"الذي يسير دائمًا في إثر الآخرين لا يترك أثرًا".
(مجهول)
توطئة
تقوم كل مؤسسة مجتمعية على الانخراط في مجتمعها عبر مجالات عمل تتخصص بها، وتتطلع إلى تحقيق غايات محددة، تلتقي جميعها في مقاصدها لإحداث تحول تتوقع من خلاله أن يفضي إلى تغيير مجتمعي تتطلع إليه؛ في الأفكار والممارسات والقيم والمواد والأمكنة والمنهجيات والطرائق والأدوات ... . وهنا تتمظهر المنظورات ووجهات النظر على هيئة أفكار ومعارف وأيدولوجيات تتخذ من وسائط التعبير حاملا لها للتواصل مع الناس وترك أثر ما فيهم..
تتطلع هذه الورقة إلى اقتراح مقاربات للتعامل مع منتجات أرشيفية لثلاث مؤسسات فلسطينية، وهي مركز المعمار - رواق، وماندلون، وساقية/ فنون، علوم، زراعة، وهي مؤسسات لها خبرات متعددة في الانخراط المجتمعي، وساهمت في خلق مناخات ومصادر وفعاليات تسمح للجمهور من فئات مختلفة بالتعامل مع منتجها المعرفي ومصادرها المحفوظة (الأرشيفات) بأشكال مختلفة سواء أكان ذلك عبر منشورات بحثية أم فنية أم أدبية أم أعمال حرفية فنية أم معارض ذات طبيعة تفاعلية. ولعل فحصًا متأملا لما تمتلكه هذه المؤسسات الثلاثة من مصادر يشكل ذخيرة معرفية هائلة، آخذين بالاعتبار تاريخ كل مؤسسة من المؤسسات الثلاث وطاقمها ومجالات عملها وإمكاناتها المادية وتنوع خبراتها حيث يتجلى منتوجها كما ونوعًا. والإحاطة بكل المكونات وما تمتلكه من ثراء وممكنات وإتاحتها للمجتمع بصور مختلفة ومتنوعة باعتبارها مصادر معرفية من ناحية وموارد ملهمة من ناحية أخرى يتطلب عملا هائلا مستمرا وتراكميا، وفي الحقيقة، فإن المتتبع لهذه المؤسسات ونشاطها يجد أنها انشغلت بصور متعددة مع الجمهور الفلسطيني بفئاته المختلفة؛ المعلمين والفنانين والباحثين والأطفال والمهنيين، ... والجمهور العام أيضًا، وانخرطت في أنشطة وفعاليات مجتمعية تراوحت بين عمل في الإطار المحلي لمجال عملها وبين الإطار المجتمعي الأوسع أيضا.
في هذه الورقة نتطلع إلى بناء إطار عام، يمكن من خلاله الإفادة مما أنتجته هذه المؤسسات الثلاثة بعلاقتها بمجتمعها في بناء تصور لممكنات انخراط فعالة ونوعية مع المجتمع بحيث يمكن الإفادة من مصادرها وأرشيفاتها المختلفة في إنتاج معرفة مجتمعية ملهمة وخلاقة عبر انخراط مجتمعي يتيح محاورة هذه المصادر والأرشيفات بصورة إبداعية. وفي ضوء ذلك فقد تمَّ التركيز على مراجعة مكونات أرشيفية محددة للمؤسسات الثلاث، وهي على النحو التالي:
-
التاريخ الشفوي/ قصص مسموعة + ريف بلا مدينة/كتاب – مركز رواق للمعمار
-
أرشيف الصور الفوتوغرافية/ استديو روحي أبو حماد + (معرض مكتشف في موقعه ) مختبر ماندلون للفنون التجريبية
-
ساقية... علوم فنون زراعة/ كتاب بحثي توثيقي + رسومات أطفال – ساقية
وفي ضوء هذه المراجعة، يقفز أول الأسئلة: كيف يمكن لهذه الأفكار والتصورات والمنهجيات أن تتسع وتسمح لجمهور متنوع وأوسع أن يقارب ليس فقط هذه الأرشيفات الثلاثة، بل كل هو أرشيفي في هذه المؤسسات ويمكن له أن يقدم أفكارًا ومنهجيات ملهمة من اجل إنتاج معاني جديدة ومتجددة؟ . فالأرشيفات في "حصونها" داخل جدران وسائطها ميتة، أو "خرساء" على أقل تقدير، فهي لا تقدم لنا المعاني بذاتها، وهي كأي علامة، تحتاج إلى قارئ، إن المقاربة القارئة هي التي تخلق المعاني والتأويلات وهذا هو الذي ينتج المعنى. وعلينا أن نشرع في التفكير بخصوص هذا الاقتراب ونطرح أسئلة من قبيل: ما الذي نريده من قصة شفوية سجلت لامرأة في بلدة ما؟ ما الذي نريده من صورة فوتوغرافية لعائلة التقطت قبل خمسين عاما؟ ما الذي نريده من حكاية سمعناها من صاحبها الآن؟ وما الذي يمكن أن تمنحنا إياه تلك القصة والصورة والحكاية؟ كيف يمكن لنا أن نحول الخطاب المنجز إلى خطاب جديد ليغدو تعبيرا جديدا يفضي إلى حوار مجتمعي؟ أي صيغة نود أن نؤلف فيها هذا التعبير؟ أي وسائط تواصلية نتطلع إلى توظيفها لنصل إلى الجمهور الذي نريد التواصل معه؟ كيف يمكن لجمهور ما أن يكون شريكا أصيلا في إنشاء التعبيرات وفي الانخراط في الحوار الاجتماعي؟
إضاءة أولى
تخبرنا كلاريسا بنكولا في كتابها "نساء يركضن مع الذئاب" عن معطف تحتفظ به نساء أمريكيات أصليات ويسمينه "معطف الفداء":
إن «معطف الفداء هو عبارة عن معطف يصف بالتصوير والكتابة وبكل الصور الأخرى التي تُثبَّت عليه بالرتق والتطريز، كل ما يُدَّعى أنه مَرَّ بحياة المرأة؛ كل الإِهانات، والطعون والافتراءات، كل الإصابات وكل الجراح وكل الندوب. إنه بيانها الذي يشمل خبرتها في كونها جُعِلَت كبش فداء. أحياناً يستغرق عمل هذا المعطف يوماً واحداً أو يومن فقط، وفي أحيان أخرى يأخذ شهوراً. ومن المفيد، بقدر فائق، تفصيل كل الطعنات والضربات والجلدات في حياة المرأة (هذا منطقي للغاية لنقل الجروح من داخلنا إلى الخارج) .... إنها أيضاً فكرة رائعة أن تحسب المرأة عمرها، ليس بالسنوات، بل بالندوب الباقية من المعركة. أحياناً حينما يسألني الناس: «كم يبلغ عمرك؟ »، أقول لهم: «عمري سبعة عشر ندباً من آثار المعركة ». الناس عادة لا يجفلون ولا يُحجمون، بل يبدؤون، بدلاً من ذلك، وَهُم سعداء، في حساب أعمارهم وفقاً لندوب المعارك» (بنكولا، 2002: 471 (. ثم تردف قائلة على لسان إحدى النسوة اللواتي احتفظن بثوب فداء يسجل "حياتها": إنني أتعجب ما الذي ستظنه حفيداتنا وحفيدات حفيداتنا العظيمات عن حيواتنا المسجلة بهذه الطريقة. أتمنى لو كان كل شيء مشروحاً لهن. (2002: 472)
يتحول الثوب إلى أرشيف، وهو هنا أرشيف فني بصري رمزي، تترك فيه النساء للحفيدات تفكيك الرموز وإنتاج المعاني، مع أن أمنية إحدى النسوة التي تمتلك ثوبًا من هذا النوع تقوم على شرح هذه التعبيرات، لكي تصل الفكرة التي تتغياها، ومع ذلك، فهي لا تشرح شيئًا، وتترك إنتاج المعاني لأجيال لاحقة. وفي ذلك أمران من بين أمور كثيرة؛ الأول ترك الحرية للأجيال القادمة لتأويل "الندب" المعبر عنها بصريا بثقافتهم وخبرتهم دون طغيان "شرح" ما يوجه المعاني. أما الأمر الثاني فلعله يقوم على أن الشرح اللغوي يخضع أيضًا لتأويلات مختلفة ومتعددة أيضًا. وسواء أكان التعبير بصريًا فقط أم لغويا فقط أم مزيجا بين النمطين فإن إنتاج المعنى مرهون "بقارئه".
إن صاحبة المعطف هنا تمنح حفيدتها، التي سترث ثوبها، فرصة للتفكير والبحث والتساؤل والتخيل والتعبير، وبالتالي، فإن الحفيدة ستنتج معانيها "هنا والآن"، أي أنها ستقرأ بخبرتها الراهنة وثقافتها القائمة، وتجعل "ندوب" الثوب تتحرك في "الحاضر".
لدى هذه المرأة، التي تركت معطفها لحفيدتها، قصصها الخاصة التي تمثل محطات قاسية من حياتها، وقد ارتأت تحويلها إلى صور بصرية تنتشر على معطفها هذا، وهي بذلك تقتدي بعرف ثقافي اجتماعي دأبت عليه النسوة في مجتمعها. وبهذا، فهي تتخيل الكيفية التي يمكن فيها لحادثة واقعية أن تتحول إلى حكاية، وكيف يمكن لهذه القصة أن تُروى مكثفة في تعبير أيقوني بصري يمكن أن يُقرأ من قبل الأجيال اللاحقة عبر تأويله من ناحية ومن خلال الاقتداء بهذه الصور من خلال تحويلها إلى مادة ملهمة في فكرتها وفي بنيتها الجمالية لتتخلق أثواب أخرى تحمل قصصًا أخرى عبر تعبيرات جمالية متجددة. إن الماضي هنا يحتفظ بمكوناته من خلال عصرنته وليس من خلال اجتراره أو إعادة استنساخه. يقول ميخائيل باختين بهذا الصدد: "
"دائما ما يتم الحفاظ على (النوع) بعناصره العتيقة التي لا تموت. ومن الصحيح أن هذه العناصر القديمة يتم الحفاظ عليها فقط بفضل تجديدها المستمر، أي عصرنتها. (النوع) هو نفسه دائما، ومع ذلك، ليس هو نفسه، بل القديم والجديد معًا في وقت واحد دوما.... يعيش (النوع) في الحاضر، لكنه يتذكر دائمًا ماضيه وبدايته. (1992: 191).
