُ التابعة في كلام الطفل، أي عندما يَدخُلُ هذا الطفلُ رابعاً وأعلى مرحلة من مراحل تطوير الكلام عند ستيرن (Stern)، من المُفترض أن يكون قد أتقن من قَبل العلاقات المعقدة جدّاً التي تربط بين مختلف الظواهر. خَلَصَ فاختيروف، الذي كان مهتمّاً بتحليل هذا الجانب من كلام الأطفال، إلى النتائج الآتية. يحدد تقريرُهُ مرحلتين؛ إحداهما تبدأ من سن الرابعة وصولاً إلى الثامنة، والأخرى من التاسعة وحتى الثانية عشرة والنصف، تختلفان باختلاف الحالات. يبين هذا التقريرُ، بينما ينمو الطفل ويتطور، كيف يتزايد استخدامه لصيغ حالات غير الرفع (Oblique Cases)، أي حالات النصب والجرّ، ما يدل بوضوحٍ على انتقاله إلى مرحلةٍ يفهم فيها العلاقات التي تعبر عنها حالات غير الرفع قواعدياً، ويؤدّي تحليلٌ لكلام الطفل من وجهة نظر أقسام الكلام إلى استنتاجٍ مماثل.
تُشيرُ هذه البياناتُ، مرةً أُخرى، إلى أنَّ توظيف الطفلِ للوصف، والشرح، وتحديد الزمان والمكان، وما إلى ذلك، يتضاعف مع التقدم في السن. يقول فاختيروف:
لا يتألفُ النمو العقلي للطفل من اكتساب للمفاهيم الكمية والنوعية فحسب، ولكن أيضاً من الروابط الكمية والنوعية الواقعة بين هذه المفاهيم. كلما ازداد تطور الطفل، ازداد عدد المفاهيم والأفكار التي يستطيع أن يجمعها ليؤلف منها كلاً واحداً مُوَحَّداً. يستخدم الأطفالُ الأصغر سنّاً الزمنين الحاضر (المضارع) والمستقبل أكثر بكثير من الأطفال الأكبر سنّاً. كما يزدادُ استخدام الزمن الماضي مع التقدم في العمر. ومن الواضح أنه كلما كان الطفلُ أصغر في السن، زاد تركيزه على المتوقع، والمنتظَر، والمرغوب/ المطلوب، وعلى الحاضر الحيّ المُعاش، والقريب المباشر.
ولكن، بامتداد حياة الطفل، سيرجع كثيراً لِما جربه سابقاً، وبعدئذٍ سنواجه ظاهرة عكسية، حيث سيقل الكلامُ باستخدام الحاضر والمستقبل عنه في الزمن الماضي.
يتفق جميعُ الباحثين بالإجماع على أنَّ الأطفالَ الأصغر سنّاً يستخدمون الضمائر الشخصية بتكرار معين. يقول شلاغ (Shlag): "إذا لفظ طفلٌ في السابعة أو الثامنة من عمره متوسط الكلمة في مفرداته بمعدل 5,5 مرة، فإنه بذلك سيلفظ ضميرَ المتكلم (المفرد) أكثر بمئة مرة– أي 542 مرة، وسيتلفَّظُ بضمائر المُخاطَب أكثر بـ 25 مرة– أي 135 مرة". ويُشيرُ غوت (Gut) إلى أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 4 إلى 6 سنوات أكثر عرضةً لاستخدام الجُمل التابعة إذا كانوا أكثر موهبةً وتميزاً في عملية تطورهم. يقترح بعضُ المتخصصين التمييزَ بين ثلاث مراحل أساسيةٍ في عملية تطور التعبير اللفظي لدى الأطفال: المرحلة الأُولى هي الكلام الشفوي، وتستمرُّ من سن الثالثة إلى السابعة تقريباً. المرحلة الثانية هي معرفة القراءة والكتابة، وتستمرُّ من سن السابعة وحتى المُراهقة، وأخيراً فترة المرحلة الأدبية، التي تستمرُّ من نهاية البلوغ مروراً بمرحلة الشباب. تجدر الإشارة إلى أنَّ هذا التقسيم يتوافق عامةً مع الواقع، في أنَّ تطور اللغة الشفوية، مثلما ذكرنا سابقاً، يتقدم دائماً على تطور اللغة المكتوبة. ومع ذلك، فمن المهم للغاية ملاحظة أنَّ هذا التفوق للغة الشفوية على المكتوبة يستمرُّ بعد انتهاء فترة التعبير الشفويّ الأُولى. حتى بعد ذلك، فكلام الأطفال الشفويّ أكثر بروزاً ومشهديةً من كلامهم المكتوب.
