"هناك رسامون يحولون الشمس إلى بقعة صفراء،... وهناك آخرون يحولون البقعة الصفراء إلى شمس" (بيكاسو) 

 

(1)   الفن والوظيفة

إنه الفن؛ كسحر رافق الإنسانية منذ بزوغها، انعقدَ بإدراك الحياة فهماً وتلغيزًا "إن وظيفة الفنان هي دائماً تعميق اللغز" (بيكون)، وارتبط بالتواصل معها إيماناً وتجديفاً، واتصل بها تحريراً وتخديراً... . إنه الفن؛ السحر الذي لم تفلت منه حضارة إنسانية ولم يفلت منها، بدأ كطقس، كمتعة، كتحريض، كحث، كتهدئة، كصخب، كفرح، كحزن، كتأمل، ... وككل ما يمكن لعقل الإنسان وعاطفته أن يتفاعل معه.  يقول الفارابي في الموسيقى وفي وظيفة النغم الدّلالية: "ومن فصول النّغم الفصول التي بها تصير دالّة على انفعالات النّفس، والانفعالات عوارض النّفس، مثل: الرّحمة، والقساوة، والحزن، والخوف، والطّرب، والغضب، واللّذّة، والأذى، وأشباه هذه، فإنّ الإنسان له عند كلّ واحد من هذه الانفعالات نغمة تدلّ بواحد منها على عارض من عوارض نفسه، وهذه إذا استعملت خيّلت إلى السّامع مع تلك الأشياء التي هي دالّة عليها" (الفارابي، 1972: 1071).

 

(2)   الفن والطفولة

من منا لم يختبر الفن في صغره؛ خربشات طفولية، قرقعات إيقاعية، تقمص لأدوار، رقص على إيقاع أغنية؟ ... كلنا اختبر ذلك وغيره، بصورة أو بأخرى.  من منّا لم يدخل في متعة هذا اللعب الرمزي؟ من منّا لم يدخل في لذة هذا التحليق بأجنحة الخيال؟ هناك في ذلك الزمن الطفولي - كطفولة البشرية حين كانت في براءتها وينبعث منها بريق الكشف، ومتعة الاستكشاف، ويتلألأ وهج المغامرة في تكوين الرموز وفكها.  إن هذا البريق وذلك الوهج الملازمين للأطفال في سني حياتهم المبكرة ما يلبث أن ينحسر، فتأخذ الأسئلة والتساؤلات بالانحسار ليبدأ عالم يطالب الأطفال دوماً بالإجابات ... الإجابات الجاهزة والمعروفة والمألوفة والمتوخاة والمطلوبة ...  فتندحر الأسئلة شيئاً فشيئاً إلى أن تتلاشى أو تكاد.  وتغدو الرموز معلّقة بإحالة على معنى واحد، معنى مكرر، معنى طاغٍ، معنى لا يطيق سوى أن يكون هو هو، هنا وهناك... .  فيصبح الاتصال جاهز المعاني قبل أن يشرع، ولا يتحول هذا الاتصال الإنساني إلى تواصل بين "الأنا والأنا" وبين "الأنا والأنت" وبين "الأنت والأنت" وبين "الأنت والأنا".  إنها القطيعة وصلاً وفصلاً.

 

(3)   الفن كثقافة

إن ثقافة الإنسان هي ما يكتسبه من آخرين، وهو يغدو عضواً في جماعة ثقافية بناء على هذا التفاعل الذي يتحقق بين الذات والآخرين؛ فمنذ الصغر يشرع الأطفال بالتعلم عبر المماثلة والمحاكاة والتخيل، وهذه الأفعال تقع ضمن أفعال الفن، وكلما اتسعت دائرة الفعل الفني وتعمقت، فإنها تفضي إلى خلق تنويعات ثقافية تتيح للمرء أن يبتكر ويبدع، وأن ينخرط في عمليات تندمج فيها الحواس جميعها والأفكار والعواطف.  إن الجسد هو الذي يكتب، وهو الذي يرسم، وهو الذي يغني، وهو الذي يمثل، وهو الذي يشاهد، ويستمع ويوّقع وهو... .  إن كل ما نعبر به وعنه نابع من الجسد ومتجه إليه، علاقة حوار دائمة ومتصلة، ولأن الثقافة الإنسانية، سواء أكانت ثقافة مجموعة بشرية واحدة أم مجموعات بشرية متنوعة أم كونية، فهي تفاعلية متغيرة، وهذا التغير هو عبارة عن تحاور الموجود بالموجود، والمبتَكر بالموجود، والمبتَكر بالمبتَكر، وفي هذا التفاعل تحصل عمليات البناء وعمليات التقويض أيضاً، وهما عمليتان لازمتان ومتلازمتان لإحداث التغيير عموماً، والتغيير الثقافي خصوصاً، وبالتالي التغيير في الفن نظرة وإنتاجاً.

