أتدري؟ في اليوم الأول للقائنا، خرجتُ بانطباعٍ بأنّ قلّة من الناس سيتابعون هذا.  حين سأل أحدهم: حسناً، كم عدد الذين سيحضرون الجلسة؟ فقلتَ أنت: آه، نحو 160، كنت أنتظر أن تضحك أنت أو أن يضحك أحد آخر غيرك من المجموعة؛ لكنّ أحداً لم يضحك، فأفزعني ذلك.[1]

ج ن/JN: كيف يمكننا أن نقدّم دراما تكوّنية على أحسن وجه، حين تكون هناك مراقبة نقديّة من الجمهور؟ وما مدى الفجوة بين التجربة الذّاتية للمشارك في المعالجة وملاحظات المراقب للتجربة من الخارج؟

 

البحث من الدّاخل

كنت خلال الندوة الدولية مُعلّماً في جلسات يوميّة خاضعة لمراقبة جمهور من الباحثين في مجال التعليم.  وقد منحتْ هذه الجلسات المادةَ لمحطّات البحث، التي كانت كل واحدة منها منشغلة بالمشكلات الأخلاقيّة والنظريّة والعمليّة المتصّلة بخلق العلاقة بين الباحثين كمراقبين للممارسة، والممارسة، والمعلّم.  بهذا المعنى، كانت انشغالات الندوة الدوليّة تتعلّق بخلق معنى هادفٍ لتجربة مراقبة الممارسة من الخارج.  وكنّا، أنا بوصفي معلّماً، والطلاب في حصّة درسي، منشغلين بخلق معنى هادف لتجاربنا من داخل عمليّتيْ التعليم والتعلّم.  كان تموضعنا الدّاخلي مختلفاً اختلافاً كبيراً عن تموضع أولئك المراقبين من الخارج.

نحن الذين نقوم بالعمل وليس هم.

ج. ن: ما هي القواعد الإجرائيّة المطلوبة لحماية المشاركين، وتحويل انتباه المراقبين عن وجهة نظر الجمهور النقديّة؟ من يمتلك السلطة في هذه العلاقة؟ وكيف يمكن جعل علاقات السلطة، إن وُجدت، متكافئة؟

 

انطلاقاً من ذلك، ترسم فصول هذا الكتاب ملامح طيف متنوّع من المواقف النظريّة والمنهجيّة لدى الباحثين في مجال التعليم.  ويَعِد هذا الفصل بتقديم شيء مختلف عن فصول الكتاب الأخرى ومشترَكٍ معها في الوقت ذاته.  يكمن الاختلاف في أنّ وجهة نظر الممارس- المتأمّل تصف توجهاً ذاتيّاً خاصّاً نحو فهم الممارسة الذاتيّة وتطويرها، وليس نحو البحث في الممارسة الذي يقوم به باحثون من خارج التجربة.  أمّا الجانب المشترك، فهو التزام الجميع بنضال النظريّة والممارسة النقديّتين التحرّري والجوهريّ. وهو ما سيتجاوب مع توصيفات النماذج الإرشاديّة (الباراديم) للبحث القائم على النظريّة النقدية، التي ستتطرق إليها الفصول الأخرى من هذا الكتاب.

إنّ النشاط البحثيّ في المدارس أو المتعلّق بها يحدّد ويُنفّذ في أغلب الأحيان بصورة مؤقّتة، إذ يتناول الباحثون فترة من الزمن ومشكلة أو ظاهرة معيّنة للبحث، فيخلصون إلى مخرجات تستند إلى تحليل النتائج المتوفّرة خلال فترة البحث.  وبهذا المعنى، فإنّ الكثير من أدبيّات البحث تنشغل بالمبادرة، والتصميم، والإجراء، وإعداد التقرير لدراسات حالة ضيّقة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، أو لأمثلة معيّنة.  وتميل هذه الأدبيّات، أيضاً، إلى التركيز على المشاكل الأخلاقيّة المتعلقة ببناء أُطر تأويليّة موثوقة وصارمة وصادقة، وإلى خلق تعميمات مبنيّة على أساس الملاحظة والاستقصاء داخل الممارسة، اللذين لا يضطلع بهما الباحث، بل آخرون غيره.

نعم، هذا صحيح، إنّه العمل الأساس خلال هذا الأسبوع.  أعني أنّ العديد من الناس يشاهدونه، كما حدث ذلك الصباح، من دون أن يجدوا العلاقة بين ذلك الصباح، والذي سبقه، والذي يليه، والذي هو كلّ ما تعرف.  أعتقد أنّه من المهم جدّاً أنّ تتمكنّ من رؤيته كأسبوع بأكمله.

جون، أودّ أن أقول شيئاً واحداً، وهو أنني أعتقد أنّ الباحثين الذي ينتقدون ويقولون إن العمل يجب أن يُفتتح بذريعةٍ ما، ثمّ ينتقل إلى الشكل الحر.. أودّ أن أتحدّى أيّ واحد منهم بأن يأتي إلى هنا ويقوم بالشيء ذاته.

ج ن: كيف تعمل الأفكار والقواعد المحافظة ضدّ التحديث في البحث، وفي مراقبة النّظام ومحاسبته؟ كيف يمكن للمعلّم- أو يجب عليه- أن يستجيب حين يقول له الباحثون ذوو السلطة إنّه يعمل بالطريقة الخاطئة؟ كيف يغيّر هذا في علاقات السلطة؟ ما هو دور الباحث الخارجيّ في الممارسة التأمليّة النقديّة والتحرّريّة؟

من ناحية أخرى، تُعدّ الممارسة التأمليّة أسلوب حياة، فهي ليست مُحدّدة على النحو الذي نجده في نماذج البحث الخارجيّة كما أنّها تحيل إلى تغذية الاستعدادات السلوكيّة طويلة الأجل وتطويرها، وإلى استقصاء المرء الذاتيّ المستمرّ حول ممارسته المهنيّة (Taylor, 2000).  إنّ الممارس التأمّليّ لا يُرجئُ جميع مراحل الممارسة إلى التدقيق النهائي، بل إنّه/ها يدقق الممارسة باستمرار، يوميّاً، وعلى امتداد حياته المهنيّة كلّها.  ولكي يكون فعّالاً، يجتهد الممارس التأمّلي في أن يعرف نفسه بقدر معرفته بالآخرين، وأن يحفر عميقاً في الذات كي يجلب إلى الوعي الغرائزَ والعادات والقيم والسلوكيات المُكتسبة اللّاواعية التي تصوغ ممارسته، ولكي يخلق مسافة تحمي تأويلاته من تأثيره الذاتيّ كمعلّم على حيوات أولئك الذين يعمل معهم، وعلى إنجازاتهم وتجاربهم وطموحاتهم، سواء أكانوا زملاءَ أم طلاباً.

 

جوناثان: إنّ جزءاً مما كنتُ أتأمّله كان يتعلّق بطريقتي في التدريس.  وما أحاول فعله هو العثور على التوازن بين القيد والبنية الضروريّين وبين الحريّة، وأنا لست متأكّداً من أنّني أنجح في ذلك دوماً.  هل يمكنك الحديث عن هذا؟ لقد لفت انتباهي قولك إنّ اليوم الأخير كان الأهمّ في عملنا، مثلاً؟ هل يمكنك أن تتحدّث عن هذا أكثر قليلاً؟ هل كانت بقيّة الأسبوع وقتاً ضيّقاً للغاية؟ هل كان ذلك صائباً، هل أزعجك الأمر؟ هل تعرف كيف كان شعورك حيال ذلك؟

 

ج ن: ما هي مسؤوليّة المعلم في الدراما التكونيّة؟ ما هي الطريقة الأمثل لتحقيق التوازن بين القيود المطلوبة في كلّ عمل فنيّ، والحريّات الضروريّة التي تمنح الصوت وتمكّن من الاختيار؟ كيف يتأثّر هذا التوازن بالسلطة الراهنة/ وبمعادلات المعرفة والرغبة في تقاسم كلّ منهما؟ كيف يمكن ضمان أن يكون عملي محفّزاً على نحو متواصل، ليكون هنالك انتقال، عبر الوقت، من العمل الذي يقوده المعلّم إلى استقلاليّة الفرد أو المجموعة؟

 

ثمّة مستوى من الحميميّة والتحدي لشخصيّة المعلّم المنخرط في الممارسة التأمليّة، يجعل هذه الممارسة مختلفة نوعيّاً عن غيرها من النماذج الإرشاديّة في حقل البحث التعليمي الخارجيّ.  فالباحث الخارجيّ يحاول أن يعثر على طرق موثوقة للنظر من خلال نوافذ الغرف التي يوجد فيها المعلّمون والمتعلّمون.  أمّا الممارس التأمليّ، فينظر بدلاً من ذلك في الطرق الأكثر فعالية وأخلاقيّة للعيش داخل الغرفة مع معلّمين ومتعلّمين آخرين.  إنّه مشروع تعاوني في الأساس، يسعى للدّمج بين التصورات الداخليّة للمتعلّمين وبين أساتذة جامعيّين يعملون في الموقع ذاته كممارسين تأمليّين.  يحضر الممارسون التأمّليون إلى الغرفة قبل اطّلاع الباحث على ممارستهم وبعده.

 

ثمّة أمران، على وجه الخصوص، سأتناولهما سريعاً، أحدهما مجرّد تذكير بقدرة العمل الجماعي التي لا تصدّق على بناء العلاقات والصداقات.  أعني أنّ كيفية تشكلّ هذه المجموعة كانت أمراً مدهشاً بالنسبة إليّ، وكذلك الدعم الذي تلقّيناه، كما تعلم.