يُضعِفُ الانتقالُ إلى اللغة المكتوبة لغتَهُم سريعاً ويقف عائقاً أمامها. فلقد خَلَصَ الباحث الأُسترالي لينكه (Linke) إلى استنتاجٍ مفاده أننا إذا قارنّا نتاجات الأطفال المكتوبة والشفوية، فسنجد أنّ الطريقة التي يكتب بها طفل في سن السابعة مساويةٌ للطريقة التي يتحدث بها طفل في سن الثانية، ما يعني أنّ مستوى تطور الطفل الذي يتجلى في أصعب شكلٍ مكتوب من أشكال التعبير يضعف تلقائيّاً من مستوى التعبير الشفوي السابق. ومن الجدير ذكره أنّ موضوعات التعبير التي كتبها أطفال الفلّاحين، تلك التي أثارت إعجاب تولستوي كثيراً، كانت أمثلة على إبداعاتهم الشفوية. تحدَّث الأطفالُ ودوَّنَ تولستوي ما قالوه، وقد احتوت ملاحظاته على سحر كلام الأطفال الشفوي الحي. أظهرت هذه القصص أيضاً أحد جوانب إبداعات الأطفال وهو ما يسمّيه بعضُ المؤلفين التوافقية، التي تعني أن إبداع الطفل لا يزال غير متباين بدقة فيما يتعلق بأشكال الفن المختلفة أو أنواع الأدب المتنوعة، حيث تندمجُ عناصر الشِّعر، والنثر، والدراما في عمل الطفل في كلٍّ واحد.
تشبه عملية الكتابة الإبداعية لدى الأطفال، تلك التي وصفها تولستوي، إلى حدٍّ كبيرٍ، من حيث الشكل، والإبداع الدرامي. فلم يُمْلِ الطفلُ القصةَ وحسب، ولكنه أيضاً وصف أجزاءً من الشخصيات فيها ومثَّلَها. إن مثل هذه الروابط بين الإبداع الأدبي الشفوي والإبداع الدرامي، كما سنرى، يمكن أن تؤدي إلى واحد من أكثر أشكال الإبداع أصالةً وإنتاجيةً في هذه السن.
يذكر البروفيسور سولوفيف مثالاً مهمّاً على الكلام الشفوي. حيث يقول: إنَّ الكلامَ المكتوب على لسان طفلٍ في المدرسة أفقرُ بكثيرٍ، ويتَّسمُ بشيءٍ من التخطيط، كما لو أنَّ هناك نوعين مختلفين من ردود الفعل اللفظية. فلن تكتبَ فتاةٌ ريفيةٌ في الثامنة والنصف من عمرها، مطلقاً، حتى لو كانت قادرة على الكتابة بطريقة مُعبِّرة عن أفكارها تماماً، ما أجابت به ردّاً على سؤال (شفوي) طُرِحَ في المدرسة حول الأشياء التي يحبُّ الأطفالُ القيامَ بها في المنزل. "أحبُّ أن أكنس الأرض، فعندما تبدأ الكنسَ، تطير الأوساخُ من هُنا وهُناك، الكثير من الأوساخ تتطاير، وأفرحُ حين أشاهدها تتعاركُ مع المِقشَّة". تعبِّرُ لغةُ الطفلة الحقيقية الحية هذه بصورة جيدة عن تورُّطِها العاطفي.
كرَّسَ أ. بُزْمان (A. Busemann) مشروعَ بحثٍ كاملاً لدراسة إلى أيِّ مدىً يتجلّى العملُ في الكتابة الإبداعية لدى الأطفال. كان مؤشرُ العمل لديه النسبةَ بين ما يُذكر من أعمالٍ والمزايا الوصفية في نتاجات الأطفال الشفوية والمكتوبة. بلغ مؤشر العمل ذروته، في مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين الثالثة والتاسعة، في سنِّ السادسة والثامنة عند كلّ من الذكور والإناث. أما في المجموعة التي تراوحت أعمارُ الأطفال فيها بين التاسعة والسابعة عشرة، فبلغ هذا المؤشرُ ذروته في سن التاسعة والثالثة عشرة. أدَّتِ المقارنة بين اللغة الشفوية والمكتوبة إلى استنتاج بُزْمان الأهمّ في بحثه: "يميلُ الكلامُ الشفوي نحو النمط النشط أكثر، والكلام المكتوب نحو النمط الوصفي".