ويمكن الإشارة هنا في عجالة إلى أنني استوحيت قبل عدة أعوام فكرة المعطف في مشروع درامي مع مجموعة مع المعلمات عبر قصة عالمية "لايارونا" تتعرض فيها امرأة لصنوف مختلفة من القسوة والألم، وقد استلهمنا القصة والفكرة معًا في تناول محطات قاسية تمر بها المرأة، واستعرن بعضها من تاريخ شفوي لنساء فلسطينيات مسجل ومكتوب، ومزجنها بقصص شخصية من ذاكرتهن. وقد ترجمن ذلك كله عبر تعبيرات أيقونية بصرية تجسدت على هيئة أثواب تحولت في نهاية التجربة إلى معرض فني تركيبي يشمل الأثواب، و"الندب الفنية" ويتضمن فضاء المعرض نصوصًا مروية بألسنتهن وعبر تعبيرات جسدية لهن.
تكتب إحدى المعلمات المشاركات في تأملاتها حول التجربة:
"تقود الدراما إلى أماكن محظورة... لقد اخترقت أمنها المزعوم بنجاح... لقد أيقظت مخاوف خُضنا من أجل إخفائها حروباً طويلة مع أنفسنا ومع من هم حولنا...لقد استطعتَ أن توقظ فينا، وبخاصة النساء والفتيات منا، ما يجعلنا ندرك أننا لم نخلق ضعيفات يسهل اقتيادنا... إننا غير عاجزات عن أن نقفز ونقتنص ونلد ونهب الحياة... ولكن ما علينا إلا أن نفهم ما هو حولنا وما يتعلق بنا، وما الذي ينبغي أن يعيش داخلنا، وما الذي يتحتم أن يموت... " (م. ز- الكردي، 2018: 22)
وتعلق أخرى على ما أفضت به الخبرة الجمالية التي عبرتها بالقول:
"كلُّ النساءِ جميلاتٌ، لكنَّهنَ يحتجنَ إلى إدراكِ ذلك".
(م.ز - معلمة)
إن التجربة الجمالية بتعاملها مع المصادر الموروثة قد تسمح بخلق حوار (هنا والآن) ويسمح بإنتاج معرفة جديدة معاصرة مستلهمة من الموروث، ولكنها لا تبقى حبيسة في جدران زمنه.
مقدمة
لعل هذه الإضاءة التي عبرناها معًا، تقدم إشارات تعكس تلك الحيوية في التعامل مع المصادر الموروثة بكل أشكالها وصنوفها، بما فيها التاريخ الشفوي والحكايات، ويمكن لها أن تنطبق أيضًا على الرسومات والصور والخرائط والقصص وعلى كل مكونات التراث المادي وكذلك الفضاءات بحيويتها وحركة البشر فيها. فجوهر الأمر هنا هو التواصل مع المادة المصدرية ومحاورتها وتأويلها وإنتاج معرفة جديدة من خلال حوار يتجسد عبر تعبيرات فنية وجمالية جديدة ومتجددة، تشكل بدورها مادة حيوية للتواصل بين البشر من خلال حوار متجدد، يسمح بقراءات متعددة ومنظورات مختلفة تفضي إلى تضافر رؤى في علاقة اشتباك حيوية مستمرة خلاقة تفكك وترمم وتبني طوال الوقت.
وهذا ما يمكن أن تقوم به أية مؤسسة مجتمعية تتطلع إلى تحقيق غايات محددة، تلتقي في مقاصدها من أجل إحداث تحول تتوقع من خلاله أن يفضي إلى تغيير مجتمعي؛ في الأفكار والممارسات والقيم والمواد والأمكنة والمنهجيات والطرائق والأدوات .... ومن بين هذه المؤسسات التي تترجم ذلك بصور مختلفة هي رواق، وماندلون، وساقية، التي نكرس هذه الورقة لتقديم مقترحات فكرية وعملية للتعامل مع أرشيفاتها.
إن هذه المؤسسات المجتمعية تساهم بصورة مستمرة في خلق مناخات ومصادر وفعاليات تسمح للجمهور من فئات مختلفة بالتعامل مع منتجها المعرفي ومصادرها المحفوظة (الأرشيفات) بأشكال المختلفة سواء أكان ذلك عبر منشورات بحثية وفنية وأدبية وأعمال حرفية وفنية ومعارض ذات طبيعة تفاعلية، ولعل فحصًا متأملا لما تمتلكه هذه المؤسسات الثلاثة من مصادر يشكل ذخيرة معرفية هائلة، مع الأخذ بالاعتبار تاريخ كل مؤسسة من المؤسسات الثلاث وطاقمها ومجالات عملها وإمكاناتها المادية وتنوع خبراتها حيث يتجلى منتوجها كما ونوعًا. والإحاطة بكل المكونات وما تمتلكه من ثراء وممكنات وإتاحتها للمجتمع بصور مختلفة ومتنوعة باعتبارها مصادر معرفية من ناحية وموارد ملهمة من ناحية أخرى يتطلب عملا هائلا مستمرا وتراكميا، وفي الحقيقة، فإن المتتبع لهذه المؤسسات ونشاطها يجد أنها انشغلت بصور متعددة مع الجمهور الفلسطيني بفئاته المختلفة؛ المعلمين والفنانين والباحثين والأطفال والمهنيين، ... والجمهور العام أيضًا، وانخرطت في أنشطة وفعاليات مجتمعية تراوحت بين عمل في الإطار المحلي لمجال عملها وبين الإطار المجتمعي الأوسع أيضا.
في هذه الورقة نتطلع إلى بناء إطار عام، يمكن من خلاله الإفادة مما أنتجته هذه المؤسسات الثلاثة بعلاقتها بمجتمعها في بناء تصور لممكنات انخراط فعالة ونوعية مع المجتمع من ناحية ويمكن من ناحية أخرى الإفادة من مصادرها وأرشيفاتها المختلفة في إنتاج معرفة مجتمعية ملهمة وخلاقة عبر انخراط مجتمعي يتيح محاورة هذه المصادر والأرشيفات بصورة إبداعية. وفي ضوء ذلك فقد تمَّ التركيز على مراجعة مكونات أرشيفية محددة للمؤسسات الثلاث، وهي على النحو التالي:
-
التاريخ الشفوي/ قصص مسموعة + ريف بلا مدينة/كتاب – مركز رواق للمعمار
-
أرشيف الصور الفوتوغرافية/ استديو روحي أبو حماد + معرض (مكتشف في موقعه) مختبر ماندلون للفنون التجريبية
-
ساقية... علوم فنون زراعة/ كتاب بحثي توثيقي + رسومات أطفال – ساقية
وفي ضوء المراجعة، يمكن لهذه الأفكار والتصورات والمنهجيات أن تتسع وتسمح لجمهور متنوع وأوسع أن ينخرط فيها وليس فقط مع هذه المكونات المطروحة كأمثلة تفاعلية بل مع كل ما هو أرشيفي/مصدري في هذه المؤسسات، ويمكن عبر مستويات متعددة من الانخراط أن تتجلى أفكار ومنهجيات ملهمة تنتج معاني جديدة ومتجددة.
أولا- الأرشيف: إطار عام
تحيل كلمة "أرشيف" غالبًا إلى تلك الوثائق والملفات والأوراق والصور والرسومات والخرائط والسجلات والتسجيلات التي أنتجتْ في مرحلة تاريخية سابقة، وتم اقتناؤها والاحتفاظ بها من قبل أفراد ومؤسسات وهي تشمل ما هو شخصي وما هو اجتماعي وما هو رسمي. فالأرشيف هو "تكديس" السجلات أو المواد التاريخية – عبر وسيط - أو مرفق مادي توجد فيه وهي تحفظ ما يمكن تسميته بالمصادر الأولية التي تراكمت على مدار حياة الفرد أو المؤسسة، فهناك أرشيفات تتكدس في ضوء طبيعة العمل المؤسسي: المحاكم، الأحوال الشخصية، سجلات المؤسسات والشركات، ... وهناك الأرشيفات الشخصية، سواء تلك التي يتم الاحتفاظ بها في البيت بصورة تلقائية أم بصورة مقصودة ومخططة
وعبر سجال طويل حول المرجعيات التاريخية في تكوين الروايات التاريخية جرى عراك متعدد الأبعاد والمرجعيات والتطلعات حول أي المصادر ذات المصداقية وذات الثقة والتي يتم اعتمادها كمرجعيات إثبات، وقد حدث اختراق هائل فيما يخص اعتماد الأرشيفات الشخصية والتاريخ الشفوي كمصدر معرفي وكمادة يمكن الاستناد إليها في تأويل التاريخ، بل ذهب كثيرون أيضًا إلى تفكيك "احتكار" المؤرخين الأكاديميين لسلطة كتابة التاريخ إلى مشاركة الناس "العاديين" في رواية التاريخ، ولعل شكلا من أشكالا المصالحة بدأ يحدث عند تيارات أخرى تقوم على المزاوجة بين المصادر التاريخية الرسمية المعتمدة وبين المصادر الشعبية
وقد دار جدال هائل خلال العقود الماضية حول "الأرشيفات" وطبيعتها وغاياتها ومدة أهمية حفظها والاحتفاظ بها أو عرضها أو تحويلها إلى مواد معرفية وفنية ووظيفية مختلفة ... الخ. ولقد تنوعت المنظورات المتعلقة بذلك، ولعل أبرزها قد تمثّل في:
-
أن الأرشيفات تشكل مرجعية تاريخية لتكوين السرديات والروايات لمجتمع ما ولثقافة ما.
-
أن الأرشيفات تساهم في بلورة الهوية القومية وبالتالي فإن استحضارها هو فعل من أفعال تأكيد الهوية الوطنية وبلورة المشروع القومي باعتبارها ذاكرة الأمة وأحد أبرز تجلياتها التاريخية.