ج ن: ما هي العلاقة بين الشخصي والاجتماعي والفنّي في العمل الدرامي؟ كيف يمكن لعمل فنيّ مُبتكر اجتماعيّاً أن يُستخدم في تطوير فريق أو تجمّع فعّال وذي وعي نقديّ؟ هل تعكس تعبيرات القيمة الاجتماعيّة للعمل التوتّر الوجودي بين هويّتي الـ"نحن" والـ"هم" لدى الجمهور والمشاركين؟

 

الممارسة التأملّيّة والانعكاسيّة

لغايات هذا الفصل، يعدّ الممارس التأمليّ ممارساً محترفاً- وهو في حالتنا معلّم الفنون- وممارساً للنشاط التأمليّ على حدّ سواء.  وأقترح أن يكون مصطلح الممارس التأمليّ وصفاً للممارس المحترف والمزاول الذي يجلب إلى عمله فلسفة ممارسة "praxis" (Taylor, 2000) تُصاغُ عن طريق التأمل حول الممارسة والانعكاسيّة في الممارسة، أي أنّ الممارسين التأمليّين يتفكّرون في ممارستهم المهنيّة، ويعدّلونها تالياً أو بالتزامن، وتكون ممارستهم المهنيّة بذاتها انعكاسيّة في ما يتعلّق بشفافيّة عمليّة الاختيار والتأملّ والتعديل التي تدعم هذه المُمارسة.

وتجسّد هذه الرؤية مفاهيم شون الديناميكيّة الكلاسيكيّة الثلاثة حول النموذج الاجتماعي للممارسة التأمليّة (Schon, 1987):

-       المعرفة– أثناء- الفعل، المعرفة المحترفة بكيفية الفعل، التي تثري الأعمال والتفاعلات المُحترفة؛ أي الطرق التي يمكن بها للتدريب وغيره من مصادر المعرفة العمليّة والمهنيّة والوجوديّة والنظريّة أن تصبح هي ذاتها ممارسات وسلوكيّات وتوافقات حول تجارب غرفة الصف، أو أنْ تنيرها.

-       التّأمّل– حول- الفعل، وتقييم الممارسة وتأملّها، من خلال إعادة التفكير في معرفتنا– أثناء- الفعل، من أجل الإقرار بفعاليّتها أو لإدخال بعض التغييرات على ممارستنا بما يجعلها أكثر فاعليّة.

-       التأملّ– في- الفعل، وأبسط أشكاله يحيل إلى التفكير الفوري فيما نقوم بعمله أثناء جلسات التدريس وليس بعدها، وهذا ما يميّز كلّ الممارسات المهنيّة الأخلاقيّة والمتمركزة على الفعل.  إنّها ميزّة حيوية في ممارسة تعليم الفنون، على وجه الخصوص في تلك النماذج من تعليم الدراما- التي تسمّى أحياناً الدراما التكونّية- التي هي تعاونية، مرتجلة، وغير محسومة وتفاعليّة (O’Neill, 1995; O’Toole, 1992,Taylor 2000).

 

تضيف فكرة الانعكاسيّة– في- الممارسة بُعداً أخلاقيّاً آخر إلى نموذج شون الذي يشدّد على التزامٍ فاعلٍ بالإفصاح عن الجدليّة الجوهريّة داخل عمليّات التعليم والتعلّم وداخل/ أو بين تجارب المعلّمين والمتعلّمين والآخرين ممّن يتأثرون مباشرة أو على نحو غير مباشر بتلك التجارب (Freire, 1998). 

فعلى سبيل المثال، تفترض الانعكاسيّة- في- الممارسة مُسبقاً أنّ ثمّة فرصاً منتظمة للحوار حول عمليّات التعليم والتعلّم وتأويلاتها بين المعلّمين والمتعلّمين وآخرين ممن هم منخرطون في الأمر (مثلاً، الآباء والزملاء وواضعو السياسات)، وأنّ هذه الحوارات ستصوغ التأمّل حول الممارسة الجارية، وتأويلها وتعديلها أيضاً.  وهذا يفترض، بدوره، موقفاً إيتيقيّاً (أخلاقياً) (Ethical Position) يقوم على الضرورة الأخلاقيّة المتمثّلة بتنمية شراكة الأصوات في غرفة الصفّ وإعطائها شكلاً، وقد وصفت بريتزمان غرفة الصّف بأنّها: "تستجيب لتمثيل أصوات أولئك الذين يختبرون الحياة التعليميّة بوصفها ينابيع معرفة و(..)، وتلتزم بالحفاظ على كرامتهم ونضالهم (Britzman, 1991: p 25 ).

 

لأنّنا معاً، عرفنا ما هو الأمر، كان بمثابة شأننا الخاصّ الذي عشناه معاً، فيما أُناس آخرون يشاهدوننا.

 

ج ن: هل في هذا إعطاء أولويّة لتجاربنا (الحقيقة من الداخل، لا الحقيقة المبنيّة من خلال الحوار مع الآخرين)؟ كيف يمكننا التعامل مع التباينات بين الإدراكات الداخليّة والخارجيّة لما يجري؟ كيف يمكننا أن نتحدّى بصورة نقديّة وجهة نظرنا الخاصّة، فيما نحن نصرّ في الوقت ذاته على حقّنا في تأكيد أصالة تجاربنا المعيشة الخاصّة؟

 

كما تفترض، أيضاً، أنّ هذا النوع من التأمل القائم على الشراكة ينعكس بحدّ ذاته واقعيّاً في كلمات المعلّم وأفعاله على مستوى المعرفة- أثناء- الفعل.  وعلى هذا النحو، تغدو الممارسة التأمليّة متضمَنّة في ممارسة أساليب تدريس حواريّة تجعل كلّ لقاء داخل غرفة الصّف مهيَّأً لإمكانية استئناف الحوار بين المعلّمين والمتعلّمين، وبين النظرية والممارسة، وبين محتوى المناهج المُخطّطة ومعارفنا الشخصيّة المعيشة والمحليّة.

"حين نعيش حيواتنا بالأصالة التي تتطّلبها ممارسة التعليم الذي هو أيضاً تعلّم، والتّعلم الذي هو أيضاً تعليم، فإنّنا نشارك، بذلك، في تجربة كليّة تتّسم بكونها توجيهيّة وسياسيّة وأيديولوجيّة وغنوصيّة "عرفانيّة" (Gnostic) ومنهجيّة وجماليّة وأخلاقيّة في آنٍ معاً.  ففي هذه التجربة يشكّل الجميل والصادق والجديّ دائرة من أيادٍ متشابكة" (Freire, 1998: 31-32). 

يَستخدم فنُّ المسرح الغربّي التأملية في الأداء لوصف العروض التي تعطّل، عن وعيٍ، الإيهامَ بواقع ثابت في كلّ من وسائل التمثيل المسرحيّ ومعانيه.  ففي جماليّات بريخت الانعكاسيّة، مثلاً، تتجلّى كلّ من وسائل الإنتاج ومعانيه بشفافيّة كبنى مؤقّتة انتقاليّة تجعلنا نتفكر في لانهائيّة العالم عوض أن نقبل بسلبيّة وبلا نقد صيغ الواقع المعبّر عنها في الأداءات المسرحيّة.  وبالطريقة ذاتها، فإنّ التعليم التأمليّ المبنيّ على أساس الممارسة التأمليّة مصمَّمٌ لتعطيل السلطة الطبيعيّة للمعلّم وصيغ الواقع التي تشتمل عليها خطّة المناهج، لكي يصبح المعلّمون والمتعلّمون على وعيٍ بالمعرفة بوصفها عمليّة تفاعليّة مُختارةً ومُنتجةً ومبنيّةً بينهما، بدلاً من كونها نقلا ًميكانيكيّاً للحقائق والبيانات التي تؤخذ على أنّها طبيعيّة وغير قابلة للنقاش.  وبالمثل، فقد استخدمت أصوات الطّلاب كانقطاعات في هذا النّص النّظري المُغاير، من أجل إعاقة تدفّقه، بالطريقة ذاتها التي يوظّف فيها بريخت الأغاني ومقاطع السرد والموسيقى لكسر واقعية السرد المسرحيّ.  وتماثل الانعكاسيّةُ في الأداء- التي يراد بها استثارة الوعي النقديّ عند الجمهور- أساليب فريري التربوية التي تقترح ما يلي: 

"لا يمكن أن يُردّ التعليم إلى مجرّد تواصل سطحيّ أو خارجي مع الشيء أو مضمونه، بل يجب أن يتّسع ليشمل إنتاج الظروف التي يكون فيها التعليم النقدي ممكناً... إنّ أولئك المنخرطين في التعليم النقديّ في ظروف كهذه يعلمون أنّ معلّميهم يجدون أنفسهم على الدوام في عمليّة اكتساب معرفة جديدة، وأنّ هذه المعرفة الجديدة لا يمكن نقلها، ببساطة إليهم- أي إلى المتعلّمين.  وفي الوقت ذاته، وفي سياق التعليم الحقيقي، سيكون المتعلّمون منخرطين في تغيير مستمر يصبحون من خلاله ذوات فاعلة في بناء ما يجري تعلّمه وإعادة بنائه، جنباً إلى جنب مع المعلّم، الخاضعِ للعمليّة ذاتها" (المصدر ذاته، ص 33).