 

(4)   الفن واللعب

في مرحلة مبكرة من حياته يشرع الطفل في اللعب، ويتخذ اللعب بعداً رمزياً، يقلد ويحاكي ويبتكر، ويبدع؛ فهو يغني ويمارس حركات إيقاعية ويلون،... ويمثل ويلعب أدواراً، وفي كل هذه العمليات فإنه يتساءل ويربط ويحلل ويوائم ويكتشف ويجسد، ويعبر، ثم تبدأ هذه العمليات وهذه الأفعال بالضمور شيئاً فشيئاً عبر انخراطه في المدرسة، في المدرسة يبدأ بممارسة الاحتذاء، فهو يقلد ويحاكي ويماثل، أما الابتكار والإبداع والتعبير الذاتي فإنها تندحر، وتحل الأجوبة مكان الأسئلة ... ويغدو الطفل مستقبِلاً لا يرسل؛ سواء ما يراه الكبار أم ما يتوقعونه منه.  لنتذكر هنا بيكاسو مرة أخرى: "كل طفل هو فنان، المشكلة هي في كيفية إبقاء الفنان حين يكبر"، وهذا متصل بفكرتنا عن المدرسة، وبطرائق التعليم، ولماذا نعلم، ولماذا نتعلم، وكيف نتعلم.  إن عدم تمكن المؤسسة المدرسية من رؤية دورها على نحو مغاير لدورها الراهن، لن يساعدها على مقاربة الفنون مقاربة فاعلة، فمجرد استدخال الفنون كحصص مدرسية يجري عليها ما يجري على الموضوعات المدرسية الأخرى وحصصها لن يسهم في ولوج الفعل الفني تذوقاً وإنتاجاً بل سيحولها إلى مادة مسطحة لا تُرى أبعادها ولا تُسبَر طبقاتُها، إن المقاربة الفنية المختلفة تتطلب مقاربة تعليمية مختلفة تماماً، ومن الصحيح هنا أن أي تغيير في بنية المدرسة وتراكيبها ووظائفها لن تحققه بانعزالها عن سياقها المجتمعي، ولن يتأتى لها أن تبلغ ما تود بلوغه دون انخراط مجتمعي فيها، والمجتمع الفني هو واحد من تلك المجتمعات التي ينبغي انخراطها ضمن عملية تراكمية تحدث تغييرات جوهرية في النظم التربوية، كي يمكن الحديث عن مدرسة من نوع مختلف عن المصنع.

 

(5)   الفن والمعرفة

إذا كانت المعرفة في حقيقتها غير قابلة للتجزئة والفصل، وأن العلوم والمعارف تفضي إلى بعضها بعضاً وتتداخل إلى حدود الاندماج، فكيف يمكن أن نفهم أن المدرسة تنتج المعرفة إذا كانت كذلك؟ وأن المعرفة تتحقق إذا غابت الفنون عن العملية التي هي في طبيعتها أساس فيها؟

 

(6)   الفن والتواصل

تعيدنا الفنون إلى فكرة التواصل مع الحياة؛ التواصل مع الذات والآخرين والأشياء والأفكار والانفعالات، وفي هذا التواصل ما يمنحنا إمكانية الرؤية، فنرى العالم، نكوّن صورة وتصوراً له، فيتحرك إدراكنا وفعلنا إلى ما يمكِّننا من الانفلات من ربقة ما يعطلنا أو يكبلنا.  قال بيكاسو مرة: "لقد حاولت بواسطة الخط واللون أن أتغلغل عميقاً في معرفة العالم والناس، لعل هذه المعرفة أن تحررنا".