-
اعتبار "الأرشيف/ الأرشيفات" مصطلحا كولونياليا، وأن للأرشيفات سلطتها الاستعمارية التي لا يمكن الإفلات منها.
-
متحفة الأرشيفات وعرضها كأغراض مع شروحات في معظم الأحيان وكذلك تخزينها (وعرضها بين حين وآخر) باعتبارها تعبيرات من زمن ماضٍ انقضى، ولها سردية أحادية.
ولكيلا ننشغل كثيرًا في جدال لا ينتهي، وليس مكانه هنا، ولعله سيتجدد باستمرار عبر محطات تاريخية مفصلية، فإن السؤال الذي ينبغي لنا طرحه، ويحقق الغاية الأساسية من هذه الورقة هو:
كيف يمكن للمخزون الثقافي المجتمعي الشعبي أن يغدو منتوجًا ثقافيًا إبداعيًا ينتج معرفة جديدة معاصرة
تفضي إلى حوار مجتمعي ملهم وحر ويسهم في التحول الاجتماعي التاريخي؟
هذا سؤال كبير ومتعدد الجوانب والأبعاد، ولكنه في كل الأحوال يقترح مبادرة ما وفعلا إنما الأرشيفات مراجع ومرجعيات؛ فأمَّا كونها مراجع، فلأننا نلجأ إليها ونستعيد خطاباتها، وأما كونها مرجعيات فلأنها تُوظف لصوغ الرؤى وحَبْكِ الخطابات. إن لها سطوة بالغة، وحضورًا طاغيًا، والمفارقة هنا في أنها تحضر دائمًا، سواء في رفضها الكامل أم في قبولها المطلق وما بينهما من درجات رفض وقبول. ولعل في ما يحدث هذه الأيام في فلسطين بعد السابع من تشرين الأول يكشف لنا كيف يتم استجلاب الروايات التاريخية والرموز والموروثات المختلفة ويعاد تشكيلها وبثها في إطار صراع السرديات عبر وسائط توظف الأفعال والصور واللغات لتضفيرها. ويستطيع المرء أن يلاحظ كم هي "الموروثات" ذات سطوة وحضور طاغ في سياق حدث معاصر يحدث (هنا والآن) وعبر وسائط عصرية تتدفق فيها السرديات وتتشابك وتشتبك فيما بينها. وفي كثير من الأحيان فإنها تتبدى كمونولوج يستعير الماضي ويتماهى معه دون أن تظهر الخصوصية فيه.
في روايتها "الذئاب لا تنسى" تخشى لينا هويان الحسن من سيطرة "الموروث" عليها بحيث يختفي صوتها وتغيب شخصيتها:
"أقلعتُ عن عادة تصفح الألبومات: أخافهم. أخشى أن يسحبوني إلى حيواتهم التي كانت. أخاف أن أنظر بعيونهم، وأفكر بعقولهم، وأشعر بقلوبهم. أطلُّ من نوافذهم وألجُ حياتي من خلال بواباتهم هم. أريدُ أن أكون أنا. صورة واحدة يمكن أن تطمس كل صوري، تطمس «اختلافي». الماضي لا يبارى إنما يُنسى، حتى لو كذبا، علينا أن ننساه، هذه الكذبة واحدة من تلك الأكاذيب التي تتحول مع الوقت إلى حقيقة. فتحت ثغرة في ذلك الجدار وكشيء جامع خرجت، إلى حيث ليس هنالك حياة أو موت، إنما قوى علينا أن نهزمها."
الراوية تخشى الصور الفوتوغرافية التي تحشر الذاكرة في إطارها وتجعلها تروي رواية من فيها لا روايتها هي، فلهذه الصورة قوتها وسلطتها، إنها تخشى فقدان صورها، فتغدو صدى للآخرين، الخوف يقوم على أن هذه القدرة لصور الألبوم تغدو لها سطوة هائلة. إن احتراس الكاتبة من الغوص في الماضي مبرر ومفهوم ويساعدنا على الاحتراس أيضا، ولكن بدلا من الاحتراس من الاقتراب من "الماضي" يمكن الاحتراس في الاقتراب من الماضي. وهنا يمكن أن تتضافر الروايتان معا في نسيج حواري؛ لأن ذلك الماضي هو جزء من تعريفنا لأنفسنا الآن وينبغي أن نتيح لأنفسنا مقاربته من موقع أن لنا منظورنا المعاصر الذي يحاوره، وعبر هذه الحوارية تتشكل سردية معاصرة وحيوية ومعبرة.
إن احتراس الروائية من ألبومات العائلة وخوفها من أن تفقد رؤيتها فتضع عدسات من هم في الصور وترى العالم من خلالهم، لا يعني أنها تجنبت الأرشيفات تمامًا بل إن تصفح الارشيفات (كفعل تواصل معها) هو الذي أتاح لشعور الخوف أن يتكون، ودون ذلك الفعل ما كان يمكن لنص روائي إن يظهر.
بالمقابل، يأتي حفيد المصور "كيغام" الذي افتتح استوديو تصوير في غزة في غزة ما بين العام ويشتغل على أرشيف جده، يرممه، ويبني تصورًا لمعرض يدمج فيه عمل جده وصوره مع ما صوره ليقدم رؤياه حول ما كانت عليه غزة وما آلت إليه اجتماعيا وثقافيا وسياسيا عبر معرضين أحداهما أقيم في بيت لحم (2008 والآخر أقيم في القاهرة (2021).
في حين أن الروائية أني إرنو استندت في روايتها "السنوات" على 13 صورة من ألبومها العائلي، وقد سجلت أحداث الرواية عبر وصفها لهذه الصور الفوتوغرافية دون أن تظهر لنا الصور في النص الروائي بصريًا بل يمكن للقارئ أن يتخيلها. كما أنها أنجزت فيلما بالعنوان نفسه تحضر فيه الصور الفوتوغرافية من ألبومها العائلي.
تكتب عن الصور مثلا:
"ستتلاشى كلها دفعة واحدة كما تلاشت ملايين الصور التي كانت متراكمة خلف جباه الأجداد الذين رحلوا منذ خمسين سنة، والآباء الذين أيضا. صور نظهر فيها أطفالاً بين أناس آخرين رحلوا حتى قبل أن نولد تماما مثلما يحضر في ذاكرتنا أطفالنا وهم صغار إلى جانب والِدَيْنا ورفاقنا في المدرسة. ولعلنا سنكون ذات يوم في ذكريات حفدتنا وأشخاص آخرين لم يولدوا بعد. (أرنو (2023: 18)
وفيما يلي مثلا ، في الكيفية التي تحول فيها البصري إلى لغوي، كمكون سردي في الرواية:
"صورتان صغيرتان أخريان بحواف مسننة، تعود على الأرجح إلى العام ذاته، تظهر فيها الطفلة نفسها، أقل بدانة في فستان مكشكش بأكمام منتفخة. في الأولى تحتضن بشكل مرح سيدة بجسد ضخم في فستان بخطوط عريضة وشعرها مجموع في لفافات كبيرة. في الصور الثانية، ترفع قبضتها اليسرى، أما اليمنى ففي يد رجل، طويل، يرتدي سترة بلون فاتح وسروالا بطيات، وتبدو غير مبالية. التُقِطَتِ الصورتان في اليوم ذاته أمام جدار قصير تعلوه الأزهار في باحة مرصوفة. فوق الرؤوس يتدلى حبل للغسيل تُرك عليه مشبك." (2023 : 25)
إن الأمثلة الأنفة الذكر تشير إلى ممكنات مختلفة للتعامل مع مادة أرشيفية من النوع نفسه، وبطبيعة الحال هناك أشكال أخرى كثيرة يمكن أن تتولد عن مقاربة المواد الأرشيفية، وسيختلف حضورها وسطوتها باختلاف المنظورات وكذلك الوسائط، وهذا محكوم في نهاية الأمر في طبيعة قراءة الأرشيف وما يمكن أن يتولد عن هذه القراءة من معان وما يمكن أن ينتج عبر وسائط تعبير يلجأ لها أصحابها.
تشير هذه الأمثلة على اختلافها إلى:
-
أن المقاربة تأتي من موقع المُقَارِب (هنا والآن)، فما الذي يريد قوله؟ ما الذي تمنحنه إياه هذه المواد الأرشيفية من معان في رحلة محاورتها؟
-
أن المادة الأرشيفية يتم تقديمها في إطار غير إطارها الأصلي، وعرضها ضمن تصور خاص مغاير.
-
اختيار الوسيط التعبيري سواء أكان لغويًا أم بصريا.
ولعل ذلك يمنحنا فرصة للتفكير فيما يفعله الفنان/ الكاتب في رحلة إبداعه فهو لا يعيد "تكرار" الماضي، "إنّ تقليد الواقعِ لا يعيدُ إنتاجه. الفنُّ ذاكرةٌ، ولأنّ مواقفه تمثّلُ منطقَ الخيال، فإنّه أيضاً منطقُ التاريخِ، وبالتالي ذاكرةُ المستقبل" بوند، 2020 : 299 – 300)، فالفنان: يلاحظ، يفكر، يتخيل، يستكشف، يبحث، يتساءل، يُسائل، يجرب، يغامر، يوازن، يعبّر، يحاور، يراجع، .... إن هذه السمات هي التي تتيح الإبداع في مقاربة الواقع، وتمنحنا القدرة على إنتاج معرفة متضافرة؛ أصيلة من ناحية ومبتكرة من ناحية أخرى.