 

نموذج الممارسة التأمليّة في النظريّة النقديّة

لقد صاغ جون ديوي إحدى المرجعيّات الأولى للممارسة التأمليّة في الخطاب التعليمي الجديد؛ حيث عرّفها كما يلي:

"إنّ أيّ تناولٍ فاعلٍ ومثابرٍ ويقظٍ لأيّ معتقد أو شكل مُفترض من أشكال المعرفة على ضوء القواعد التي تدعمه والاستنتاجات الأخرى التي يميل إليها، يشكّل فكراً تأمليّاً" (John Dewey, 1933: p 9). 

يتمتّع هذا التعريف الذي بدأ برسم الخطوط الأولى للنماذج الإرشادية (الباراديغم) المتعلّقة بالممارسة التأمليّة بميزات عدّة.  فالصفة "فاعل" تنسجم مع اهتمامات ديوي بالفعل- الموجّه والتعلّم التجريبي في السياقات الاجتماعيّة، مع تشديده على ابتكار تطبيقات تُصاغ فيها الأفعال المُتخصّصة على مستويات تربويّة وإبيستمولوجية وأخلاقية عبر التأمّل النقدي ومراجعة الفرضيّات التي تدعم كلاً من مناهج التعليم المعياريّة والمعرفة التي تشكل محتوى التّثقيف أو مجاله.  أمّا "مثابر"، فتحيل إلى ضرورة ترسيخ مَلَكة واعية وتأمّليّة على المستوى النّقدي في ممارسات التعليم والتعلم كافّة، بدلاً من الاكتفاء بالفرص العرَضيّة للتطوير والتغذية الراجعة.  وأمّا "يقظ"، فتحيل إلى الاستعداد المسبق أو القابليّة لما يسميّه فريري "الصّرامة المَنهجيّة" و"البحث" (1988: ص 43)، حيثُ المساءلة والمراجعة الدؤوبتان لفرضيّات الحسّ المشترك وغيرها من التأويلات التي تدعمُ الأبعاد التربويّة والإبستمولوجيّة للتعلّم.  إنّ المساءلة والمراجعة، بدورهما، تقودان إلى صياغة تبصّرات جديدة أو "استنتاجات أبعد"، تضمن التقدّمَ المستمر لمنهاجٍ تحولّ إلى تجربةٍ معيشة، واستمرّ في التطور والتحوّل (Aoki, 1996).

 

هل يمكنني فقط القول إنني ما كنت لأقدر على أن أكون حرّةً في الدرس الأخير لو أنّك لم تقدني لذلك.  في الحقيقة، عندما كنت في دور أنتيغوني في درسنا الأوّل الذي.. تطوعت لأن أكون أنتيغوني دون أن أكون على معرفة بالقصّة أو بما كنت أفعل.. لقد شعرت، حقّاً، أنّك قد منحتني الثقة في ذلك، لأنّك شعرت أنني لم أكن متأكدةً 100% مما عليّ فعله أو ما هي وجهة نظري بوصفي أنتيغوني، ولأنك منحتني الثقة، لاحقاً، خلال الأسبوع، بعد أن عبّرت عن نفسي أكثر قليلاً، مدركةً أنّني إن خرجت على الموضوع وسلكت الطريق الخطأ، فإنك ستستطيع بطريقة أو بأخرى أن تعيدني إلى الأرضيّة الأساس.  لهذا، أعتقد جازمة أنّنا كنا بحاجة إلى هذه القفزة لنصل إلى ما وصلنا إليه.  وعلى الرغم من أنّ الناس يتحدّثون عن البنى درساً بدرس، فإنني أرى أنّ الأمر يتعلّق أيضاً ببُنية الأُسبوع ككلّ.

 

ج .ن: ما هي جذور نزعة الدفاع عن النفس هذه، وذلك الإحساس بأنّه قد أُسيء فهمنا أو تمثيلنا من قبل الباحثين الخارجيّين؟ ما الذي يعنيه على مستوى الممارسة أن تكون مُيسّراً نقديّاً، يقدّم الدّعم، ويطرح التحديّات في المجالات الاجتماعيّة والفنيّة؟ هل ما سبق شاهدٌ على الميسّر الداعم أم الحامي؟ ما هي الطرق الأكثر فاعليّة في تحليل التجربة التراكميّة للعمليّة أو تطوّرها عبر الزمن بدلاً من التركيز على مراحل متباعدة ومنعزلة؟

 

تتجلّى أُصول الممارسة التأمليّة الجذرية بوضوح أكبر في النظريّة النقدية وعلم الاجتماع عند يورغن هابرماس (Jurgen Habermas, 1971, 1972, 1974)، وهذه النظريّة النقدية، كما وصفها بيرنستن (J. M. Bernstein)، هي: 

"تقليد فكري يقوم، في جزء منه على الأقل، على معارضة أخطاء المجتمعات الحديثة وأمراضها، من جهة، وأشكال التنظير التي تُجاري، ببساطة، هذه المجتمعات أو تضفي عليها الشرعيّة، من جهة ثانية" (1995: ص 11). 

تبني النظريّة النقدية موقفها على أساس الاعتقاد بأنّ: 

... تأثيرَ النزعة الوضعيّة واسع الانتشار قد أسفر عن نموٍّ واسع للعقلانيّة الأدواتيّة وميلٍ نحو النّظر إلى المشاكل العمليّة جميعها، بوصفها قضايا تقنيّة.  وقد خَلق ذلك الوهمَ بوجود واقعٍ موضوعيّ لا قدرة للفرد على التحكم به، ما أفضى، بالتالي، إلى تراجع قدرة الأفراد على التفكير بأوضاعهم الخاصّة وتغييرها من خلال أفعالهم الخاصّة أيضاً (Carr and Kemmis, 1986: p 130). 

تفترض النّظريّة النقديّة مسبقاً أنّ كلاً من النزعتيْن الوضعيّة والعلميّة تسعيان إلى اختزال المشاكل العمليّة والإنسانيّة على نحو أساسيّ إلى مستوى تِقنيّ توظَّف فيه الدّعوات المزيّفة إلى الموضوعيّة العلميّة من أجل التّغطية على قوّة القويّ وضعف الضّعيف، والإبقاء عليهما، ومنحهما صفة الطبيعيّة (Carr and Kemmis, 1986: p 86). 

وبعبارة أخرى، فإنّ الظروف الإشكاليّة في التعليم، مثل المستويات المتدنيّة من المعرفة (معرفة القراءة والكتابة) أو الإنجازات المتواضعة لبعض المجموعات، تُعامَل عِلميّاً على أنّها ظواهر طبيعيّة، وليس بوصفها، في الجوهر، بنىً اجتماعيّة- سياسيّة إشكاليّة.  وبالتركيز على المستوى التّقني للوصف والتحليل، تعمل المقاربات ذات النزعة الوضعيّة على حجب الواقع: 

"إن القصور الثقافيّ، على الأرجح، هو الذي ما زال يجعلنا ننظر إلى التعليم- فيما يتعلّق بأيديولوجيّة المدرسة– بوصفه قوّة محرّرة ووسيلة لتعزيز الحراك الاجتماعي، غير أنّ المؤشّرات تدلّ في الواقع على أنّه أحد أكثر الوسائل الفعالة في الإبقاء على النمط الاجتماعي القائم، كونه يعطي تبريراً ظاهريّاً للتّفاوت الاجتماعي، ويمنح اعترافاً بالموروث الثقافي؛ أي أنّه ينظر إلى هِبَة المجتمع بوصفها أمراً طبيعيّاً" (Bourdieu, 1974: 32).  

ولذلك، تصاغ النظريّة النقدية التي تتناول الممارسة التأمليّة، حول المبدأ القائل بأنّ المعرفة واختيارها ليسا بالحياديّين ولا بالبريئين (Habermas, 1972).  وبهذا المعنى، فإنّ هدف الممارسة التأمليّة النقدية هو: 

"أنْ تبيّن آليّة اشتغال السلطة وتطرحَ العدالة الاجتماعيّة بوصفها فعلَ هيمنةٍ وقهر يمنع التحقيق الوجودي التام للحريات الفردية والاجتماعيّة" (Habermas, 1979: 14).

 

الممارسة التأمليّة بوصفها مشروعاً تحرّريّاً

إنّ النظريّة التأمليّة عند المنظرين النقديّين مشروعٌ تحرّري وعمليّة تنوير (Habermas, 1979) تسعى إلى تمكين المعلّمين كذواتٍ فاعلة في التغيير الاجتماعي، تنخرط بدايةً في عمليّة عرض وإيضاح، ومن ثمّ تنتقل- عبر سياستها وأجندتها الخاصّة- من نموذج التدريس السلطويّ النخبويّ إلى نموذج اجتماعيّ ديمقراطي.  ووفقاً لنظريّة هابرماس، فإنّ المعرفة المدرسيّة والمعرفة حول التدريس، المبنيّتيْن على البحث، هما في الأساس إشكاليتان، وتخدمان مصالح إدراكيّة واجتماعيّة متنوّعة وصفها على نحو واسع بأنها:

 

1.      تِقْنيّة: تُميّزُ هذه الصفة مناهجَ البحث الوضعيّة التي توَلّد القوانين والقواعد والتنبّؤات وآليّات التحكّم المبنيّة على موضوعات بحث سلبيّة.

2.      عمليّة: يمّيز هذا الوصف منهجيّات تفسيرية وتأويليّة تسعى إلى فهم الظروف الإنسانيّة ومنحها معنى من خلال ملاحظات المعنيّين وتعبيراتهم ذات البناء الاجتماعي- الثقافي، ويُنظر إلى المشاركين أنفسهم كذوات فاعلة، وليس كموضوعات بحث سلبيّة.