وما يؤكدُ على هذا الاستنتاجِ هو الزمنُ النسبيُّ اللازم للكلام الشفوي والمكتوب. فقد استغرق التعبيرُ الشفوي زمناً أقلَّ بكثير من الزمن الذي استغرقه ذاك المكتوب، ففي غضون أربع إلى خمس دقائق قال الأطفالُ ما احتاجوا إلى كتابته في خمس عشرة وعشرين دقيقة. لا يُحدِثُ معدلُ الإنتاج البطيء هذا للغة المكتوبة اختلافات كمية فقط، ولكن أيضاً نوعية. ونتيجة لمعدل الإنتاج البطيء هذا، تقوم النتاجات اللغوية للأطفال بتطوير نمطٍ جديدٍ وشخصية نفسية جديدة. يفوقُ التركيزَ على الفعل، الذي هو في الأساس سردٌ شفوي، أخذٌ بعين الاعتبار، تفصيلي، للشيء الموصوف، وعَدٌّ لمزاياه، وخصائصه، وهلمَّ جرّا.
إن التركيزَ على الفعل في كلام الأطفال ما هو إلا انعكاس لمستوى الفعل الحاسم والعام في هذه السن. ولقد أحصى العديد من الكُتّابِ عدد مفاهيم الفعل في قصص الأطفال. كما يمكن رؤية مثال على هذا النوع في تقارير متنوعة تُحصي الأشياء المتكررة، والأفعال، والمزايا الوصفية المتجلية في القصص التي ألَّفها أطفالٌ من مختلف المراحل الدراسية. تُظهِرُ هذه البياناتُ بوضوحٍ أنَّ الأفعالَ هي الأكثر شيوعاً في قصص الأطفال، وأنَّ الأشياء هي الأندر، ومزاياها أندر منها.
ومع ذلك، فإننا نتحفظ على ما يتعلق بتأثير كلام البالغين وأشكالهم الأدبية على لغة الأطفال المكتوبة. من المعروف جيداً إلى أيِّ درجة ينزعُ الأطفالُ إلى التقليد، وهكذا، يتضح تأثيرُ النمط الأدبي للكتب كثيراً جدّاً على الأطفال، حتى إنه يلقي بظلاله على الخصائص الحقيقية للغتهم المكتوبة. وعليه، يتبدّى أسلوبُ الأطفال الحقيقي عند أطفال الشوارع من الفلّاحين، وعند آخرين تأثروا قليلاً جدّاً بأسلوب البالغين. ها هُنا أمثلة عديدة مأخوذة من السير الذاتية لأطفال الشوارع، توضح إلى أيِّ درجة تقترب اللغة المكتوبة لأطفال الشوارع من كلامهم الشفوي. كتب سيمِن فِكشين (Semen Vekshin)، خمس عشرة سنة:
كنتُ في الثانية عشرة، وكان أخي الصغير يبلغ من العمر عشر سنين، عانينا إذ لم يكن لدينا أبٌ أو أم. وبما أني الأكبر، كان عليَّ أن أصنع خُبزَنا بنفسي. إنك تصحو في الصباح وتودُّ أن تعود إلى النوم مجدداً، ولكن لا: أَنْظُرُ إليَّ وأبدأ العمل. أرى الأطفالَ الآخرين، إنهم يلعبون، وأشعر بالغضبِ أنَّ أصدقائي الذين لديهم أمهات وآباء أحرارٌ، ويستطيعون أن يلعبوا. بهذه الطريقة عملتُ وعانيتُ حتى عام 1920.
طفلٌ آخَر من أطفال الشوارع يكتب:
كان لديَّ والدان قبل هذا الوضع. الآن، ليس لديَّ أحد. أمرٌ سيئ أن تكون بلا أبوين. كان لي منزل. وكان هناك حصانٌ وبقرة. لا يوجد شيءٌ الآن. كل ما تبقى في المنزل ثلاث من الأغنام، وخنزيران، وخمس دجاجات. انتهى كلُّ شيء.