ثانيا – الأرشيف وإنتاج المعاني
ينشغل الفلسطينيون، كما انشغل ولا يزال ينشغل العديد من شعوب العالم، بأرشيفاتهم، ويبدو الأمر في الغالب متعلقًا بالرغبة في منح الهوية القومية ملامحَها التاريخية لإثبات الكينونة الزمانية والأحقية المكانية على هذه الأرض التي تسمى "فلسطين". وتشكِّل المصادر التاريخية بما فيها الأرشيفات الرسمية والشخصية، العامة والفردية مرجعًا أساسيا في هذا المسار، ويتغير مدى هذا الانشغال بمدى التهديد الوجودي، فنجده يتصاعد حينا، ويتراجع في حين آخر. ولعل الناظر الآن، في زمن العدوان على قطاع غزة (2023) سيجد اهتماما بالرجوع إلى هذه الأرشيفات والاختيار منها بغية تأكيد الحق الوجودي وإظهارها وعرضها عبر أشكال إعلامية وفنية وعلمية وتقنية متعددة، ويتم تداولها عبر وسائط تواصل مختلفة ومن خلال استعمال تقنيات حديثة، وبخاصة الرقمية منها في تقديم "الرواية/الروايات الفلسطينية"، فيعاد إنتاجها وتفسيرها وتأويلها واختيار طرائق التعبير عنها وأنماط مشاركتها مع الآخرين. لقد لعبت وسائط الميديا والملتميديا دورًا هائلا في ضخ هذه المواد وتدفقها ومحاورتها والاشتباك معها عبر منظورات ووجهات نظر متعددة. ولقد تراوحت في المستوى والنوعية والأثر والجمهور الذي تتوجه إليه من حيث هي رسائل راهنة ذات محتوى ينهل من الماضي.
إن التواصل مع المواد الأرشيفية سيجعل منها "خطابا" يتشكل من خلال "قارئها"، فأية وثيقة هي وثيقة "خرساء" على رأي جاك دريدا إذا لم يكن هناك من يُنطِقها، ويُحمِّلها المعاني. وكل قارئ سيقرأها بخبرته وتجربته ومعرفته وأيدولوجيته، وسينتج المعاني في زمان ومكان معينين؛ إن ذلك كله هو سياق القراءة، ولا يمكن لنا تجريد القراءة دون سياقها. فكل شيء في الحياة له أوجه كثيرة لا نهائية، وله طبقات متعددة ومنظورات متغيرة، وكل شيء له منظورات مختلفة وتصورات يندمج فيها الذاتي بالموضوعي في كل الأحيان.
وفي كل الأحوال، فإن التواصل مع المواد الأرشيفية وإعادة تفعيلها كتعبيرات مقروءة يتم من خلال وسائط حركية وبصرية ولغوية. وكأن في ذلك إعادة إنتاج لمعانيها من خلال تهيئتها لتغدو قابلة للقراءة مرة أخرى (هنا والآن). وكما لاحظنا في الأمثلة السابقة فإن التعبيرات الفنية/ الجمالية هي التي تحمل هذه المواد وفق رؤية ما لمنتجها، مع عدم أغفال أن عمليات بحثية فكرية علمية تتضافر في رحلة الإنتاج الفني الذي استند، استعار ، استلهم، وظف ... مواد أرشيفية ماضوية من أجل إنتاج معان جديدة لها عبر توظيف مبانيها ومعانيها. وسنجد ذلك أيضًا في المنتج المعرفي للمؤسسات موضوع هذه الورقة.
ثالثا –سياق إنتاج المعرفة – ثلاثة أمثلة
حينما ينظر المرء إلى أرشيفات المؤسسات الثلاث (ساقية، رواق، ماندلون) سيجد نفسه أمام مواد متعددة غنية وذات أبعاد اجتماعية وتاريخية وفنية متنوعة، تتجلى عبر أشكال تعبير متعددة؛ عملية وبصرية ولغوية، وهنا سأسلط الضوء على ثلاثة منتجات مطبوعة، اثنين موجهين للجمهور (ككتابين) والثالث تصور (كوثيقة) موجه في الغالب إلى شركاء مستقبليين محتملين.
-
أرشيف الصور الفوتوغرافية/ أرشيف استديو روحي أبو حماد
-
أرشيف التاريخ الشفوي/ ريف بلا مدينة
-
أرشيف الطبيعة/ ساقية: فنون علوم زراعة
حينما ننظر إلى هذه المصادر الثلاثة، فإنها تشكل مرجعية اجتماعية تاريخية بيئة متشابكة ومتداخلة حيث البشر والحجر والشجر معًا يتفاعلون، وينتجون حيواتهم ومعانيها في أزمنتهم وأمكنتهم/ أمكنتنا. وهذه المواد الموروثة هي تعبيرات لما نشأ وينشأ من علاقات ومظاهر وظواهر لهذه العلاقات. ومع ذلك، فهناك ما يبدو ملفتًا للنظر، وإن بدا صدفة، ويتمثل فيما تعنيه "ساقية" من فضاء بيئي معرفي ينتج معانيه عبر حركة البشر وأفعالهم. وأرشيف قصص "رواق" الذي ينتج معانيه عبر التواصل الرمزي/ اللغوي، أما أرشيف صور "مختبر ماندلون للفنون التجريبية" أو معرض (مكتشف في موقعه) فهو يُنتج المعاني عبر التواصل البصري/الأيقوني. إن هذه الأنماط الثلاثة من تمثيل للعالم (الشكل 1) ، هي التي تلد متدرجة مع الأنسان في محيطه الاجتماعي منذ ولادته؛ الحركة، فالصورة، فالصوت. ثم تغدو متضافرة بدرجات مختلفة في حياة الإنسان، وهذه هي الأنماط الثلاثة التي يوظفها البشر في ترميز المعاني وفي تفكيك الرموز في مجالات حياتهم المختلفة. وهي نفسها، بطبيعة الحال، التي يوظفها الفنانون في أعمالهم الفنية باختصاصاتهم مختلفة. ومن الملفت أن الإنسان حينما يتواصل مع تعبير ما، فإنه يوظف الفعل والرؤية واللغة في تضفير التعبير وفي إنتاج المعاني، وبهما يقوم "الحوار" .
الشكل 1
-
في أرشيف التاريخ الشفوي ل رواق؛ هناك قصص كثيرة لأشخاص كثيرين وهي مسجلة، صوتيا و/أو كتابيًا، وهي في معظمها قصص عفوية، تقوم على السجية، مع أنها تقاد وتتركز عبر الذين يجرون المقابلات وعبر توجيههم لها بأسئلتهم وملاحظاتهم. وهذه القصص على بساطتها فإن وراء ما أظهره السرد قصص أبطنها السرد. وهذه مساحة غنية تتيح البحث والتقصي والتخيل.
-
أما في أرشيف ساقية الطبيعي، فهو أرشيف بيئي إنساني وإن "بدا غير مؤرشف" في جزء منه. إن الأرشفة هنا تبدو في تحولات المكان بأشجاره وترابه وحجارته وصخوره ونباتاته وكذلك بخطوات وآثار من عبروه عبر التاريخ من بشر وحيوانات، وفي جزئه الآخر، ما أنتجه من قصص وحكايا وأفكار ومقاربات ورؤى ظهر بعضها في كتاب "ساقية".
-
ولعل أرشيف ماندلون سيبدو "توثيقًا" لمراحل تاريخية في حياة مدينة الخليل، وما تمظهر فيها من سمات، أخبرتنا به العين، وما ستخبرنا عنه التحولات الاجتماعية والسياسية والقيمية عبر محطات الأرشيف من ناحية، وما يمكن أن يخلقه من حوارات راهنة توازن بين ما نقرأه فيه، وما نقرأه من حياة تُرى في واقع المدينة. فما بين الصور وما بين خارجها كثير مما يمكن للتأمل أن يفيض به.
ولعلنا إذا ما اقتربنا أكثر مما أنتجته هذه المؤسسات الثلاث من معرفة متعددة الأشكال والوسائط سيسمح لنا برؤية توجهات "استقصائية" يمكن البناء عليها في توظيف الأرشيفات في سياقات تعلمية ووظيفية إبداعية، ولنأخذ ثلاثة أمثلة في هذه السياق يمكن لها أن تؤسس توجهات لعمل مستقبلي: ويمكن لنا أن نتخذ منها أرضية لعمل نوعي مع قطاعات مجتمعية مختلفة، وفي هذا الإطار يمكن تقديم استعراض سريع تمثيلي لبعض هذه المكونات من خلال ثلاثة مصادر، وهي كتاب "ريف بلا مدينة" ، وكتاب "ساقية: فنون علوم زراعة"،
ففي كتاب "ريف بلا مدينة"، سنجد مثلا:
-
جولات الرسم الحر وتوثيق التاريخ الشفوي (الخريطة المغيبة/ نحو سرديات بديلة لريف القدس)
-
القصص الشفوية وتكوين "الصورة الكاملة" وردة الفواخرجية نموذجا (الجيب – جغرافيا الحرف في القدس بين الفضاء الريفي والمديني)
-
الطريق من البيت إلى المدرسة خلال الفترة ما بين 1945 - 1981(قرية قلنديا/ استعادات: الطريق من البيت إلى المدرسة)
-
مذكرات - المشي والكتابة "وادي بيت حنينا : من مركز حياة لهامش معزول)
-
سجل فوتوغرافي - معرض الخريطة المغيبة
أما في كتاب "ساقية/ فنون ، علوم، زراعة"، فسنجد مثلا:
-
تخيل مكونات التربة ومنحها صوت (تقرير اجتماع مجلس تربة البدر، اجتماع الطبقات الغذائية)
-
من صور الأرشيف العائلي إلى الذكريات إلى المذكرات، (قصة مصورة عن حب الأرض)
-
المقابلة مع أهل الفنان (الحداثة، الرسم الفلسطيني وداود زلاطيمو)
-
البيت الذي زرته (قصة بقلم دينا عمرو)
-
عن ساقية (نبذة جيو-زراعية)،
-
الترميم – تجربة واقعية في إنتاج المعرفة (الترميم والاحتفاء بمرور الزمن)
-
وصفت غذائية ونباتات برية (اللوف، الزوزو، الرمانية، الفول البلدي، مربيى الخشخاش، الخروب، )
-
حبر العليق، حبر القيقب،
-
مشاريع إبداعية فنية :
-
معهد ماساتوستس للتكنولوجيا: (طوب وبذور طبيعية، مقعد موسيقي، سرج ظريفة، هرم معياري، صب زجاج، الشاهد، مجسات السناسل، المرحاض الجاف البانورامي، كرات البذور، القصور، ورق لعب قصصات النباتات الأصيلة، تصاميم بلاط مستوحاة من خارطة التربة،
-
جامعة ويست منستر: (مات ليدويدج/ استنساخ المنزل العلوي في ساقية، شبكة ثمار العمل،
-
التصوير الفوتوغرافي/ نزهة في التلال (ألبوم الصور)
-
الإقامات الفنية
وفي وثيقة "أرشيف روحي أبو حماد: نظرة متعددة الأوجه للمشهد التاريخي والأنثروبولوجي في الخليل" سنجد أفكارًا أولية حول
-
البحث / الأنثروبولوجيا والحياة اليومية
-
المواقف الاجتماعية
-
الملابس والموضة وتحولات الأزياء
-
الأمكنة وفضاءات التصوير
-
المهن
-
العسكر
-
السياسة والمجتمع
-
تحولات تقنية في التصوير
-
التصوير والفن
-
السينما/ المسرح/ الأدب/ الموسيقى والمصور الفوتوغرافي
-
الزراعة/ العنب والمصور
أما معرض (مكتشف في موقعه) ففيه
-
إعادة اكتشاف مدينة الخليل عبر موقع "تل الرميدة من خلال تجارب إبداعية تحولت إلى معرض.