3.      تحرّريّة: تتعلّق هذه الصفة بالممارسة (praxis) التي عرّفها كينشلو بوصفها أفعالاً مبنيّة على التأملّ بقصد تحقيق منفعة تحرّريّة (Kinchloe, 1991: 77).

هذه المستويات تراكميّةٌ أكثر من كونها مُتمايزة.  وبعبارة أخرى، فإنّ المعرفة التحرّرية تتضمّن معرفة تقنيّة وعمليّة، على حدّ سواء، لكنّها تذهب إلى ما هو أبعد من هذه المستويات من المنفعة.

وفيما يتعلّق بتعليم الدراما والمصالح المعرفيّة التي تحققّها، فإنّه يمكن عرضُ مخطّط هابرماس على النحو التالي: 

تقنيّة:

على هذا المستوى، تُختزلُ المشكلات إلى معامِلات (parameters) المعرفة الذاتيّة الخاصّة، وإلى المهارات التقنيّة الأساسيّة المتعلّقة بتخطيط غرفة الصفّ من أجل التعلّم النوعيّ للطلاب، وإدارته وتقييمه.  لم يُطرح مفهوم الذّات ومعامِلاتها للنقاش، فقد تقتصر مشكلة البحث النموذجيّ على إدخال تعديلات على المناهج وأساليب التدريس والتقييم والعمل على تطبيقها، وذلك عبر التغييرات في برامج الامتحانات ونظام المناهج الوطنيّ.

عمليّة:

على هذا الصعيد، يهتّم المعلّمون بمحاولة التفكير في احتياجات طلابهم وتجاربهم وبكيفيّة تعديل التعليم والتعلّم، بحيث تتوافق المناهج مع الاحتياجات المحليّة وأساليب التعلّم.  ويتم حاليّاً بحث المشكلة التقنيّة المبيّنة أعلاه على نحو أعمق، عبر محاولة بناء نظريّة تأويليّة قائمة على تـأويل حيوات الطلاب وثقافاتهم.  ربّما تكمن المشكلة النموذجيّة في تحديد الطلاب الذين قد يكونون على أعتاب مرحلة مهمّة، ومحاولة فهمِ أفضلِ الطّرق لمساعدتهم على الوصول إلى مرحلة أكثر تقدماً.

تحرّريّة:

على هذا المستوى يقوم المعلمون والطلاب بنقد المستويات العمليّة والتقنيّة.  يثير المعلمون التساؤل حول المنهاج في ما يتعلق بسؤال: أي معرفة تلك التي يجري تقييمها؟ ومعرفة من هي؟ وكذلك فيما يتعلق بمدى استيعاب المنهاج وإنصافه الطلاب الذين لا ينتمون إلى ثقافة السلطة.  قد تتمثّل المشكلة النموذجيّة هنا في وضع ممارسةٍ تستطيع أن تمنح الطلاب جميعاً انفتاحاً مُنصفاً على معرفةٍ ورأسمالٍ ثقافيّين متميّزين، في الوقت الذي تضمن فيه اتّساعَ الحدود بين ما يتمّ تعلّمه وكيفيّة تعلّمه، لتشمل المعرفة والتجربة اللتين تتصفان بالشموليّة والقدرة على تمثيل تجارب الطلاب المعيشة.  والغرض هو تزويد الطلاب بالمعرفة الضّرورية لامتلاكهم السلطة، وبالوعي النقدي بطريقة تأثير هذه السلطة في اختيار منهاج الدّراسة وما يتجاوزه. 

ولا تهدف الممارسة أو الفعل التحرّري إلى مجرّد فهم الكيفيّة التي يبني بها المشاركين عوالمهم؛ وإنما تقترح، كذلك، طرقاً يمكن من خلالها لنماذج السلطة، التي تنظّم عوالمهم، أن تتغيّر.  ويتساءل هابرماس: "هل بوسعنا أن نحصل على توضيح لما هو ضروريّ من الناحيّة العلميّة، وممكنٌ في الوقت ذاته من الناحيّة الموضوعيّة"؟  (Habermas, 1974: p 44).  تتشابك النّظريّة والبحث والممارسة في نموذج الممارسة التأمليّة عند هابرماس، وتترابط فيما بينها، فيكون التعليم من هذا المنظور بحثاً، والبحثُ ممارسة.  يتبنّى هابرماس الفرضيّة الوجوديّة في فلسفة أرسطو، التي تقول إنّ التعليم، كما النظم الأخلاقيّة والسياسيّة، ليس علوماً صارمة، بل فنون عمليّة (Carr and Kemmis, 1986).  إنّ المعرفة في مفهوم الفنون العمليّة عند أرسطو لايَقينيّة وناقصة، والنظرية مبنيّة على أساس التأمّل، فيما البرهانُ الملموس المُستخلصُ من التطبيق يفضي إلى الحكمة العمليّة (phronesis)؛ وهي عبارة عن فهم حكيم وأخلاقيّ لما يجب القيام به في الظروف العمليّة.  وبهذا المعنى، فإنّ موقف النظريّة النقدية يفعِّل التّصنيفات التأويليّة للمعلّمين، ويكون متجذّرا فيها، وتتجلّى هذه التصنيفات جزئيّاً في الشواهد على معرفتهم-أثناء– الفعل: كيف يقومون بعملهم؟ وكيف يفهمون ما يقومون به في مرحلة التأمّل- حول– الفعل.

لكنّ موقف النّظريّة النقدية ليس ذاتيّاً تماماً.  فهو يحمل، أيضاً، ظواهر أو حقائق موضوعيّة تصوغ الممارسات التعليميّة، ويمكنها أن تحرّف التأويلات الذاتيّة التي يبلورها المعلمون.  وقد استخدم هوركهايمر (Horkheimer) المصطلح الماركسيّ "الوعي المزيّف" ليصف تأثيرات عمليّات التنشئة الاجتماعيّة في واقع التدريس الموضوعي، التي يمكنها أن تقمع الفهم الذاتيّ للممارسة وأن تلغيه (Horkheimer, 1972).

وبكلمات أخرى، فإنّ موقف النظرية النقدية يثير مشكلة (problematise) حول مفهوم شون عن المعرفة- أثناء- الفعل، انطلاقاً من أنّ الممارسة العمليّة قد تخبرنا بالمزيد عن الكيفيّة التي يُدمج به المعلّم اجتماعيّاً ويُخضع للمؤسسات؛ ليقبلَ- وبالتالي يمارس- قيماً مُهيمِنة واختيارات أسلوبيّة وإبستمولوجيّة معيّنة، بدلاً من تقديم رؤية ثاقبة حول الطريقة التي يمكن أن يعمل بها الممارس المتحرّر الذي يتمتع بوعي كاملٍ إذا أُتيحت له حريّة اختيار الممارسة الخاصّة به.  كما أنّه (أي موقف النظرية النقدية) يزعزع حدود المعرفة- أثناء-الفعل لتشمل تأثير المعرفة غير- المدرسيّة على المعرفة المتعلّقة بالممارسة، التي تُصاغ عبر تجارب الثقافة والتاريخ الاجتماعي الوجوديّة وحقائقهما الموضوعيّة.  هذا هو أساس المصلحة التحررية في النظريّة النّقديّة: أن تكشف لنا إلى أيّ مدى تصوغُ ممارساتِنا الحقائقُ الموضوعيّةُ لأنظمة التدريس والمؤسسات التي تقبل بالتفّاوت الاجتماعيّ وتعيد إنتاجه، وأنْ تقترح طرقاً عمليّة يمكننا بها أن نوظّف هذا الفهم لتوجيه القضايا العمليّة نحو الطريقة الأمثل للتعليم من أجل مجتمع أكثر مساواةٍ، وأكثر أخلاقيّة.

"الغاية هي أن نعيد إلى الوعي محدّدات السّلوك غير الحرّ المقموعة والمكبوحة والمغمورة من أجل العمل على تذويبها".

في هذه الرؤية، ثمّة علاقة جدليّة بين ممارسة المعلم الذاتيّة أو معرفته- أثناء- الفعل، وبين حقيقة المدرسة الموضوعيّة.  وبوسع ممارسةُ المعلّم أنّ تشّكّل الحقيقةَ الموضوعيّةَ للمدرسة، لكنّ المدرسة أيضاً تشكّل المعلّم، وبفعلها ذلك يمكن أن تقمع أخلاقيّاتِه ورغبتَه وطموحه.  لقد درست ديبورا بريتزمان (Deborah Britzman) هذه العلاقة الجدليّة بين تجارب المعلم الفرديّة، وبين تأثير تاريخه التّعليمي وظروفه الخاصّة في صياغة هذه التجارب.  فجمعت من خلال البحث النّقدي الإثنوغرافي والسّردي الطرق التي تشكِّلُ بها معرفةُ المعلّمين- أثناء- الفعل الحقائقَ الموضوعيّة، وتَتشكّلُ عبرها في الوقت ذاته تلك الحقائق التي تجعلهم خاضعين اجتماعيّاً للمؤسسات التعليميّة وأيديولوجيّاتها المهيمنة (Britzman, 1991). 