 

(7)   الفن ومكانته

إذا كان التواصل هو جوهر الفن، فلمَ ننأى بأنفسنا عنه، وتتقهقر علاقتنا به، فننبذه أو نلتجئ إلى ما يمعن في تخريب الذائقة؟ وفي سؤال كهذا سنجد إجابات من قبيل أن الفن: إما أن يراه البعض مجرد لهو وإغواء، وإما أن يراه بعض آخر تسلية وتزجية للوقت، وإما أن يراه آخرون مجرد وسيط يعيد إنتاج أيديولوجيا ما، ويكرسونه لخدمتها.

 

(8)   الفن وضرورته

هل يتيح لنا الفن أن نعيد إنتاج التواصل مرة أخرى وعبر مقاربة مختلفة؟ بمعنى أن نعيد الكشف، الاستكشاف، مغامرة البحث عن معنى؟ هل يمكن أن يبدو ذلك ممكناً في السياق التربوي؟ هل يمكن لسياق المؤسسة التربوية أن تحتفي بالفن كأحد مكوناتها الجوهرية؟ إن سؤالاً كهذا سيعيدنا إلى طرح السؤال الذي لم يتوقف في أي لحظة من لحظات الوجود الإنساني، ولم يجد له جواباً نهائياً واحداً، ولن يجد: لماذا الفن؟ وما ضرورته؟

 

(9)   الفن والتعلم

إن تعلم الحياة في صورتها العميقة يقتضي التعلم من الآخرين، وأن يمتزج التعلم بالمتعة، وأن تتسع مساحات الخيال، وأن نتطلع إلى الطرائق التي تجعل الحياة أفضل مما هي عليه، وأن ندرك في الوقت نفسه ما الذي يجعلها أسوأ.  هل يمكن لشيء آخر كما الفنون أن يحقق لنا تعلم الحياة إذن؟ كل شيء آخر قد يعلمنا عن الحياة جانباً ما، شيئاً ما، أما في الفن، فإن المخيلة تشتغل على التفاعل مع الحياة كصورة أخرى، صورة مفسَّرة أو متوخاة.  وحين يلتقي الفن بالعلم ويمتزجان ويتمازجان، فإن إدراكاً كلياً سيتحقق، حينها يمكن للحياة أن تُرى بمنظار راهنها ومنظور مستقبلها، أو كما يقول المسرحي الألماني بيرتولد بريخت: "إن كليهما (المقصود العلم والفن) قد وجد لتوفير الراحة في حياة الإنسان، فأحدهما يهدف إلى استمرارنا في الحياة، بينما يهدف الآخر إلى الترفيه عنا.  أما في العصر القادم، فإن الفن سوف يخلق الترفيه من تلك الإنتاجية الجديدة التي يمكن أن تحسن استمرارنا في الحياة، والتي يمكن أن تصبح، إذا تركت لها الحرية، أعظم المتع جميعاً" (بريخت، بلا تاريخ: 33).

 

(10)                    الفن وغاياته

إنه الفن حين يفضي إلى: 1) التعمق وسبر ما وراء ظاهر الأشياء.  2) المتعة واستكناه لذتها.  3) مد رقعة الخيال في فضاء لا متناهٍ.  4) إدراك الأفضل لحياة الإنسان ومعرفة الأسوأ لحياته.

 

(11)                    الفن والحرية

يتوق الإنسان إلى الحرية وإلى تحرير الذات والمجتمع، ولكنه بالمقابل أيضاً يشتغل لكبحها ولتكبيل الذات والمجتمع.  فالإنسان مجرداً لا وجود له، إنه إنسان حين يجد معنى ما للحرية في ضوء حياته الاجتماعية، وبالتالي في ضوء المصلحة؛ سواء أكانت معنوية أم مادية، ولذلك "فإن مصلحة المعرفة المحررة يكون لها حالة مستنبطة، وهي تضمن علاقة المعرفة النظرية مع براكسيس[1] الحياة؛ أي مع مجال موضوعات ينشأ بداية ضمن شروط تواصل مشوه نسقياً، وضمن شروط قمع مشرعن ظاهرياً" (هابرماس، 2001: 379).