وإذا حاولنا التعمق قليلا في "الصيرورة" التي عبرتها هذه المشروعات، فسنرى بأنها تلتقي إلى حد كبير مع جوهر الممارسات الإبداعية التي تدمج المعارف والمهارات والتقنيات والقيم الإنسانية معا في سياق مشترك. وبالتالي يمكن الاستنباط منها ما يمكن لنا التركيز عليه لاحقا، فهي مشروعات:
-
تدمج بين البحثي والفني والمعرفي والأدواتي في سياق مشترك، وتلعب الفنون دورا محوريا في تضفير التكاملية بين المعارف المختلفة ومجالات الحياة المتعددة
-
تركز على التفكير النقدي، والإبداع، والتخيل، والابتكار.
-
تركز على التواصل والتعاون والمشاركة في السياق الاجتماعي.
-
تسهم عبر وسائط الفنية المختلفة في إنتاج فهم متجدد، والتعبير عن ذلك الفهم وتداوله من خلال الحكي ورواية القصص والتواصل الشفوي، والكتابي، والبصري، والحركي.
-
تتفاعل مع منظورات مختلفة وتستجيب لوجهات نظر متعددة.
-
تتيح فرصًا لتحديات غير مقررة مسبقا وتتطلب التجاوب معها.
-
تأخذ بعين الاعتبار المشاعر الإنسانية والأفكار والممارسات، وتتعامل معها كوحدة كاملة.
-
توظف التقنية والوسائط الرقمية المعاصرة بصور متعددة.
وعبر هذا الاستنتاجات، يمكن لنا استنباط مفاهيم كثيرة، وسأركز هنا على أربعة مفاهيم أساسية منها، هذه المفاهيم التي سنجدها بصور متعددة في المنتج المعرفي للمؤسسات الثلاثة وصيرورته، ويمكن لها في الوقت نفسه من أن تشكل إطارًا معرفيًا تطبيقيًا لأية مقاربة مستقبلية محتملة مع الأرشيفات وما ينتج عنها. وهذه المفاهيم الأربعة هي: العلائقية، الاستقصاء، الانخراط، الحوارية. وعبرها يتضافر ما هو "أرشيفي بكر" مع المقاربات البحثية/ الفنية/ العملية التي أنتجت خلال السنوات الماضية، وبخاصة فيما أشرت إليه، وبالتالي فهي في معظمها مشروعات بحثية أو رؤيويه ذات طبيعة عملية/ مجتمعية. ولعل اللجوء إليها وتوظيف الخبرة التي راكمتها مع المصادر المتوافرة سيعمل على تعميق التواصل مع المجتمع وفئاته المختلفة وفي إنتاج معرفة؛ أصيلة ومتجددة في الوقت نفسه إذا ما تم استلهامها كصيرورة وكمنتج. إن مقدمة كتاب "ريف بلا مدينة" تؤكد هذه الفكرة " خلال المشروع تم تطوير ثلاثة مشاريع بحثية في مناطق مختلفة في ريف القدس: "جغرافية الحرف بين الفضاء المديني والريفي وادي بيت حنينا : من مركز حياة إلى هامش معزول استعادات الطريق من البيت إلى المدرسة" . تموضعت تلك المشاريع في الجيب وبيت حنينا ، وقلنديا على التوالي. سافر كل مشروع عبر المناطق الجغرافية المحلية فعلياً وافتراضياً، وكان جوهر كل مشروع أن يكون على مسافة قريبة من مجتمع الأهالي الذين رافقوا الباحثين في كل مرحلة من مراحل عملهم تبادل الأهالي في البلدات الثلاث معارفهم بسخاء، وفتحوا منازلهم، وقدموا عائلاتهم وشبكاتهم، قصصهم وخبراتهم. لقد كانوا أيضاً ، شركاء فعليين في البحث، حيث ساعدوا في تنظيم الفعاليات والنشاطات ودعوة الناس للمساهمة في العمل في محاولتهم فهم القدس بالطريقة التي عاشها أهلها قام الباحثون بتطوير أدواتهم لرسم الخرائط، وهذه الأدوات لم تكت بالضرورة ذات صلة بطبيعة المعرفة التي ينتجونها ، والتي هي في الغالب غير علمية لا تتبنى منهج الكمي ولا النوعي . ولكنها المعرفة التي تعترف بالذكريات الشخصية، ونصوص الأدب الشعري، ووصفات الطين غير الموثقة والمشي والمسارات التي لم يتم تعقبها ." (ص 11)
رابعًا – أربعة مفاهيم
-
العلائقية
اعتاد البشر على توظيف "الشجرة" كمجاز تراتبي؛ يبدأ من نقطة وينتهي في نقطة وبهذا تتحقق دورة النماء، ولعل ذلك ينطبق كتمثيل على كثير من أوجه الحياة البشرية، لكن الحياة البشرية لا يمكن تمثيلها عبر "الشجرة" وحسب، بل يمكن توظيف نبتة "الجذمور" كمجاز أيضًا يمثل الوجود الإنساني بمكوناته وعناصره وعلاقاته وقيمه ومفاهيمه وأفعاله وتحولاته.... (الشكل 2) الخ. ولعل هذا التمثيل (الجذمور) (الشكل 3)أقرب للحياة الإنسانية من حيث أن الحياة بعلاقاتها وتأثيراتها متشابكة ومعقدة التركيب، ويمكن لأي شيء أن يكون بداية أو منتصف أو نهاية، وبهذا المعنى، فلا بداية مطلقة ولا وسط نهائي ولا نهاية مطلقة، فكل نقطة في الوجود يمكن أن تكون مركزا ويمكن أن تغدو هامشا في ضوء تحولات العلاقات التي تنتج في سياق ما، وينطبق ذلك على الحياة الاجتماعية بشكل كبير.
Figure 1الجذمور/الشجرة
شكل 3
يعبر جيل دلوز عن ذلك بالقول: "إن الجذمور لا يبدأ ولا ينتهي. فهو موجود دائماً في الوسط، بين الأشياء، إنه كائن بيني (intermezzo)، فالشجرة تفرع، لكن الجذمور تحالف، مجرد تحالف فقط. وتفرض الشجرة فعل الكينونة (être)، لكن نسيج الجذمور هو الروابط والعطف (و... و... و...). وهناك داخل هذه الروابط قوة كافية لخلخلة فعل الكينونة واجتثاثه. إن أسئلة من قبيل: إلى أين أنتم ذاهبون؟ ومن أين جئتم؟ وما هي وجهتكم؟ لا فائدة من ورائها. فمسح الطاولة والانطلاق أو الانطلاق ثانية من الصفر، والبحث عن بداية أو أساس، تتضمن تصوراً مغلوطاً للسفر وللحركة (المنهجية والبيداغوجية والتعليمية والرمزية.) لكن كلايست (Kleist) ولينز (Lenz) وبوخنز (Buchner)، لهم طريقة أخرى في السفر والتحرك، فهم ينطلقون من الوسط، ومن خلال الوسط يدخلون ويخرجون ولا يبدأون ولا ينتهون.32."