لا يسألُ المنّظّرون النّقديّون أيّ معرفة تعدّ مهمّة في المناهج المدرسيّة، فقط، وإنما معرفة من هي أيضاً، وأيّ مصالح تخدم، أو مصالح من، وكيف تخدمُ المناهجُ المدرسيّةُ والتربويّةُ المصالحَ المُختلفة أو لا تخدمها.  لقد كشف باحثون في النسويّة ودراسات ما بعد الاستعمار ومنظّرون يعملون ضمن تقليد النّظريّة النقدية الآثارَ المُهيمنة على وعي المعلّمين الذين يعملون ضمن الأنظمة المدرسيّة المعياريّة وذات النّزعة الطبيعيّة والمؤسسات التي تتجاهل تجارب النساء المعيشة، ومجتمعات الأقليّة الإثنيّة السوداء وغيرها من الأصوات التي يتمّ التقليل من قدرها، أو تهميشها أو حتى انتهاكها (Grumet, 1988; Lather, 1991; Hooks, 1998; Delpit, 1995; Giroux, 1996).

بالنسبة لي، جون، كان اليوم الثالث هو اليوم الأبرز، لقدّ تعلّمت بالفعل شيئاً عن نفسي كمعّلّم في المشهد الأخير، لأنّني باختصار شديد وجدتُ نفسي قبل عامين في موقف، حيث قدّم طالب مسرحيّة مكتوبة على نحو جيّد حول موضوع جدليّ، فأوضحَت الإدارةُ أنّه لا يمكن مواصلة ذلك العمل.  وبدلاً من أن أُصارع من أجله، أذعنتُ للأمر، ووجدت مكاناً آخر في المجتمع يمكن أن أُنجز به ذلك، لكنّي شعرت أنّني فقدت الكثير من احترام طلّابي لعدم وقوفي في وجه إدارة المدرسة.  وقد وجدت معلّمةُ الرّقص الآنسة سكرين (Screen) نفسها في معضلة مشابهة- كان لديها عرض راقص يعالج موضوعاً جدليّاً أرادت أن تقدّمه، وقالت لها الإدارة: لا تقومي بذلك.  لكنّها صممّت وقدّمته في كلّ حفلة موسيقيّة، وتركت التعليم، ولم تعد تعلّم الآن.  وما وجدتُه في الدراما هو أنّ ثمّة ظلالاً رماديّة، فالحقيقة أنّه عندما تعمل تحت الضغوط، وليس بالضرورة تحت القمع، لا يقتصر الأمر على حالة أن تكون بطلاً أو أن تكون جباناً أو متورّطاً، بل هناك أيضاً تلك الظلال الرمادية في الوسط، إذ يمكن أن تعمل في ظلّ النظام، حيث في وسعك أن تستمرّ في وظيفتك في التعليم، في الوقت الذي تعثر فيه على طرق تبثّ بها تلك الرّسائل إلى الطلاب؛ الرسائل التي يحتاجون سماعها.

 

ج .ن: كيف يمكننا أن نبقى على مواقفنا التعليميّة، ونعثرَ في الوقت ذاته على طرق لإيصال تلك الرسائل إلى الطلاب، التي يحتاجون إلى سماعها؟ كيف يُمكن أن توظَّف الدراما كأداة نقديّة في مؤسّسات تُضفي صفة الطبيعة على التفاوت في السلطة واللامساواة الاجتماعيّة التي يعاني منها العاملون فيها؟ ما هي الحدود الخاصّة حين يتعلّق الأمر بمدى كوني مهيّأ لتحدّي الرّسائل المؤسّسيّة المُهيمنة؟ هل التعليم الدرامي سياسيٌّ بالضّرورة؟ إن كان كذلك، فمن هو الذي يجب الاستماع إلى سياساته؟

 

بناء التجربة وعمليّة التنوير

يطرح بورديو (Bourdieu) مفهومَي الهابيتوس "habitus" (بنى ذاتيّة من الاستعدادات والتصوّرات) وفيلد "field" (الحقل) كأدوات ديناميكيّة في وصف الجدليّة بين الحقائق الذاتيّة والموضوعيّة في النظام المدرسيّ (Bourdieu , 1977).  يمثّل النّظام المدرسيّ عند بورديو بُنية مبنيّة، لكنّه في الوقت ذاته بنْيةٌ بانيَةٌ.  فهو يتشكّل بوعي الخاضعين له أو العاملين فيه، ويُشكّل هذا الوعي في الوقت ذاته.  وتستخدم ديبورا بريتزمان صيغة "بناء التجربة وتجربة البناء" في حديثها عن النقطة ذاتها (Britzman, 1991: p 28).  في نظريّة بورديو، ثمّة علاقة تداخليّة معقّدة بين المفهوم الذاتيّ للهابيتوس الذي يحيل إلى العادات المبنيّة اجتماعيّاً وعادات العقل، أو "المعرفة الضّمنيّة"، كما يسميها بولاني (Polanyi)، التي تقود أفكار الأفراد ومشاعرهم وأفعالهم، وبين الحقل الموضوعي الذي يعمل فيه هذا الهابيتوس.

إنّ الطبقة الاجتماعيّة والتّنشئة والوسط الثقافيّ والإرث كلّها تصوغ غرائز المعلم، والمعلّمُ يعمل في حقل التعليم الذي يبنيه الهابيتوس، وفي الوقت نفسه يبني هو، أو يصوغ، الهابيتوس.  إنّ المعرفة- أثناء- الفعل، من هذا المنظور، تجسيد لرسائل ثقافيّة معيّنة، جرى تعلّمها واستبطانها عبر أشكال مختلفة من التنشئة الاجتماعيّة.  ويعادلُ استكشافُ هذه العلاقة الديناميكيّة بين التجرية الذاتيّة والبُنى الموضوعيّة- في شكله الأبسط- سؤال من أنا وماذا أفعل، وماذا يقول لي ما أفعله عمّن أكون، وكيف يشكّلني ما أقوم به، وكيف أقوم بدوري بتشكيل ما أقوم به:

"إنّ مفهوم الهابيتوس مفهوم علائقيّ، كونه يصنعُ وسيطاً بين البُنى الموضوعيّة والممارسات، فالحقيقة الاجتماعيّة موجودة- للتذكير بذلك مرة أخرى- في الأشياء وفي العقول، خارج الذوات وداخلها.  وحين يلتقي الهابيتوس مع عالَم اجتماعي هو من نتاجه، يجد نفسه كالسمكة في الماء، فلا يشعر بثقله في الماء، ويقبل العالم من حوله كمُسَلَّمة" (Bourdieu, 1989; cited in Grenfell and Jones, 1998: 14).

إنّ أداتَي العلم النقديّ المنهجيّتين عند هابرماس هما نقد الأيديولوجيا والفعل البحثيّ النقديّ، ويقترح هابيرماس نموذجاً منهجياً من أربع مراحل لخلق ممارسة تحرّريّة (Carr and Kemmis, 1986):

1. توصيفٌ وتأويلٌ لوضعٍ موجود من أجل تحقيق ما يصفه فيبير (Weber) بالفهم الأتم (Verstehen)[2] أو الكليّ (Gestalt).[3]  تصف ماكسين غرين (Maxine Greene) هذه العمليّة بـ "التفكير الموسع" (thinking big) حول مشاكل التعليم وسياقاته.  وتقول إنّ "التفكير الموسّع يجعلنا على صلة وثيقة مع التفاصيل والخصوصيّات التي لا يمكن أن تُختَزل إلى إحصائيّات أو حتى إلى أمور قابلة للقياس" (Greene, 1995: 10).

2. مساءلة الأسباب التي أدّت إلى خلق الوضع القائم أو اختراقها، وهو ما يقترب من مفهوم الوعي النقدي (conscientisation) عند فريري (Freire) أو تطوير وعي ذاتيّ نقديّ يبحث في الأبعاد الاجتماعية-التاريخيّة والأيديولوجيّة لعمليّة ضبطنا وتكييفنا، ويكشف عنها.  ومن أجل التصرف إزاء الأوضاع الجدليّة التي نجد أنفسنا فيها ونعمل على تغييرها، نحتاج جميعاً في المقام الأول أن نحلّل كيفيّة تشكّل هذه الأوضاع اجتماعيّاً وتاريخيّاً ولمصلحة مَن (Freire, 1970, 1998).

3. اقتراح أجندة فعل موجَّهة لتغيير الأجندة القائمة أو جعلها ديموقراطية (الممارسة "praxis").

4. تقييم الفاعليّة التغييريّة أو التحرّريّة للأفعال التي اتُّخذت لتغيير الوضع القائم. 

من الممكن تعريف هذه البنية الأساسيّة بوضع صياغةٍ أحدث للفعل- البحث، تميل إلى نمط دوريّ من الإيضاح والتخطيط والفعل والتأملّ الذي يُفضي بدوره إلى إيضاح أكبر.. وهكذا دواليك.  وتدعم الاستعارة "الدوريّة" المهمّة المستمرّة واللانهائيّة للممارسة التأمليّة.

تحدّد زوبر- سكيريت (Zuber-Skerri, 1996: 84) متتاليةً مشتركة بين نماذج فعل البحث، وتصفها كالتالي:

1.      تخطيط استراتيجي.

2.      تنفيذ الخطّة (الفعل).

3.      الملاحظة، التّقييم، التقييم الذاتي.

4.      تأملات نقديّة ونقد- ذاتيّة حول البنود 1-3، واتّخاذ القرارات حول الدورة التاليّة من البحث.