 

(12)                    الفن والروحي

في الحياة العربية الإسلامية الأندلسية مثلاً اتخذت الفنون مكانة مهمة في حياة الناس، وكانت تعبيراً عن التقدم الحضاري الذي وصلت إليه، وحين تفتتت الدولة الأندلسية إلى دويلات وطوائف، لجأت إلى المرابطين الذي لبوا النداء لنجدة إخوانهم في الطرف الآخر من المحيط.  وهناك وجدت ثلة من المرابطين نقشاً حجرياً ينتصب على عمود حجري يجسد عازفين على آلة العود، وآخرين على آلة الناي.  حطمت الثلة الوجوه فقط، وأبقت على الآلات الموسيقية.  كلتا المجموعتين الموجودتين على طرفي المحيط لها مرجعية دينية واحدة، ومرجعيات ثقافية متعددة، ولكن يبدو أيضاً أن مرجعيتها الدينية واحدة في ظاهرها مختلفة في باطنها.  فهناك من لم يجد ضيراً في نحت وجوه العازفين فقط، بل جسدها، وهناك من اعتقد بأن تجسيد الوجوه يتعارض مع مرجعيتها الدينية التي لا ترى بجواز رسم البشر على صورتهم، ولذلك فقد ظهر في فن الرسم، وبخاصة في الكتب، ما يظهر لنا بأنه كان يتم تشويه جزء من جسد الإنسان أو الحيوان المرسوم كي لا يكون على صورة ما أبدعه الخالق، لأن الإنسان هو إنسان، ولا يمكن له أن يحاكي الخالق.  كلا الطرفين قدّم تأويلاً.  ولكن علينا ألا ننسى أن الطرف القادم من وراء المحيط لم يقدم تأويلاً فقط، بل أقدم على الهدم، بمعنى أنه أقدم على الإلغاء، وهذا فعل سلطة يقوض الحرية.

 

(13)                    الفن والتغيير

في حالتنا الراهنة، فإن توقنا إلى الحرية لا يعادله توق، الحرية من ربقة الاحتلال والحرية الاجتماعية ... وكلتاهما متعثرة، ويأتي التعثر نتيجة لعوامل كثيرة منها؛ النظرة الأحادية للأشياء، الدافعية ذات البعد الواحد، الغايات ذات البعد الواحد، المصلحة الضيقة، ادعاء امتلاك الحقيقة، الاستعراض، عدم توظيف الطاقات الشعبية الكامنة ... وألف سبب وسبب آخر خارجي.  وقد يبدو ساذجاً أن نقول إن فعلاً فنياً يمكن أن يحدث التغيير، ويخلصنا من آفاتنا أو يخلصنا من شرور غيرنا علينا، ولكن ألا يجدر بنا أن نرى الإنسان في كليته وفي احتياجاته كافة ومتطلباته المتنوعة، بما في ذلك ارتقاء حساسيته وقدرته على تنمية خياله واجتراح حلول لمعضلاته؟ إن الفن يمكن له أن يتيح لنا إعادة مساءلة الواقع وكشفه كما يتيح لنا الخيال إمكانية طرح البدائل، وبخاصة أن الفنون تقدم لنا إمكانية فهم الحياة وإدراك العالم.

 

(14)                    الفن والتمايز الاجتماعي

علينا ألا ننخدع الآن، وكأن انوجاد الفنون في الحياة المجتمعية، بما فيها المدرسية، يفضي إلى التحرر والحرية والابتداع والإبداع.  إن في ذلك مجانبة للحقيقة، إن الفنون أيضاً قد تشتغل على التمايزات الاجتماعية وعلى ترسيخها.  ليس الفصل هنا فصل طبقي حرفي، بل إنه متصل بما تبثه الرسائل الفنية من ناحية، وما تتيحه الوسائط من اتصال فتواصل بين الفنون والناس.  إن إتاحة الفنون مثلاً لقطاع معين من الجمهور النخبوي "كثقافة" أو النخبوي "كطبقة"، وحرمان جمهور آخر بسبب عدم التمكن أو الإمكانية المادية، يفضي إلى تعميق التمايزات الاجتماعية وتكريسها كفنون متاحة لمن هم موسرون، وغير متاحة لمن هم فقراء.