هُنا، كلما صغر عمر الطفل، انعكست في كتاباته خصائصُ كلام الأطفال واختلفت عن كلام البالغين أكثر. سنورد، كأمثلة، مقالتين قصيرتين: كتب إحداهما صبيٌّ في سن الثالثة عشرة، وهو نجلُ عاملٍ، وكتب الأخرى صبيٌّ في سن الثانية عشرة، وهو نجلُ صانعِ براميل خشبية. تتحدث المقالة الأولى عن قدوم الربيع.
بعد الثلج، وبعد مُضِيِّ أيام الشتاء القاتمة، تبدَّتِ الشمسُ عبر نافذتنا بأشعة فصل الربيع. بدأ الثلجُ بالذوبان، وكانت الأنهُرُ الصغيرةُ تجري في كل مكان، واقترب الربيع، الجمال، شيئاً فشيئاً، ليجعلنا سعداء. والآن، آنَ أوانُ أيار (مايو)، وها هو العشب الأخضر يظهر، حاملاً للجميعِ فرحاً جديداً.
تحمل القصةُ التالية عنوان "انتظار".
على الجبل، على منحدر فوق نهر الفولغا الرحيب، جثم كوخُ صيّادٍ أسود بلون القار. تفسَّخت الألواح الخشبية التي صُنِعَ منها الكوخ. جرفت الريحُ معها جزءاً من سقف القشِّ، أما في الداخل فكان ثمة صوت بكاء، كانوا في الداخل ينتظرون صيّاداً. اقترب اليوم من نهايته. وكان الهواءُ بارداً. فوق، هناك في الأفق، ثمة غيمة تتجمع، غيمة بلون الرصاص. هاجت الأمواجُ فوق نهر الفولغا، لكن الصيّادَ لم يكن هناك.
ولكن فجأةً، شوهِدَت نقطة من بعيد، اتضحت النقطة. هناك كانت، بالقرب من المنحدرات. كانت قارباً، وكان في داخله الصيّاد.[1]
تقدِّمُ هذه القصص أمثلةً واضحة على توافقية كتابات الأطفال. ففيها لا ينفصل النثرُ عن الشِّعر، بعض العبارات موزونة بدقة، بعضها الآخر لا يتوافق مع إيقاعٍ محدد، هذا ما يمكن أن نسميه القصة نصف النثرية، نصف الشِّعرية، غير المحددة، التي تتكرر كثيراً عند الأطفال في هذه السن.
نوردُ هُنا مثالاً على مقالة نثرية خالصة. مؤلفها نجلُ عاملٍ يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة:
التايغا غابة ضخمة. لا تسمح أشجارُ الصنوبر الطويلة الرشيقة للشمس أن تُشرقَ فيها. إنها كبيرة كالبحر، فأينما ذهبتَ ثمة غابة، والمزيد منها. تبلغ مساحتها 1,500 كم من بحيرة لادوغا حتى جبال أورال. تتراكم الثلوجُ فيها فلا تستطيع المرور لا سيراً على الأقدام ولا في مركبة، ولكنها في فصل الصيف، دافئة مثلما هي هُنا. يخرج الأطفالُ لجمع الفطر والتوت، عليهم فقط أن يحترسوا من الحيوانات البرية. فهناك الوشق، والدببة، والذئاب، والأيائل، وغيرها.
وهُنا تُمْلي مهمَّةُ كتابةٍ نثرية، غايتُها وصفُ منطقة غابات، على الطفلِ ليكتب مقالة في شكلٍ مباشر ونثري. ومع ذلك، قد يعبِّرُ الأطفالُ أيضاً عن موضوعات عاطفية مزعجة بالنسبة لهم بأسلوبٍ هادئ ونثري. وها هُنا قصة عن حريقٍ كتبها نجلُ عاملٍ في سن الثانية عشرة.
حلَّ المساءُ، المِدراسُ يطنُّ وبمقدورك أن تسمع أصوات الناس. ولكن، سرعان ما دقَّ الجرسُ وعاد الجميع إلى بيوتهم. ساد هدوءٌ تامّ. لا تسمع سوى خوار البقر وصوت الراعي المُدوّي قادماً من الغابة. عندما مرَّ بالقرب من المِدراس، سقط منه عقب سيجارة. شبَّ حريقٌ، وفي منتصف الليل، اشتعلت النيرانُ في القشِّ كله. رنَّ جرسُ الإنذار. هرع الناسُ بالماء يلقونه على النيران. صرخ الأطفالُ وبكوا. استيقظ كلُّ مَنْ في المدينة وخرج. عندما انطفأت النار، عاد الجميعُ إلى بيوتهم. حزنوا جميعاً لأنهم خسروا محصولَهم.