لقد أصبحت أفكار الممارسة التأمليّة والممارس المتأملّ، المبنيّة على دائرة الفعل- البحث المشترك، شائعة في خطابات التعليم المعياريّة والتّعميميّة (nomothetic).  وتُحيل الوثائق الحكوميّة وتوجّهات كلّ من التأهيل الأساسي والمستمرّ إلى هذه الأفكار بوصفها محبّذة في التعليم.  كما أنّ عمليّات التقييم الشكليّة والتقنيّة، أو التأمل حول الفعل في مراحل التعليم تُدرَجُ في التدريب الأساسيّ، وعادة ما تصبح فحصاً مطلوباً للأداء التعليمي في المدارس في إنجلترا.  وقد سعى تسليع الممارسة التأمليّة وترويجها على أيدي واضعي السياسات والأطراف القويّة الأُخرى في التعليم إلى حجب أُسس هذا المفهوم، الجذريّة في الأصل والتغييريّة على الصعيد الاجتماعيّ.

اعتقدت أنّ اليوم الثالث كان اليوم الأكثر دعوة للانخراط بالنسبة لي.  ووددت لو أنني دوّنت ملاحظات في ذلك اليوم، لأنّني استحضرتُ هذه الأمور كلّها فيما بعد.  لكنّني وجدت نفسي أكثر في قصّة بيدرو (Pedro)، وقد تأثّرت كثيراً بما كنت أقوم به وبما كنت أراه، أقصد أننّي.. أنّ عينيّ اغرورقتا بالدموع في النّهاية لأنّني شعرت أنني جزء من القصّة.  أتمنى لو أكون أكثر تحديداً، أحتاج إلى أن أدوّن الملاحظات. 

ج ن: كيف يمكن للانخراط الانفعالي وللتماهي أن يصبحا انخراطاً نقديّاً يقود إلى نقد أيديولوجي للموقف؟ كيف يستطيع المعلمون أن يوازنوا بين حرارة التكثيف العاطفي، وبين الحاجة للتأمّل البارد والتكثيف الذهني؟ أيّ نوع من التعاطف أو المشاركة الوجدانيّة يجب الترويج له/ تطويره في عملي؟ التعاطف الذي لا يكون فعلاً في الوقت ذاته، يفسد (Edward Bond).

 

نماذجُ الممارسة التأمليّة، النقديّةُ والتقنيّة

يجب التمييز بين النماذج النّقديّة والنماذج التقنيّة للممارسين التأمليّين وبين الممارسة التأمليّة، بناءً على تطبيق دائرة الفعل البحث.  فالنموذج التقنيّ، كما يقول إليوت، مقتصرٌ في الغالب على استقصاء قصير الأمد وعلى مخرجات وظيفيّة (Elliot, 1991: p 55).  كما أنه يميل إلى تقصير نطاق المصدر على شواهد تحت السيطرة، ولا يتعداها إلى سياق مدرسي اجتماعي- سياسيّ أكبر.  وهو يهدف إلى تحديد مشاكل ذات طابع محليّ، من دون أن يكون من الضروري تحديد– أو التّصرّف إزاء- الحقائق الموضوعيّة الواقعة بشكل ظاهر خارج سيطرة بُنى السلطة التي بلورت المشاكل المُختبرة على نطاق محليّ أو أبقت عليها. 

ثمّة درجة من المثاليّة كامنةٌ في موقف نظريّة البحث النقديّة، وهو مبنيّ على افتراض أنّ بوسع المعلّمين أن يفرضوا أيّ نوع من السيطرة على حيواتهم العمليّة وممارساتهم حينما يعملون ضمن سياق فائق التشريع وتوجيهيّ يحكمه مفتّشون يحمون المصالح التقنيّة للحكومة.  تساءل كوهين وآخرون عما إذا كان لإعطاء المعلّمين كباحثي فعل درجةً صغيرة من السلطة للبحث في أوضاعهم الخاصّة في ما يتعلّق بالهابيتوس والحقل أيُّ أثر على الموقع الحقيقي للسلطة واتّخاذ القرار الذي يقع خارج سيطرتهم (Cohen et all, 2001: p 32).

لعلّ إحدى الإجابات في النموذج التقنّي من الفعل- البحث تكمن في اختبار نطاق المشكلة ومدى التدخل لعلاج ما يمكن أن يخضع للسيطرة، وتحديدهما في الوقت ذاته.  وهذا يعني في الغالب خلقَ حدود مرنة بشأن كلٍّ من الفترة الزمنيّة للاستقصاء والمدى الذي يغطّيه.  وهذا يعني كذلك أنّ المعلّم قد يمرّ بدائرة فعل- بحث ليختبر ما إذا كان التّخطيط قصير المدى لتحسين فاعليّته في إيجاد خطّة عمل إلزاميّة، أو هدف منهاجيّ- مثل استخدام كتاب منهاجي محدّد أو مقرّر دراسي- له أثر في تعلّم تلاميذه.  ولا يشمل الاستقصاء دراسة نقديّة للخطّة أو الهدف المنهاجيّ نفسه، الذي قد يكون سبباً حقيقيّاً في المشاكل المحليّة، عندما يكون التعليم الإلزاميّ حصريّاً أو استئثاريّاً على الصعيدين الثقافيّ والاجتماعيّ، مثلاً، أو حين يفضِّل على نحوٍ حتميّ مجموعات معيّنة من التلاميذ على غيرهم.  وينُظر إلى هذا المستوى من التحليل بوصفه خارجاً على سيطرة المعلّم، وبالتالي غير قابل للتغيير.  إنّ نطاق معرفة المعلّم- أثناء- الفعل، في هذه الحالة، الذي يحدّده ويصوغه موقع السلطة الخارجيّ الذي عيّنه المنهاج، لا يعدّ إشكاليّاً، بل يجري تطبيعه، ويُعدّ حقيقة ثابتة.

 

حين حدث التضامن، أخذنا على عاتقنا أن نتضامن.

 

ج. ن: كيف يمكن لمزايا التّضامن والرِّفاقيّة التي تلازم المجموعة أن تُوظَّف لتطوير عمل فنيّ/ نقديّ تغييريّ وفعّال؟

 

قد يحدث هذا فقط حيثما يصبح الفعل- البحث منفصلاً عن الرغبات الجذريّة والتحررية المُضمرة في موقف الممارس التأملّي.  إنّه تنكّرٌ للأمل؛ من حيث إنّه يقترح أنّ يتخلّى المعلّم عن إيمانه بإمكانيّة التّغيير في العالم الأكبر الذي يحيط غرفة الصّف.  تنبع النظرية النقدية من نضالات تحرّرية للأفراد والجماعات المهمّشة، وهي تنتمي، كما يقول فانون (Fanon) إلى تراث المقموع.  وفي هذا التراث، أصبح الأمل وفكرة أنّ العالم غير نهائيّ وقادر على التغيّر أساس الاستقصاء النّقدي والفعل التحرّري في وجه نماذج السلطة والهيمنة التي تبدو، في الظاهر، غير قابلة للاختراق.  ويعبّر ايغلتون عن هذا المسعى بالقول:

"إنّ أحدى السرديّات المؤثّرة في التاريخ الحديث هي تلك التي تروي كيف أنّ الرجال والنسّاء الرازحين تحت أشكال مختلفة من القمع استطاعوا أن يكتسبوا، غالباً بثمن شخصيّ كبير، نوعاً من المعرفة التقنيّة الضروريّة لهم لكي يفهموا وضعهم الخاصّ على نحو أعمق، وبالتالي، لكي يكتسبوا بعضاً من المخزون النّظريّ الضروريّ من أجل تغييره" (Eagleton, 1996: 53). 

باعتمادي نموذج الممارس التأمليّ النقديّ في عملي كمعلّم دراما، عمِلتُ في ظلّ الأمل بأنّ التغيير ممكن في كلٍّ من البيئة المحليّة التي أُدرّس بها والعالم الأوسع الذي يتجاوزها.  ويملأني الأمل على نحو خاصّ عندما أجدني أعمل بالتعاون مع معلّمين آخرين يناضلون لفهم الكيفيّة التي نجعل بها تعليمنا أكثر عدلاً ونقديّة.

 

كان اليوم الأول من العمل حول أنتيغوني ممتعاً حقّاً، ومع نهاية ذلك اليوم تكوّنت لديّ حقاً صورة عن تلك الفتاة الصغيرة، الصغيرة جدّاً، التي تتصدّى حقاً لكلّ تلك السلطة، ووجدت ذلك مؤثّراً جدّاً.  وكوالدٍ لديه ابنة، فقد مسّ ذلك وتراً في أعماقي.  حين تبدأ الفتيات بالدخول في الصمت، كما تعرف، فإنّهن، في ذلك العمر، يكُنّ متفوّقاتٍ على الصبيان وعلى كلّ شيء، ثمّ يحدث فجأةً هذا التراجع، خاصّة في العلوم والرياضيّات. 