-
الاستقصاء
في مقابلة مع "نداء سنقرط" يقول "وما زلنا مستمرين في هذا الاستقصاء حول الكيفية التي يتأثر بها الخيال، وكيف نقوم بتدجين أنفسنا في الوقت الذي ندجن فيه المزروعات وكيف تتغلغل الزراعة الأحادية في المجتمع" (ساقية: 55 ) إن محاولة الاستقصاء هنا تقوم إعادة النظر فيما يحدث، وفي النظر إليه نقديًا بهدف إنتاج ممارسات جديدة تتجاوز "التدجين" و"الزراعة الأحادية". يلعب الخيال دورًا جوهريًا في العمل، بل هو دعوة له، وبهذا المعنى فإن "التخيل الاستقصائي" يقع عند تضافر الرؤية والشعور معا حيث يتشابك العقل مع العالم، فالتخيل هو تفكير بطرق أخرى للرؤية والسمع والشعور والحركة، ويفضي إلى تأمل وتعبير خاصين يفضيان إلى إنتاج المعنى. وبهذا لمعنى فإن هذا الاستقصاء التخيلي هو فعل فضولي يتفاعل عبره الخيال مع العالم لإنتاج فهم جديد وبالتالي الخوض في طرق جديدة في الحياة تقوم على الاستكشاف والتحقق والصيرورة والإبداع (الشكل 4 ) ولعل (الشكل 5) يوضع كل الأفعال التي ينبغي القيام بها لتحقق الاستقصاء
شكل 4
شكل 5
-
الانخراط
الانخراط في نشاط إبداعي أمر أساسي لتقدم الأفراد والمجتمعات، وبالتالي ينبغي له أن يكون في متناول الجميع وخاصة أولئك الذين لديهم فرصة أقل من غيرهم في المجتمع. فما الذي نعنيه بالانخراط هنا. في فصل بعنوان (The Arc of Engagement)، من دراسة بعنوان (Making sense of Audience Engagement)، يبدأ باقتباس لـ روب بيليز: "إن تقديم عمل فني يأخذ أسبوعاً، أما عملية الخلق، فتأخذ 18 شهراً. كيف يمكن لأسبوع أن يكون كافياً لفهم عمل أخذ 18 شهراً لخلقه؟". هناك توجهات كثيرة تبنى لتحديد طبيعة انخراط الجمهور بالفعالية الثقافية، وكل طبيعة انخراط ونوعيته لها علاقة برؤية فكرية، وربما فلسفية، تتعلق بطبيعة العلاقة بالجمهور، والتوقعات من هذه الانخراط، إن الدراسة المشار إليها آنفا ترسم ما يسمى بـ "قوس الانخراط"، وهذا القوس يمثل محطات يعبرها الجمهور، طبعاً ليس بالضرورة أن يعبرها جميعها، ولكن يمكن اعتبارها كمراحل قد تسهم في "تعميق الفهم وإثراء التجربة". وتبدأ عملية عبور المراحل من اللحظة الأولى التي تصل معلومة العرض/المعرض/الفعالية للجمهور، ويمكن تسميتها بمرحلة "الإنشاء/التأسيس"، وهي ترتبط بتسويق النشاط وتقرير حضوره من قبل جمهور ما. أما المرحلة الثانية، فكأنها مرحلة الاستعداد للنشاط، وتمثل "التحضير المكثف"، وهو كل ما يمكن أن يُبحث فيه قبل التواصل المباشر، وجهاً لوجه مع العرض/المعرض، وقد يستغرق دقائق وربما أياماً، ويتضمن ربما قراءات مسبقة، أو مشاهدة أعمال سابقة، أو بروفات راهنة، أو الولوج إلى الصفحة الإلكترونية، أو حتى الاطلاع على بروشور المعرض في الدقائق الأولى للحضور. يلي ذلك المرحلة الثالثة والمتمثلة في "التبادل الفني"؛ وهي التواصل المباشر مع العمل الفني أو الفعالية الثقافية أو العلمية ... أما المرحلة الرابعة، فهي المرحلة التي يتم فيها التفاعل كـ"ما بعد العملية"، حيث يمكن للمعاني أن تتشكل وتتعمق بما يشمل ذلك من نقد وتحليل واستقراء ومقارنة وموازنة ... وقد يكون ذلك مبنياً عبر سياقات معدة ومخططة سلفاً، وربما ينشأ تلقائياً، وهنا تبدأ الخبرة والتجربة في التعمق واتّخاذ أبعاد جديدة؛ سواء فيما يتعلق بصنع المعنى، أو تقليب المشاعر، أو مناقشة الرؤى المختلفة... . وينتهي القوس بالمرحلة الخامسة، وهي التي تسميها الدراسة بــ "صدى الأثر"، وهذا يرتبط بما يحمله معه الجمهور، وما يتذكره، وما يتلاشى من الذاكرة، وممكنات انعكاسه بصور مختلفة في المستقبل. إن هذه المراحل المختلفة لا تجري على هذا النحو فقط، ولكنها قد تتداخل أيضاً. المهم هنا، أن هناك إمكانية للتعامل مع هذه المراحل الخمس، وابتكار فعاليات وسياقات يمكن لها أن تعمق كلاً منها (انظر إلى الشكل 6)
شكل 6
-
الحوارية
"إن الوسيلة التي أبتدعُ فيها نفسي هي عن طريق السعي. أخرج إلى العالم لأعود مع الذات" تلخص هذه العبارة كل ما يتعلق بالأنا والأخر، إن سعي الإنسان وتماسه مع العالم واشتباكه معه هو الذي يمكن له أن يفضي إلى تحقيق الذات الفردية؛ الفردي يقتضي الجمعي ويتطلبه، وعبر هذا التلاقي ينشأ "الحوار" تشتبك المنظورات وجهات النظر عبر أنماط تمثيل العالم "الحركة والصورة والصوت" التي عبرها تنتج الفكرة، والفكرة تحتاج كلمة تجسدها، وفي الحوار"تصبح (الكلمة) مملوكة للمرء فقط حين يملأها المتحدث بنواياه الخاصة، لكنته الخاصة، عندما يخصصُ الكلمة، ويكيّفها مع نيته الدلالية والتعبيرية. قبل لحظة التملك هذه، لا توجد الكلمة بلغة محايدة وغير شخصية (فهي ليست، بعد كل ذلك، من القاموس الذي يحصل المتكلم منه على كلماته!) ، بل هي موجودة في أفواه الآخرين ، في سياقات الآخرين ، تخدم نوايا أناس آخرين : فمن هناك ينبغي على المرء أن تأخذ الكلمة ، ويجعلها كلمته" إن الطبيعة الحوارية للتجربة الإنسانية تغدو عنصرا أساسيا لفهم الواقع وتحويله. في العلاقات الإنسانية في مجالات الحياة جميعها يبنى فضاء الحوار في سياق اجتماعي عبر عملية تفاعلية تفترض تصادم أفكار ومنظورات اجتماعية. إن الإنسان يخوض باستمرار حوارا اجتماعيا دائما فهو يشارك فيه "بكليته وطوال حياته كلها: بعينيه، بشفتيه ، بيديه، بروحه، بروحانيته، بجسده كله." فكُلُّ مَعرفةٍ جديدةٍ هي مَعرفةٌ حواريةٌ؛ وهيَ تقومُ على تَفاعلٍ مَا بينَ فكرةٍ وأُخْرى، فنحنُ نَعرفُ ضِدَّ معرفةٍ سابقةٍ، وذلكَ بتهديمِ مَعارفَ قلقةٍ، غَيرِ مستقرَّةٍ تماماً، تَساؤلاتهُا أكثرُ حضوراً منْ إجاباتِها. إنَّ المعرفةَ الجديدةَ تَنتجُ عنْ تفعيلِ ما هوَ غيرُ ثابتٍ أو يَبعثُ على الشَّكِّ، أو ما كانَ راكداً وواجهَ ما يحرِّكُ ركودَهُ، وهذهِ العمليةُ المعرفيةُ تَحتاجُ إلى التَفكيرِ، والتَفكيرُ لا يَقومُ دُونَ لُغةٍ "فالتفكيرُ يُوْلَدُ عبرَ الكلمَاتِ" (Vygotsky, 1987 :282). ولكي يتحقق ذلك فإنه يتطلب عبور تجربة التعلم وتطوير القدرة؛ (الشكل 7) يشير إلى العناصر الأساسية التي يتخلق عبرها الحديث الحواري، ولعل ذلك يمنحنا الانتباه إلى حدوث ذلك في صيرورة التجربة الإبداعية.
شكل 7
خامسا - الفنون مقاربة تكاملية
حينما ننظر حولنا، فإننا لا نكاد نجد شيئًا في حياتنا في حياتنا، سواء اعتبرناه فنا أم لم نعتبره كذلك لا تندمج فيه الفنون والعلوم والأدوات معًا في سياق متكامل يصعب فصله عن بعضه البعض، مهما كنت تعاريفنا للفن والعلم والتقنية؛ من أضيقها إلى أكثرها اتساعًا. ولهذا فإننا سنجد الفن في كل الموضوعات والمجالات... سنجد الرياضيات حين نقيس ونرسم، والهندسة حين ننحت، والكيمياء حين نمزج الألوان، والفيزياء حين نبتدع عملا فنيا تركيبيا، والأدب حين نرسم صورا مرافقة للكلمات، والتاريخ حين نراجع الأساليب الفنية عبر التاريخ، ونطور مهاراتنا في هذا الشأن حينما نكتب عن الفنون، ويمكن لنا أن نحل مشكلات بصرية معقدة عبر إنتاج أعمال فنية... . إن الفنون والعلوم والتكنولوجيا لا يمكن فصلها عن بعضها البعض. وحينما نتحدث عن المقاربات الفنية كمجال تعلم فإننا سنجد أنفسنا أمام ثلاثة أنماط من المقاربات؛ الأولى حيث يكون الفن موضوعا بذاته، والثانية حينما يكون الفن مادة داعمة، إثرائية، مساندة لمجال آخر، والثالثة حينما يكون الفن مدمجًا ما بين علوم ومعارف أخرى، (الشكل 8) ويبدو كل منها واضحًا جليًا في المنتج الفني. وفي الأحوال الثلاثة فإن التكاملية بين الفني والعلمي والتقني ستبقى حاضرة في البينة العلائقية.
شكل 8
إن التجربة الفنية في كل أحوالها هي تجربة إنسانية عميقة وذات مغزى؛ فالفنان يعبر رحلة تتضمن: التأمل، التفكير، الاستقصاء، التساؤل، التجريب، التعليم، الاختبار، المغامرة، الاستعادة، الإعادة، المحاورة، التعبير، .... . وتتجلى هذه المفاهيم جميعها بصورة متضافرة حين يكون الفن مندمجًا كمشروع تكاملي حيث سيغدو نهج تعلم وتعليم، يقوم فيه المشتركون ببلورة فهم، يعرضونه عبر شكل فني، ينخرط المشتركون من خلاله في عملية إبداعية تصل الشكل الفني وحقول المعرفة والموضوعات ببعضها وتلبي الأهداف المتنامية لكليهما.