نذكر قصةً شكَّلتْ جزءاً من معرضٍ نظمه معهد (Schoolwork Methods) في 1925/26 كمثالٍ على الكتابة الإبداعية المشتركة من قبل مجموعة من الأطفال. كتب هذا العملَ أطفالٌ تراوحت أعمارهم بين الثانية عشرة والخامسة عشرة، في الصف الخامس في مدرسة موسكو. كانوا سبعة مُؤلِّفين؛ ستُّ فتيات وصبيٌّ واحد. كان الصبي مسؤولاً عن المخطط العام للعمل وعن تحريره أيضاً. كُتِبَ هذا العمل: "قصة عربة القطار رقم 1243، كما ترويها من تلقاء نفسِها" بمبادرة من الأطفال فيما يتصل بدراستهم للصناعة.
يُظهِرُ هذا العملُ الجماعي الذي قام به الأطفالُ جميعَ الملامح الرئيسة للكتابة الإبداعية للأطفال: الخيال الاندماجي/ التوليفي، إدخال المشاعر والتجارب الإنسانية على المادة التي صُنِعَت منها عربة القطار وعلى العربة نفسِها؛ نهجٌ عاطفي لم يضطرَّ الأطفالَ لفهم قصة العربة واستيعابها فقط، ولكنه مَنَحَهُم فرصةَ تجريبها وترجمتها إلى لغة المشاعر، والدافع لتجسيد هذا البناء العاطفي والتصويري بشكل خارجي لغوي، لإدراكها. يمكننا هُنا أن نرى بسهولة إلى أيِّ مدىً غُذِّيَ إبداعُ الأطفالِ بفعل الانطباعات القادمة من الواقع، وكيف تتم إعادة صياغة/ تفعيل هذه الانطباعات، وكيف يؤدي هذا بالأطفالِ إلى فهمٍ أعمق وأكثر تعاطفاً مع هذا الواقع. ومع ذلك، نستطيع أن نرى أيضاً بسهولة في هذه القصة ما قد يُلاحَظُ متصلاً بجميع أعمال الأطفال الإبداعية بشكل عام؛ النقصُ في هذا الإبداع، الذي يتكشف إذا أخذناه بعين الاعتبار من وجهة نظر شروط الأدب الجاد.
"تُعَدُّ أعمالُ الأطفال الإبداعية"، يقول ج. ريفيتش (G. Reveshch)، "في المُحتوى ومن الناحية الفنية، بشكلٍ رئيس، بدائية، وثانوية، وغير متكافئة، كما أنها تفشل في التقيد بمبدأ التوتر المتزايد تدريجيّاً".
يُعَدُّ هذا العملُ الإبداعيُّ أكثر أهمية بالنسبة للطفل من الأدب بحد ذاته. ومن الخطأ والظلم أن ننظر إلى الطفلِ كما لو أنه كاتب محترف وأن نطالبه بأن يماثل عمله عمل المحترفين الكبار. إن كتابة الأطفال الإبداعية ترتبط بكتابة البالغين مثلما يرتبط لَعِبُ الأطفال بالحياة. فاللعب ضروري للطفل نفسه، تماماً كما الكتابة الإبداعية للأطفال ضرورية، أولاً وقبل كل شيء، من أجل التطوير السليم لقدرات المؤلف الشاب نفسه. إنها ضرورية، أيضاً، لبيئة الطفل الذي وُلِدَ فيها. هذا، بالطبع، لا يعني أن الكتابة الإبداعية للأطفال يجب أن تنشأ حصراً من الدوافع العفوية للأطفال أنفسهم أو أن مظاهر الإبداع كلها تتساوى في القيمة وأن على جميعها أن تُرضيَ الذائقة الشخصية فقط للأطفال أنفسهم. ليس أهم شيء في اللعب الرضا الذي يتلقاه الطفل عبر اللعب، لكنه التوظيف والمعنى الموضوعيان للعب، وهو ما لا يدركه الطفل. يشمل هذا المعنى، كما هو معروف، تطوير وتدريب كل قدرات الطفل ونقاط القوة الكامنة فيه. وبالطريقة ذاتها يمكن تحفيزُ الكتابة الإبداعية للأطفال وتوجيهها من الخارج، كما يجب تقييمها من وجهة نظر الأهمية الموضوعية التي تتحلى بها من أجل تطوير الطفل وتعليمه. وبالطريقة ذاتها التي نساعد فيها الأطفال على تنظيم ألعابهم بالإضافة إلى اختيار وتوجيه طبيعة لعبهم، نستطيع أن نُحفز استجاباتهم الإبداعية ونوجهها.