ج.ن: ما هي كلٌّ من: الضغوطات المفروضة على التعبير العام عن الاستجابات الشخصيّة للدراما، والفرص المتاحة له التي تفضي إلى الجدل وإمكانيّة التحرك الاجتماعي؟ كيف يمكن أن يُصبح عملي أكثر فاعليّة في انتزاع هذا النوع من الإجابات والجدل الذي يمكن أن يتبعها؟

 

من الحسّ السليم إلى التنظير الأخلاقي

نظراً لأنّ نموذج الممارس التأمليّ يصف نمطاً من الممارسة موجّهاً نحو الفعل والتأمليّة على المستوى النقديّ والانعكاسيّة، بدلاً من أساليبَ وآليّاتٍ أرثوذكسيّة ضيّقة، فليس من الممكن أو المرغوب فيه تجريب أساليب بحث معينّة وتصنيفها على حساب أساليب أُخرى.  تطرح الفصول التالية من هذا الكتاب رؤى لتصوّرات نظريّة مختلفة ومنهجيّات بحث شاملة لوجهة نظر الممارس التأمّليّ ومتاحة للاستخدام في دائرة البحث-الفعل.  قد يستخدم الممارس التأمليّ مزيجاً تلفيقيّاً من المناهج والموادّ الكميّة والنوعية من أجل المساعدة في شرح التقدم على صعيد الممارسة والتخطيط لهذا التطور وتنفيذه ومراجعته.  وعلى غرار مسرح بريخت النّقديّ، فإنّ الممارس التّأمّليّ يوظّف أيّ نوع من الوسائل إذا كانت ملائمة أخلاقيّاً وضروريّة تِقْنيّاً.

ومع ذلك، فإنّ هنالك بعض الخصائص المعيّنة المهمّة التي تصوغ اختيار الأساليب المُستخدمة في البحث- الفعل النّقديّ.  وتولي هذه الأساليب اهتماماً بالقدرة على الملاحظة، والبراغماتيّة، ودور الحسّ السليم. 

وليس البحث- الفعل النّقديّ بحثاً تجريبيّاً، فهو لا يرتكز إلى التأويلات الذاتيّة لظاهرة مرصودة، وفي النظريّة النّقدية ثمّة فرضيّة تقول إنّ ما نراه هو ما نراه نحن.  بعبارة أخرى، فإنّ الأحداث ذاتها أو الظاهرة ذاتها تُعاش/ تلاحَظ/ وتُؤوَّل بطرق مختلفة باختلاف الأشخاص.  إلّا أنّ هدف البحث- الفعل النّقديّ هو محاولة العثور على تفاهمات مشتركة وادّعاءاتٍ بالحقيقة والعمل على تأسيسها.  وتُطرح هذه التفاهمات المشتركة للنّقاش عبر الحوار مع الآخرين.  إنّ عمليّة التأسيس الاجتماعية والحواريّة للحقيقة في البحث- الفعل النّقديّ تماثل نموذج هانا أرندت (Hannah Arendt) حول المواطنة الفاعلة في فضاء مشترك من الظواهر، الذي تقترح فيه ما يلي:

"كلّ شيء ظاهرٍ يُمكن أن يسمعه ويراه أيّ شخص، فيحظى بأوسع انتشار ممكن.  إنّ الظاهر بالنسبة لنا- أي الشيء الذي يراه ويسمعه الآخرون ونحن أنفسنا- يشكلّ حقيقة.  وإذا قورنت بالحقيقة التي تأتي من كونها مرئيّة ومسموعة، فإنّ أعظم الطّاقات في الحياة الحميميّة- شغف القلب، وأفكار العقل، وملذّات الحسّ- تفضي إلى نوع لايَقينيّ وضبابيّ من الوجود ما لم/ أو إلى أن يتمّ تحويلها، ونزع الخصوصيّة عنها ونزع فرديّتها، كأن نضعها في قالب يصوغها كي تصبح صالحة للظهور العام.. إنّ حضور الآخرين الذين يرون ما نرى ويسمعون ما نسمع يؤكد لنا حقيقة العالم وحقيقة أنفسنا (1958، ص 50). 

وبهذا المعنى، يجب أن تعامل البياناتُ وتأويلُها على أنّها إشكاليّة، كي يُمكن رؤيتها من زوايا مختلفة بدلاً من اعتماد الممارس التأمليّ الفرديّ تصوّراً واحداً فقط.  قد لا تكون المشكلة التي يحدّدها الممارس هي المشكلة الحقيقية، وقد لا يكون التأويل هو التأويل، والفعل المقترح قد لا يكون الفعل الصائب.  لذا، فإنّ الحقيقة يجب أن تُناقش وتُبنى من منظورات مختلفة.

يسعى البحث – الفعل النّقديّ، بمعنى ما، إلى سدّ الثغرة بين النّظريّة الكبرى والمعرفة المحليّة، وبناء علاقة تبادليّة بينهما (Inglis, 1993).  يتمّ تسليط الضوء على ظروف موقع البحث المحليّة من خلال منظورات النّظريّة النقدية، كما يجري اختبار النّظريّة النقديّة أمام الظروف المحليّة للمشكلة موضوع الدراسة.  في البحث- الفعل النّقدي نتوقع أن يكون ثمّة أساسٌ ما للنظرية إلى جانب تحرٍّ مفصّل للسياق المحليّ وديناميكياته.  ومع هذا، فإنّ المعلّمين كممارسين تأمليّين قد يحتاجون، لأسباب عمليّة، إلى أن يجدوا لأنفسهم موضعاً تسهُل إدارته في سلسلة متّصلة من البحث الرسمي- غير الرسمي.  يصف الطرف الرسمي من السلسلة البحثَ الذي يُنفَّذ لأهداف أكاديميّة وجمهور أكاديميّ.  ويميل هذا العمل إلى أن يكون شديد التفصيل وصارماً فيما يتعلق بالأساليب والبراهين على الحقيقة، وعلى الأرجح فإنّه يُنسب على نحو وثيق إلى النظريّة المنهجيّة والنقديّة.  أمّا الطرف غير الرسمي من السلسلة، فيصف العمل الذي يُنفَّذ لِـ/ ومع الزملاء المحليّين لغايةٍ عمليّةٍ تتمثّل في اقتراح أفعال أخلاقيّة يمكن أن يُلجأَ إليها كاستجابة لمشكلة محدّدة ومُعرّفة محليّاً.  وسيكون هذا العمل ممثِّلاً لأولئك المنخرطين فيه، ويُطرَح وفقاً لمعانٍ مختلفة، لكنّه قد لا يكون شديد التفصيل، وقد لا يحال إليه على نحو وثيق بوصفه عملاً أكاديميّاً مُحْكماً.

الخاصيّة الثالثة من خصائص منهجيّة البحث- الفعل النّقديّ هي مركزيّة الحسّ السليم كقاعدة للاستقصاء حول غرفة الصّف.  فعوضاً عن الطلب من المعلمين أن يتعلّموا أساليب علوم إنسانية جديدة للبحث، فإنّ البحث- الفعل النقدي هو عمليّةٌ تبدأ مع تجارب المعلمين اليوميّة ورُؤاهم ومعرفتهم- أثناء- الفعل التي يجري التنظير لها فيما بعد من خلال النقد- الذّاتي ونقد الأيديولوجيا والشواهد التي تُجمع وتُحلّل خلال دائرة البحث- الفعل.  وصف غرامشي هذه العمليّة بأنّها حركة نحو "فلسفة الممارسة" (غرامشي، 1976: ص 330)، كما تقترح بريتزمان أنّه في بحث- الفعل النّقدي:

"ليس فعل التنظير فرضاً لنظريات مجرّدة على ظروف مُفرَغة.  التنظيرُ نوع من الانخراط في العالم وتدخّل فيه.  تسكن النظريّة على الدّوام تجاربَنا العمليّة، ويجب أن تُفسَّر بوصفها مصدراً للتدخّل" (1991: ص 55).

أُريد فقط أن أتوقّف عند هذا، أنا متعب من التحديق في المعلّمين والإمعان في تفحُّصهم.  وأنا سعيد بأن أجلس هنا، وأن أقوم بذلك فقط وأكون جزءاً منه.  تعرف، الناس يأتون إليّ ويسألونني عمّا شعرتُ به إزاء شيء قمتَ به، فقلتُ: "حسناً، كنت منخرطاً، كنت فقط أقوم بذلك، وأنا مستعد للذهاب".  أنت فقط خذني فأنا مستعد للذهاب، أعني أنني كنت سعيداً جداً بقيامي بذلك.  وما أريد أن أفعله الآن هو أن أعود وأبدأ بالتفحّص، على الأقل أنظر فيما كان يجري فعليّاً، لكنّه كان رائعاً.  لقد مضى زمن طويل قبل أن أتمكنّ من فعل شيء كهذا، أعوام.

 

جون، أريد أن أُضيف إلى ذلك أنه كان من الرائع أن أنظر في الأمر فيما بعدُ كمعلّم، ولكن في تلك اللحظة كنت أنظر إليه مليّاً كطالب، وأُفكّر بأنّ هذا هو ما أحتاجه كمشارك، وهذا هو الشيء الذي يحمل معنى، وأتساءل كيف يمكننا أن نربط بين الأشياء؟

 

ج. ن: كيف يمكن أن نناقش حقيقة عامّة حول ما قد نراه أو نسمعه أو نعايشه على نحو مختلف في الدراما؟ كيف يمكن أن يجريَ ذلك على أفضل وجه بين الذّوات الداخليّة والخارجية مثل الجمهور/ المراقبين، وبين الذوات الداخليّة والممثلين/ القادة في سياق بحث نقديّ؟ كيف يمكن القيام بذلك في وجود علاقات سلطة غير متكافئة؟

 

قد يتبنّى البحث- الإجرائي النقدي عمليّةً تُماثِلُ توصيفات فريري لـ"الصرامة المنهجيّة والبحث" (Freire, 1998).  يرى فريري أنّ هذه العمليّة هي انتقالٌ من الفضول الفطريّ إلى الفضول الإبستمولوجي، انتقال من الفضول القائم على الحسّ السليم في ما يتعلّق بنشاط التعليم والتعلّم القائم على المعرفة المحليّة، أو "المعرفة الشعبية" وفقاً لاصطلاح برونر، إلى تأويليّة مستنيرة ونقديّة قائمة على أساس تحليل الأدلة التي تتّسم بكونها متعددة المعاني وممثِّلة لشراكة الأصوات في غرفة الصّف وفي المحيط الأوسع. 