فحينما ننخرط في مشروع معرفي يقوم على دمج الفنون فإننا ننتج معاني لمفاهيمنا من خلال أشكال تعبير فنية ننخرط فيها من حيث هي عملية إبداعية تربط الأشكال الفنية وحقول المعرفة والموضوعات على اختلافها مع بعضها، وعبر هذا الاندماج فإنها تحقق الغايات المعرفية لكليهما. واستنادا لهذا المنظور نستطيع أن نرى الفن كمجال للاستقصاء. هذا يعني أنه طريقة لاستكشاف العالم وتفسيره وتخيله، وهو يدور حول الأفكار: الاستكشاف ، التأويل، تداول المفاهيم. ويعمل من خلال التعبير الجمالي والعاطفي. يتم تفسير الأفكار ونقلها بطرق تجريبية وجذابة. الفن يربط على مستوى شخصي عميق. وهو يتغير دائما، ويغير أيضًا. وهناك الكثير من الدراسات والتجارب التي تتناول الفن كسياق لتحقيق التغيير الاجتماعي؛ حيث يمكن أن يطرح القضايا ويعبر عنها بصور إبداعية ويحفز على التفكير والتخيل والفعل ( أنظر الشكل 9)
خلق فضاءات للتعبير؛ لمجموعات غير محظوطة |
|
الفن والتغيير الاجتماعي |
|
ربط العالمين الداخلي والخارجي |
|
|
|
|
|
التقاسم والترابط توظيف الفن كوسيلة للتواصل مع أناس آخرين وأفكار أخرى |
|
أنْ يشعر كل واحد بأنه فريد ومساوٍ وفي الوقت نفسه التأكيد على أن اختلافاتنا تجعلنا موحدين في الإنسانية |
|
الشروع في عملية تغير، نمو، استشفاء لجميع المشاركين |
|
|
|
|
|
العملية تبئيرنا على المشتركين (هم المركز). ليست مسألة فن جيد أو فن رديء |
|
من أجل مجتمع أفضل أي مجتمع نريد؟ ما الذي تعنيه "أفضل"؟ من الذي يقرر؟ |
|
مشاعية الخلق تذكر بأن الفن الآن وبالأمس كان ابداعه مشاعيا في كثير من الثقافات في العالم، متاح ومتوفر للجميع. |
|
|
|
|
|
فن متاح إتاحة الفن للجميع وبخاصة للناس الذين هم في ظروف خطرة، يوفر فرصة لهم لاكتشاف لغتهم الفنية وتوظيفها |
|
Reference: Tandem project between Jonglirium e.V. (www.2wheels4change.com) and ArtCircleSociety.
|
|
التأثير على البيئة التعبير الإبداعي له أثر على البيئة من خلال تعزيز المشاعر والأفكار لدى الناس |
الشكل 9
إذا عدنا إلى أمثلة المنتج المعرفي للمؤسسات الثلاثة، فسنجد أنها جميعها تتمحور حول قصص الناس في مجتمعاتها الحية، وأعيد قصُّها بصور مختلفة. تظهر القصص مع كل عنصر، وتكمن أخرى في كل عنصر. وإلى جانب القصص وتجلياتها التعبيرية المختلفة، فهناك قصص الباحثات والباحثين والفنانات والفنانين والناس الذين انخرطوا في الرحلة البحثية و /أو الفنية مع التجربة نفسها ومكوناتها وعناصرها.
توفر القصص سياقًا للأفكار، للأحداث، للمواقف، للمنظورات، للعلاقات، للتحولات،... ويهذا المعنى، فإنها توفر لنا فرصة للفهم وإنتاج المعاني، من خلال إنشاء سرديات جديدة ومتجددة من خلال التفاعل مع هذا المصادر والتجارب واستلهماها في إنتاج معرفة جديدة، يرد في باب "الرؤية" ل "ساقية" ما نصه: "إننا نسعى إلى إنشاء سرد جديد حول علاقتنا بالأرض والإنتاج المعرفي والمشاعر" (ساقية ص 4) والقصص تحتاج إلى الخيال فهو الذي يمنحنا القدرة على أن نقصَّ ونروي وأن نكوِّن قصصنا: "إنّ طفلاً لم يحدث له أبداً أن روى قصّةً سيكون قوقعةً بشريّة. وإنْ لم يتخيّل فلن يكون بمقدوره أنْ يعْقِل. تبني القصص أذهاننا. ونحن في الحقيقة قصصُ أنفسنا. القصّة هي ما نعيش. ولأنّ القصص تربطنا بالعالم، فلا شكّ في أنّ الخيالَ الذي يبتكرُها منطقيّ ومنضبط- وكلّ ما في الأمر أنّ العقل يفوقه في ذلك قليلاً. " (بوند ، 2020 : 97) يمكن للقصص أن تكون محورًا للإنتاج الفني في صوره الحركية والبصرية والأيقونية، ويمكن توظيف القصص على جميع المستويات؛ البحثية، والفنية، والحرَفية، والتكوينية، والتطبيقية، والتداولية، والأدائية والتسويقية. (الشكل 10)
شكل 10
سأذكر مثالا من تجربتي هنا، في قصته "مذكرات حذاء" المستلهمة من ارتجالات درامية وزيارات ميدانية مبنية على حادثة تهجير جماعي لفلسطينيين من قرية يالو القريبة من القدس؛ يدع إبراهيم سالم (11 عامًا) الهاربين تائهين في تلال أريحا؛ المنطقة الشاسعة الجرداء القريبة من الحدود الفلسطينية الأردنية، الحذاء الذي باعه صاحبه لحاجته للمال، يهرب من صاحبه الجديد ويتتبع الهاربين، وحينما يكتشف تيههم، يظهر لهم ويخبرهم بأنه يعرف طريقهم إلى الأردن، يسيرون خلفه، ولكنهم فجأة يجدون أنفسهم في مكان قريب من قريتهم التي هُجِّروا منها. (إبراهيم سالم 11 عامًا)
الفتى القاص يُعيد الهاربين إلى منطقة قريبة من بلدتهم، يتحايل عليهم، يُرجِعُهم، كأنه يرفض فكرة الهجرة، هو يعتقد أنهم لن يستجيبوا له فيتحايل عليهم. لم يقبلِ الفتى ذو الحادية عشرة من العمر أنْ ترحل شخصياته، اخترع فنتازيا، لم يجد بشريًا يمكن له أن يقنع الناس بالعدول عما هم فيه من رحيل وتيه، كأنما الواقع المباشر لا يتيح ذلك، إذن، سيلجأ إلى الغرض، الغرض هنا كان الحذاء، حذاء المشي، الانتقال … الحذاء الذي صار يتكلم، الحذاء الذي أنقذ صاحبه مرتين: بالنقود عبر بيعه. وبالإرشاد المراوغ عبر طريق العودة. إنها الأجسادُ التي تُساق بـ "أقدارِها" وتقودُها "أحذيتها".
أقدم هذه المثال من مجموعة من القصص التي أنتجها أطفال شاركوا في مشروع إبداعي متعدد المكونات، وقد عبرت مجموعة الأطفال رحلة استكشاف وبحث وتساؤل وتجريب وابتكار وتعبير إلى أن وصل كل منهم إلى قصته المصورة بصورتها النهائية. وقد شملت هذه الرحلة:
-
لعب درامي يؤسس لمفاهيم حول التعبير القصصي ومكونات القصة.
-
زيارة ميدانية إلى بلدة "يالو" المدمرة في ضواحي القدس مع أهالي البلدة الذين أجبروا على تركها في العام 1967 وبرفقة أبنائهم وبناتهم.
-
استمع الأطفال إلى قصص الأهالي التي رووا فيها ما جرى في البلدة في العام 1967، وسألوا وناقشوا.
-
اشتغل الأطفال على القصص الشفوية التي حملوها معهم من الزيارة معا عبر توظيف الدراما لاستكشاف منظورات مختلفة ووجهات نظر، وممكنات السرد... الخ.
-
من المنتج الدرامي أنتج كل منهم قصته، كل قصة ارتكزت على شيء ما من القصص الشفوية التي رويت لهم، لكنهم ضمنوا رؤيتهم للقصص، فلم يعيدوا تكرار القصص التي استمعوا لها بل أضافوا لها أبعادا جديدة تعكس أفكارهم.
-
بعد أن أنجز الأطفال نصوصهم اشتغلنا على تحريرها وتدقيقها لغويا.
-
طبعوا قصصهم، واشتغلوا مع فنانين من أجل بناء رسومات لقصصهم.
-
شاركوا القصص مع الأطفال في المجموعات الأخرى وتحاوروا معهم.
ولا زلت أستعمل على هذا المثال بين وقت وآخر، كما أفعل الآن، للإشارة إلى الممكنات التي تحملها "الأرشيفات" ومنها الذاكرة الشفوية التي حصلوا عليها، واشتغلوا عبر استقصائها ومحاورتها في إنتاج أعمال قصصية إبداعية. من الواضح عبر تسلسل محطات الرحلة، التجارب والخبرات التي مروا بها وكيف تحولت إلى معرفة جديدة عبر منتج قصصي: جربوا، زاروا، تساءلوا، حاوروا، عبروا بالكلام والكتابة والرسم، .... ولعل أبرز ما في هذه التجربة أن تفاعل الأصوات المتعددة أنتج أعمالا أدبية متعددة الأصوات أيضا.
وحينما أتحدث عن القصص فلأنها تمنحنا ممكنات هائلة لأن القصص تشكّل صورة متخيلة لصورة الواقع، ومن خلالها يمكن لنا أن نستكشف هذا الواقع وأن نسائله وأن نسهم في تحوله.
ومن المهم أن ندرك بأن الأرشيفات كأمكنة أو صور أو كلمات يمكن لها أن تمنحنا قصصنا، ويمكن لنا أن نمنحها أيضًا قصصًا، فكما هي تسكب في شراييننا حكاياها يمكن لنا أن نسيل في روافدها قصصنا منها ومعها وفيها.
سادسا - مقاربات ممكنة
"الحقيقة لا تولد ولا يمكن العثور عليها داخل رأس فرد، إنها تولد بين الناس الذين يبحثون جماعيًّا عن الحقيقة، في عملية تفاعلهم الحواري"
(باختين)
تتعدد أشكال المقاربة المعرفية للأفراد والجماعات، ولا يمكن لنا الإحاطة بها جميعها في هذا الإطار، ولكن دعونا نستعير من عالم التدريس النموذج التالي الذي يبين أثر التوجهات التي يمكن عبور المرء بها ليحصل على تجربة تتحول إلى خبرة فمعرفة فممارسة جديدة (الشكل 11)
شكل 11
سنلاحظ بأن التوجهات الأحادية الفعل هي أقلها خبرة ومعرفة وفيها يتلقى الطفل التعليمات ولا يشارك كثيرا في صنع القرارات، بينما في التوجهات المرتبطة بالاستقصاء والعمل على مشروعات (متخيلة أم واقعية) فإن الطفل ينتج معرفة خبر تجربة عميقة متعددة الأبعاد والعلاقات. وإذا رجعنا إلى منهجيات العمل في إنتاج المؤسسات الثلاثة يمكن لنا:
-
الاستنباط من تجاربها منهجيات عمل مع المجتمع بفئاته المختلفة تتوافق مع هذه الرؤية التي هي بالأصل مستنبطة من هذه المشروعات.