أسس علماء النفس منذ فترةٍ طويلةٍ مجموعةً كاملةً من التقنيات التي تخدم الغرض ذاته؛ وهو الحثُّ بالتجربة على ردة فعل إبداعية عند الأطفال. لهذا الغرض يُكَلَّفُ الأطفالُ بمهامَّ معينة أو ثيمات محددة أو تُقدَّم لهم مجموعة من الانطباعات الموسيقية، الفنية، الحقيقية، وغيرها، كوسيلة للحث على الكتابة الإبداعية. ومع ذلك، تعاني كل هذه التقنيات من التصنع المفرط، وإن جميعها يلائم الهدف الذي وُضعت من أجله فقط، ألا وهو استحضار الكتابة الإبداعية في الأطفال بغية دراستها.
ومن أجل أن يدرس علماءُ النفسِ هذه الاستجابة، كان لا بدَّ من استثارتها عن طريق بعض التحفيز البسيط والمحدد ليتمكنوا من الإمساك بالخيط الذي يؤدي إلى الاستجابة الإبداعية. يواجه التربويون/ المعلمون مهمة مختلفة تماماً عندما يحاولون تحفيز الإبداع لدى الأطفال. ولأن المهمة مختلفة، لا بدَّ أن تكون التقنيات مختلفة أيضاً. إن أفضل محفز للإبداع في الأطفال هو تنظيم حياتهم وبيئتهم، ما يؤدي بهم إلى الحاجة والقدرة على الإبداع. يمكننا أن نذكر، على سبيل المثال، النموذج الشائع لدى الأطفال لمجلة أو جريدة.
يكتب زورين (Zhurin):
تضمُّ المجلة، إذا تمت بطريقة صحيحة، مهارات أكثر من أيّ مهمة أخرى. كما يمكن تطبيق قدرات الأطفال الأكثر تنوعاً هُنا: يمكن للفنانين الشباب أن يقوموا بالرسم والزخرفة، أما ذوو الميول الأدبية فبإمكانهم أن يكتبوا، ومن يمتلكون المهارات التنظيمية فيمكنهم أن يُديروا الاجتماعات ويحددوا العمل، وأولئك الذين يحبون النسخ، واللصق، والقص، وهناك عدد غير قليل من هؤلاء الأطفال، سيقومون بهذه المهام بحماس. باختصار، يمكن الاستفادة من جميع أنواع مهارات الأطفال واهتماماتهم المتنوعة وتوظيفها في مجلة. سيجتذب الكبار منهم والأكثر مقدرة مَنْ هم أقل منهم مقدرة ونشاطاً. وكل هذا سيحدث من تلقاء نفسه، من دون الحاجة إلى أي تأثيرٍ خارجي.
يمكن للمجلة أن تلعب دوراً مهمّاً في تطوير لغة الأطفال المكتوبة. ومن المعروف جيداً أن العمل الذي يقوم به الأطفالُ طوعاً وباهتمام يثمر نتائج أكبر بكثير من عملٍ يُجبَرون على أدائه.
ولكن، عمليّاً، تتجلى أكبر قيمة للمجلة في أنها تُقرِّبُ الكتابة الإبداعية للأطفال من حياتهم. فيبدأ الأطفالُ يفهمون رغبة شخص ما في الكتابة. تصبح الكتابةُ مهمة ضرورية وذات مغزى بالنسبة إليهم. صحف المدرسة والصف لها الأهمية ذاتها، إن لم تكن أكبر، لأنها تحقق أيضاً انخراط الأطفال ممن لديهم أكثر الاهتمامات والمواهب تنوعاً واختلافاً في جهد جماعي مشترك، كما تفعل الأمسيات الإبداعية، وأنشطة أخرى مشابهة تحفز إبداع الأطفال.
وقد سبق أن ذكرنا أنّ الشكل الأساسي للأعمال الإبداعية التي يقوم بها الأطفال هو الشكل التوافقي، الذي يشمل الإبداع، فلا تنفصل أنواع الفن الاستثنائية أو تتخصص. وهكذا، تحدثنا عن التوافقية الأدبية للأطفال، التي لا تفرِّقُ بعد بين الشِّعر والنثر، القصة والدراما. لكن الأطفالَ يُظْهِرون توافقيةً أوسع، بتوحيد أنماط مختلفة من الفن في مسعىً فنيٍّ واحد، كما حدث مع الأطفال الذين وصفهم تولستوي.