"إنّني على قناعة بأنّ الاختلاف والمسافة بين الفطريّة والتفكير النقدي، بين المعرفة الناتجة عن التجربة الخالصة وتلك الناتجة عن آليّات منهجيّة صارمة، لا يشكلان قطيعة، بل بالأحرى مرحلة إضافيّة في عمليّة المعرفة.  وهذه المرحلة الإضافيّة تحدث عندما يصبح الفضول الفطريّ قادراً على النّقد- الذاتي.  حين ينقد الفضول الفطريّ نفسه يصبح فضولاً إبستمولوجيّاً، ومن خلال الدّقة المنهجيّة يتملّك موضوع معرفته" (Freire, 1998: 37). 

في الختام، أقترح مبدئيّاً ما عددْتُها خصائص محدّدة لنوع "الصلابة المنهجيّة" التي وصفها فريري، وأرى أنها تصف أيضاً القيم المعيشة للممارس التأمّليّ:

-       دوريّة: الممارسة التأمليّة التزام متواصل بالتعليم والتعلم الأخلاقيّيْن والملتزميْن، وهذا ينعكس في نموذج البحث- الفعل الدوري الموجّه نحو الفعل الذي تَخلق فيه كلُّ دورة من دورات التحديد والتخطيط والفعل والمراجعة المحرّك العمليّ والنظريّ للدورة التاليّة.

-       نقديّة: تنبثق الممارسة التأمليّة من افتراضات أنّ اختيار المعرفة ليس بالحياديّ ولا بالطبيعيّ، وأنّه ما لم ننتقد ممارستنا الخاصّة وفهمنا المبني على الحسّ السليم للتعليم والتعلّم، فإننا سنميل إلى تطبيع نماذج السلطة والهيْمنة التي تقدّمها عمليّة الاختيار.

-       تحرّرية: الممارسة التأمليّة النقديّة تهدف إلى تعديل الاختلالات في توازن السلطة وإتاحة الفرص، تلك الاختلالات المُحايثة للاختيار المعياري والتّعميميّ للمناهج والأساليب التربويّة والتقييم.  وعبر خلق تطبيق جذريّ مبنيّ على البحث، بما يشمله من نقد- ذاتيّ ونقد أيديولوجيّ، يُنظر إلى التعليم كإحدى الطّرق المُهمّة التي نستطيع بها التدخّل في العالم والتّحرّك من أجل مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطيّة.

-       البناء على الدليل: في كلّ مرحلة من مراحل البحث- الفعل تجمع الممارسةُ التأمليّة أدلّة ماديّة ونظريّة تُستخدم لإيضاح الهواجس والغرائز والمعرفة المحليّة التي تشكلّ معرفة المعلّم- أثناء- الفعل وتستجوبها وتحللها وتقيّمها وتُخبر وتعلنها.  ثمّة التزام كذلك بضمان أن تكون هناك- إلى جانب الأشكال الأخرى من الشواهد التقنيّة والماديّة- شواهد تجريبيّة ومُتداولة ومُكرّرة تكون ممثّلة لشراكة الأصوات في غرفة الصّف، خاصّة أصوات الطلاب والآباء وغيرهم من الزملاء.

-       أخلاقيّة: كما تقول بريتزمان، فإنّ تجارب العيش الوجوديّة والمتناقضة غالباً- مع التوتّر بين موقف المعلّم الأخلاقي الخاص به والحقائق الموضوعيّة للنظام المدرسيّ- هي في صميم الممارسة التأمليّة النقديّة.  الممارسة التأمليّة طريقة لخلق بعضٍ من معنىً لهذه التناقضات ولتخطيط تطبيقٍ ما وطرحه وتنفيذه سعياً لنموذج مدرسيّ أكثر شمولاً وإنصافاً، وبالتالي أكثر أخلاقيّة.

-       تعاونيّة: تفترض الممارسة التأمليّة ُسبقاً مقاربةً للتغيير، تعاونيّة أو رِفاقيّة، تضم ممارسين تأمليين يعملون معاً كي يغيّروا ممارساتهم عبر النقاش والأفعال المشتركة والتقييم.  إنّ القيام بأفعال جماعيّة وليس فردية يعدّ شكلاً أكثر فاعليّة للتدخّل.

-       انعكاسيّة: تسعى الممارسة التأمليّة النقديّة إلى صياغة قيم اجتماعيّة ديمقراطيّة في غرفة الصّف، بحيث يكون التعلم والتعليم مبنيّيْن على الحوار المفتوح والمفاوضة وتنمية تفكير نقدي وتبنّي أفعال في نطاق مجتمع المتعلميّن والمعلمين الذين أدركوا الحقوق والمسؤوليّات وأقرّوا بها صراحةً.

 

جوناثان نيلاندز

البروفيسور جوناثان نيلاندز أستاذ التعليم الإبداعي في كلية وارويك للأعمال (WBS) ورئيس قسم الدراما وتعليم المسرح في جامعة وارويك. بالإضافة إلى ملفه الأكاديمي، فهو قائد ورش إبداعية متمرس وممارس للدراما، يتمتع بسمعة وطنية ودولية في تقديم المحاضرات الرئيسية والتعليم التنفيذي وصفوف الماجستير عالية الجودة. وبصفته عميدًا مشاركًا للإبداع في كلية وارويك للأعمال، يعمل مع زملائه على تطوير سلسلة من المدخلات والتدخلات الإبداعية في المناهج الدراسية والحياة اللامنهجية للكلية. تشمل هذه الجهود عروض الطلاب وورش مسرح تفاعلية تستخدم الأدب الكلاسيكي لاستكشاف الأسئلة والقضايا الإنسانية في صميم عالم الأعمال. وهو مهتم بتطوير بيداغوجيا مستقبلية قائمة على حل المشكلات لتعليم وتدريب الأعمال، مع التركيز على نماذج القيادة الأخلاقية الشاملة.

تشمل اهتماماته البحثية: السياسات والممارسات في الصناعات الإبداعية، وقيمة الفنون في التعليم والمجتمع الأوسع، ونظرية وممارسة تعليم الدراما والمسرح، وفنون التدريس وعمل الفنانين المعلمين، ونماذج التعلم الثقافي والإبداعي، وسياسات صنع السياسات الثقافية والتعليمية، والتعليم في المناطق الحضرية، والإبداع وريادة الأعمال. له العديد من المؤلفات في مجال الدراما في التعليم.

 

مراجع وهوامش


[1]1] هذه التضمينات الواردة في النّص مأخوذة من مقابلة شبه مبنيّة، مدّتها ساعتان، مع المشاركين في ورشة العمل، وقد نُظمت بعد الانتهاء من الجلسة الأخيرة من جلسات ورشة العمل.  وهذه التضمينات توظّف هنا لإحداث انقطاع في النّص عبر أصوات أولئك الذين شاركوا في ورشة العمل.

يؤشّر الاختصار "ج. ن" إلى الأسئلة الخاصّة بي التي أطرح من خلالها بعض المشكلات.  وقد تشكلّت جزئياً من تأملاتي حول المقابلة والقضايا المُثارة، وأيضاً من ملاحظاتي ومن أرشيف الفيديو، والملاحظات المدوّنة، والنّقاشات الرسميّة وغير الرسميّة مع كلٍّ من المراقبين والمشاركين، واستعانتي بصديق نقديّ مستقلّ أعتمد عليه في إعطائي تغذية راجعة نزيهة على أدائي وفي دراسة إدراكي التجربة.

أُدرك الآن، وأنا أتأمّل في أصوات المجموعة وأسئلتي المتعلقة بذلك، أنّ الموضوع المركزي للبحث يتعلّق بقضايا السلطة والحكم بين المراقبين والجمهور، وبين المجموعة والمعلّم، وبين المراقبين والمعلّم.  وما بدأتُ أفهمه من خلال ممارستي التأمليّة هو أنّ الاختلافات الإبستمولوجيّة والأنطولوجيّة بين الباحثين وبين من هم موضوع البحث فيما يتعلق بما خبرناه وفهمناه وسجّلناه وصادقنا عليه إشكاليّة جدّاً.  وما تقترحه العمليّة التأمليّة هو أنّ ثمة حاجة لأن نُكوّن منتدى أكثر انفتاحاً على النقاش حول نتائج البحث بين الباحثين، بل وعلى المستوى النقديّ بين الباحثين ومن هم موضوع بحثهم.  يجب أن تُحرِّك مخرجات البحث مشاعر الحرمان من التمكين والإسكات والاستلاب التي عبّر عنها الأشخاص موضوع البحث، وأن تمثّلها بإنصاف في ختام المشروع (المُحرّر/ جوديث أكرويد (Judith Ackroyd).

[2][2] كلمة ألمانية استخدمها ماكس فيبر ليشير بها إلى منهجه في دحض العلم الاجتماعي الوضعي: وهي آليّة تأويليّة منهجيّة يحاول عن طريقها باحث من ثقافة ما أن يبني روابط مع ثقافة أخرى، ويعمل على فهمها (المترجم).

[3][3] كلمة ألمانية استخدمتها مدرسة فكرية ظهرت في بدايات القرن العشرين، لتشير إلى أنّ كلاً منظَّماً ما يمكن أن يكون أكثر من مجرد أجزائه المنفصلة (المترجم).