-
محاورة المنتج المعرفي وكذلك المواد الأرشيفية التي استند إليها والوصول إلى استخلاصات أخرى، وإنتاج تعبيرات فنية مستلهمة منها أيضأ.
ما الذي يمكن عمله في هذا السياق؟ يمكن الشروع في مراجعات مع بعض أو كل من شارك في الأبحاث المنشورة في الكتابين أو في الإنتاج الفني للمعارض، والعمل على تصميم بيداغوجيات ذات طبيعة تطبيقية ملائمة لفئات متعددة وأعمار مختلفة مستوحاة من تلك التجارب؛ وتصميمها لسياق أخرى، بحيث تكون ملهمة لتجارب أخرى وليس نسخا منها، مثلاُ
-
جولات الرسم الحر وتوثيق التاريخ الشفوي
-
الجيب – جغرافيا الحرف في القدس بين الفضاء الريفي والمديني
-
قلنديا/ استعادات: الطريق من البيت إلى المدرسة
-
مذكرات - المشي والكتابة "وادي بيت حنينا
-
سجل فوتوغرافي - معرض الخريطة المغيبة
-
تقرير اجتماع مجلس تربة البدر، اجتماع الطبقات الغذائية
-
قصة مصورة عن حب الأرض
-
الحداثة، الرسم الفلسطيني وداود زلاطيمو
-
البيت الذي زرته
-
الترميم والاحتفاء بمرور الزمن
-
حبر العليق، حبر القيقب،
-
مشاريع إبداعية فنية
-
طوب وبذور طبيعية
-
مقعد موسيقي
-
سرج ظريفة
-
هرم معياري
-
صب زجاج
-
الشاهد
-
مجسات السناسل
-
المرحاض الجاف البانورامي
-
كرات البذور
-
القصور
-
ورق لعب قصصات النباتات الأصيلة،
-
تصاميم بلاط مستوحاة من خارطة التربة،
-
مات ليدويدج
-
استنساخ المنزل العلوي في ساقية
-
شبكة ثمار العمل
-
نزهة في التلال (ألبوم الصور)
-
إقامات فنية
-
الصور الفوتوغرافية: البحث / الأنثروبولوجيا والحياة اليومية ، المواقف الاجتماعية، الملابس والموضة وتحولات الأزياء، الأمكنة وفضاءات التصوير، المهن، العسكر، السياسة والمجتمع، تحولات تقنية في التصوير، التصوير والفن
-
إعادة اكتشاف مدينة الخليل عبر موقع "تل الرميدة من خلال تجارب إبداعية تحولت إلى معرض.
ويمكن الشروع في مشروع واحد تجريبي مشترك بين المؤسسات لتطوير خبرة حول الرؤية والمنهجيات، لأن هذا التوجه المطروح هنا يقوم على فكرة المشروع مهما كان بسيطا ومحدودا زمنيا، فالمسألة في أنه "مشروع" يمكن أن يكون ملصقا بسيطًا أو قصة قصيرة أو زراعة نبتة واحدة ويمكن أن يكون معرضا فنيا تركيبيا، أو الاعتناء بحقل أو إنتاج مصنوعة ما .... المهم أننا نتجاوز مجرد الأنشطة والفعاليات المشظاة، والتي تنحصر في الغالب في كونها تجربة لا تتحول إلى معرفة من خلال التدبر في الخبرة. لدينا ما هو ثري؛ 1) مصادر وأرشيفات. 2) منتج معرفي منشور أو معروض. 3) منتج مادي. تجربة واقعية. 4) خبرة إنسانية بحثية فنية جمالية وظيفية. 5) رؤية مجتمعية. 6) موارد.، ويمكن، في ضوء ذلك، محاورة المصادر وتحويلها إلى تعبيرات ذات معان وتوظيف الوسائط المناسبة لتداولها بين الناس. (شكل 12 )
شكل 12
إضاءة ثانية
صورة أولى:
في فيلم "حب أرضي" الذي يتناول قضية نقل بذور من سوريا ولبنان والنرويج تلجأ المخرجة جمانة مناع إلى الدمج بين الفن والزراعة والموسيقى والحداثة، وقد استندت إلى مصادر متعددة من بينها يوميات فلاحات سوريات اللواتي رافقتهن إثناء عملهن التي غدت ذات نبرة شاعرية في الفيلم. تقول مناع في مقابلة معها:
"نعم أبحث عن شخصيات في التاريخ كانت تحكي بطريقتها عن الحاضر الذي نعيشه، والتي كانت ترى نتائج التحولات حينذاك وأثرها على المستقبل الذي نعيشه اليوم، كما أن هذه الشخصيات هي صاحبة رؤية لها أهميتها اليوم، أقول رؤية وقد يكون تناقضا أيضا؛ التناقض الذي يعيشه التاريخ والذي يتواصل بأشكال متنوعة. أشعر أن العودة إلى التاريخ تساعد على فهم الحاضر بشكل أعمق، وتمنح إمكانيات تخيل للمستقبل."
صورة ثانية:
يستهل د. أحمد حرب روايته "مواقد الذكرى" بالقول:
"لمع ضوء واختفى، ودقَّت نبضات قلبي، وهبّت ريح خفيفة حرَّكت أوراق الشجر...
وَلَدتك في يوم حصاد قائظ تحت شجرة السدرة في قاع خلة أم سدرة، قالت أمي. كانت بدوية، الله يذكرها بالخير، ترعى الغنم وتجمع سنابل القمح التي تخطئها مناجل الحصادين. سمعتْ استغاثتي، وجاءتني، شدت أزري وداوتني وبشرتني بالصبي، ابشري يا عميشة، أجاك عيّل سمّيه على اسم الرسول." ويأتي هذا على لسان الأم التي تروي لابنها. ويخبر القارئ "هذا ما كنت أعرفه من أمي عن يوم ميلادي، ولم أنتبه إلى التناقض بين رواية أمي وتاريخ ميلادي في السجل الرسمي 1951/11/25، إلا عندما عثرت بالصدفة، وأنا أفتش في صندوقها على قصاصة ورقة بحجم إصبعَي السبّابة والوسطى، .." ويبدأ في التساؤل ومحاولة إيجاد معنى ما لتناقض التواريخ. ثم يلجأ إلى ذاكرته: “كنا صغارًا نلعب في زقاق الحارة نصنع كرة من القماش بقايا ألبسة عتيقة رماها أصحابها في زوايا الزقاق وغدت موئلا للنمل والبراغيث.". (حرب، 2023 : 7، 9)
يقص أحمد حرب قصته:
-
عبر قص ما قصت الأم فهو سرد في القص
-
وعبر قص ما قصت الأوراق فهو تأويل
-
وعبر حادثات جرت معه، فهو التذكر كتخيل ماضوي
إن أحمد حرب يلجأ إلى التاريخ الشفوي – ما قالته له أمه (وهو يعتمد على الذاكرة في الوقت نفسه إلا إذا كان فد سجل ما قالته الأم وقتها) )، وإلى الوثائق العائلية ؛ ما أخبرته إياه الأوراق (الرسمية :السجل الرسمي وغير الرسمية: قصاصة الورق) وإلى الذاكرة – ما يتذكره مباشرة من أحداث جرت في الطفولة وأفعال قام بها. وعبر هذه المرجعيات الثلاثة يضفر روايته، وهو عبر تضفيرها يضع صوته الخاص، ورؤيته المعاصرة، وبهذا فهو يأتي
خاتمة
"نحن نؤمن بأن التحرر يأتي من الارتباط مع الأرض. في الاقتراب من عمليات الأيض داخل الأرض. لا يمكننا نول الحرية دون أن نفهم من أين أتينا"
ساقية
"من يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملك المعنى تمامَا"
محمود درويش
مراجع وهوامش
المراجع
بالعربية
إرنو، أني (2023 ) السنوات، ت: مبارك مرابط، ط 1، منشورات الجمل بغداد - العراق
بشارة، خلدون (تحرير) مجموعة باحثين (2023) ريف بلا مدينة: القدس في خرائطية مغايرة، ط1، رواق، رام الله – فلسطين
بوند، إدوارد (2020) الحبكة الإنسانيّة/ ملاحظاتٌ حول المسرح والدولة. ت: نهى أبو عرقوب. ط 1 . مؤسسة عبد المحسن القطان – فلسطين
حرب، أحمد (2023) مواقد الذكرى. ط 1، الأهلية، عمان – الأردن
الحسن، لينا هويان (2012) الذئاب لا تنسى، ط1 دار الآداب – بيروت – لبنان
درويش، محمود (2012) لماذا تركت الحصان وحيدا . ط 3 الساقي، لندن
الكردي، وسيم (2018) التجربة الفنية من الإنتاج الفني إلى الإدراك الجمالي. ط 1 ، مؤسسة عبد المحسن القطان، فلسطين
مجموعة باحثين (2019) ساقية: فنون، علوم، زراعة. ط1 عين قينيا/ رام الله – فلسطين
بالإنجليزية
Bakhtin, Mikhail (1992) Problems of Dostoevsky's Poetics, 106. University of Chicago Press,
Bruner,J. S.: 1966. Towards a Theory of Instruction, New York: Norton.
Vygotsky, L. S. (1987). Thinking and Speech. In R. W. Rieber, & A. S. Carton (Eds.), The Collected Works of L. S. Vygotsky (Vol. 1), Problems of General Psychology (pp. 39-285). New York: Plenum Press.
Tandem project between Jonglirium e.V. (www.2wheels4change.com) and ArtCircleSociety.
The audience experience: changing roles and relationships( http://www.unesco.org/new/ar/unesco/resources/the-hangzhou-declaration-heralding-the-next-era-of-human-development/ )