يرسم الطفلُ ويتحدث في الوقت نفسه عمّا يرسمه. يعبِّر الطفل بطريقة درامية ويؤلف الكلام لشخصياته. تشير هذه التوافقية إلى الجذر المشترك الذي يُوحِّدُ جميع الفروع المتنوعة لفن الأطفال. لعب الطفل هو هذا الجذر المشترك الذي هو بمثابة المرحلة التحضيرية لإبداعه الفني. ولكن، حتى عندما يُسفر هذا الجذر المشترك عن عدد كبير أو قليل من أشكالٍ مستقلة للإبداع الفني كالرسم والأدرمة (dramatization)، حتى حينها، فإن كلَّ شكلٍ منها ليس منفصلاً تماماً عن غيره، كما أنه يستوعب بسهولة ويختار عناصر من الأشكال الأخرى.
ثمة ميزةٌ واحدةٌ لإبداع الأطفال يمكننا من خلالها أن نجد بسهولة آثار اللعب الذي انبثق منه. من النادر أن يعمل طفلٌ على إبداعاته لمدة طويلة، ففي معظم الحالات ينتهي منها في جلسة واحدة. يُذكِّرُ الجهد الإبداعي للطفل، في هذه الحالة، باللعب، الذي ينمو خارج حاجة الطفل الماسة وينص على تنفيس كامل وسريع لمشاعره.
ينطوي الرابط الثاني مع اللعب على حقيقة أن الإبداع الأدبي في مرحلة الطفولة، مثل اللعب، لم يقطع، في الواقع، علاقاته مع اهتمامات الطفل الشخصية وتجربته. درس بيرنفيلد (Bernfeld) الروايات القصيرة (novellas) التي كتبها مراهقون تتراوح أعمارهم بين أربعة عشر وسبعة عشر. توصل إلى أنّ جميع هذه الروايات القصيرة حملت إعجاباً عميقاً لحيوات مؤلفيها الشخصية. ولم يكن بعضها أكثر من سيرة ذاتية خفية. بعضها الآخر غيَّر أساس القصة الحميم إلى درجة كبيرة، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن تغييراً جذريّاً بحيث يختفي تماماً من العمل. وفي اتصال مع هذه الذاتية في جهود الأطفال الإبداعية، يحاول كثير ممن يعملون في هذا المجال التأكيد على أن الفرق بين النوعين الأساسيين للكتابة- الذاتي والموضوعي– يمكن إيجاده بالفعل في كتابة الأطفال. يبدو لنا أن هذين الجانبين أو السمتين من كتابة الأطفال يظهران خلال فترة المراهقة، لأنهما انعكاس نقطة التحول التي يمرُّ بها الخيالُ الإبداعي للطفل في ذلك الوقت. قد تكون سمات الماضي أكثر وضوحاً لدى بعض الأطفال من سمات خيالهم المستقبلي لدى البعض الآخر.
ما من شكٍّ أنَّ هذه الحقيقة ترتبط ارتباطاً مباشراً بالصفات الفردية لطفل معين. لاحظ تولستوي نوعين اثنين يتوافقان مع المخيّلة اللينة والعاطفية بحسب ريبو. أظهر سِمْكا النوع اللين من الإبداع. وتميزت قصته بالطبيعة الفنية لوصفه، حيث التفاصيل الحقيقية الواقعية تتابعت واحدة تلو الأُخرى.
"عندما روى سِمْكا القصة، رأى ووصف ما كان صوب عينيه: صنادل من لحاء الشجر مُجَمَّدَة ومُتيبِّسة، والوحل الذي سال متقطراً منها عندما ذابت، والخبز المُحمَّص الذي تحولت إليه عندما ألقت بها المرأة العجوز في الموقع". لقد أعادت مخيّلته إنتاجَ وجمع صُوَرٍ بصرية خارجية، وصنعت منها صورةً جديدة. وعلى العكس منه، خلق فِدكا عملاً، عن طريق جَمْعِ عناصر عاطفية، بصورة أساسية، ونَظْمِ صُوَرٍ خارجية عليها. لقد رأى "تلك التفاصيل فقط التي استحضرت في نفسه الشعورَ الذي بدا من خلاله وكأنه ينظر إلى وجهٍ مألوف". اختار، بناءً على الأثر المُشترك، فقط تلك الانطباعات التي توافقت مع العاطفة السائدة التي تملَّكَتْهُ من شفقة، وتعاطف، ولُطف. أطلق ألفرِد بينيت (Alfred Binet) على هذين النوعين اسمَي "المُراقب" و"المترجم". اعتقد أنَّ بالإمكان مواجهة هذين النوعين بشكل متساوٍ فيما بين الفنانين والباحثين البالغين والمراهقين. درس بينيت الجهود الإبداعية لفتاتين إحداهما في سن الحادية عشرة والأخرى في سن الثانية عشرة والنصف، كانت إحداهما تنتمي إلى نوع المُبدع الموضوعي، والأخرى إلى نوع المُبدع الذاتي/ الشخصي.
حلَّلَ البروفيسور سولوفيف شخصيتَيْ مراهقَيْن وأشار إلى أيِّ مدىً حدَّدَتْ حقيقةُ انتمائهما إلى هذا النوع أو ذاك كل التفاصيل والبناء الدقيق للقصص التي كتباها. انعكس نوعاهما في اختيارهما للنُّعوت، أي الرموز الواصفة، في صُوَرِهما، والمشاعر التي تشرَّباها. فيما يلي بعض الأمثلة النموذجية للرموز الواصفة التي تظهر في أعمال هاتين الفتاتين. بالنسبة للفنانة الموضوعية: كان الثلجُ منفوشاً، وأبيضَ، وفضيّاً، ونظيفاً. كان البنفسجُ أزرق، والفراشة ملونة، والغيوم متوعدة، غير مجمدة، كانت الحُزم ذهبية، والغابة حلوة الرائحة، ومظلمة، كانت الشمسُ حمراء واضحة، لامعة كالينبوع. كلُّ هذه الصُّوَر تتوافق مع تصوراتٍ مرئية حقيقية، جميعها يمنح الأشياءَ صورةً بصرية. لم تكن هذه هي الحال بالنسبة للفتاة الأخرى. حيث إن جميع رموزها الواصفة، مع أنها كانت معبرة جدّاً وبصرية، إلا أنها كانت عاطفية في المقام الأول: حزناً ميئوساً منه، أفكاراً سوداوية، قاتمة كما الغراب، وهكذا دواليك.
حان الوقتُ لاستخلاص بعض الاستنتاجات. فكلُّ مَنْ عاينَ الكتابة الإبداعية للأطفال تبادر إلى ذهنه السؤال الآتي: ما معنى مثل هذه الجهود إن لم تتمكن من تطوير كاتب أو مبدع المستقبل داخل الطفل، إن كانت مجرد ظاهرة قصيرة وعرضية في نمو المراهقين تضعف من بعد ذلك بدرجة كبيرة هذا إن لم تختفِ تماماً؟ يكمن معنى هذه المَساعي الإبداعية وأهميتها فقط في حقيقة أنها تتيح الفرصة للطفل بأخذ انعطافة حادة في تطوير المخيّلة الابداعية التي توفر اتجاهاً جديداً لخياله؛ اتجاهاً يبقى قائماً عبر بقية حياته. تكمن أهميتها في حقيقة أنها تُعمِّقُ، وتُوسِّعُ، وتُنقّي الحياة العاطفية للطفل، التي تستيقظ لأول مرة وتتحول إلى مفتاحٍ مهمٍّ للغاية. وأخيراً، إنها مهمة لأنها تتيح للطفل، من خلال ممارسة ميوله الإبداعية ومهاراته، إتقان لغة البشر، هذه الأداة الدقيقة والمعقدة التي تُستخدَمُ في تشكيل الأفكار والمشاعر الإنسانية والعالَم الداخلي للإنسان والتعبير عنها.
ت: هيفاء أبو النادي
مراجع وهوامش
[1] تأتي هذه الأمثلة من إبداعات الأطفال الأدبية، كغيرها مما أوردناه، في المقام الأول، من كتابٍ لـ سولوفيف I.M. Solov’ev، بعنوان: Literaturnoe tvorchestvo i iazyk detei shkol’nogo vozrasta، (1927).
المرجع: الخيال والإبداع في مرحلة الطفولة، ليف فيجوتسكي. ترجمة: هيفاء أبو النادي