 

(15)                    الفن والمدرسة

المدرسة مجال لتطويع المرء وتهجينه، يمكن للفن أن يكون مجالاً لتحرير المرء وانطلاقه. ولكن علينا ألا ننسى أن هناك فناً أيضاً يسهم في التطويع والتدجين أيضاً.

 

(16)                    الفن والذائقة

تتشكل الذائقة الفنية عبر الاكتشاف، والاكتشاف لا يتحقق دون المغامرة من ناحية، والإتاحة من ناحية ثانية، والممارسة من ناحية ثالثة، أما التقوقع فإنه لن يمكِّن الذائقة من أن تنمو وتبقى طازجة، ستهترئ.  بالتأكيد ستهترئ.  والذائقة في اهترائها وفي نموها ليست على مسطرة واحدة، بل هي متنوعة بتنوع الاكتشافات وطبيعة التواصل الفني ونوعيته.  علينا أن نتذكر أن "العمل الفني يعاش في التجربة، في الرحلة ضمن العملية، وليس في لحظة الإنتاج للعرض في معرض فني" (إريك بووث).

 

(17)                    الفن والواقع

يستعمل "جمهورٌ" عادة تعبير أن هذا العمل "مفهوم" أو "غير مفهوم"، وكأن الأمر متصل بالرسالة العقلية التي يتضمنها العمل الفني، علينا ألا ننسى أن التواصل الفني هو تواصل ذهني، تخيلي، انفعالي، عاطفي، مادي ... ولذلك، فإن تقدير العمل في ضوء فهمه أو عدم فهمه لا يكون كافياً.  كما يستعمل "كثيرون" تعبير أن هذا عمل "واقعي" لتقديره أو "غير واقعي" لإدانته.  إن العمل الفني من حيث هو ترميز وخيال لا يمكنه أن يكون واقعياً، الواقع هو أن تعيد إنتاجه نفسه مرة أخرى، هذا أمر مستحيل تماماً.  كل عمل فني يستل من الواقع عناصر ويعيد تأليفها.  فهو إذن صورة نفسه، يحيل على الواقع ... نعم.  يكشفه... نعم.  يسائله... نعم.  لكنه لا يمكن أن يكون "واقعياً" البتة.  يكفينا أن نقول: "نحن غير مهتمين برؤية ما هو غير عادي، ولكن برؤية العادي بطريقة غير عادية" (بيمونت نيوهول).

 

(18)                    الفن والخشية منه

يخشى كثيرون من التعبير عن تثمينهم أو عدم تثمينهم لعمل فني ما، وبخاصة تلك الأعمال الفنية التجريدية أو تلك التجريبية، وتنبع هذه الخشية من أن يراهم آخرون بأنهم لا يفقهون الفن، فيتوارى رأيهم بحجاب خجلهم.  هذه الخشية غير مبررة، فكل عمل فني يقتضي تواصلاً خاصاً وفردياً به، وهذا التواصل سيتعالق مع الوقت بالخبرة الجمالية والفنية الجمعية التي أنتجتها الثقافات البشرية وتنتجها.

 

(19)                    الفن والتربية الفنية

ما الذي يعنيه أن "يختلس" المعلمون حصص التربية الفنية لصالح موضوعات أكثر أهمية حين ينضغط "المنهاج" أو "الوقت" أو الظروف عليهم؟ لا معنى سوى أن هناك موضوعات مهمة وأساسية وأخرى غير مهمة وغير أساسية ويمكن الاستغناء عنها في الأوقات الحرجة.  كيف نقيس المهم فالأقل أهمية، والضروري من غير الضروري، والأساسي من الثانوي؟ إن ذلك محكوم بنظرتنا للتعليم، وعلى أي فلسفة يقوم!

 

(20)                    الفن والأثر

ما تثيره فينا قصيدة أو أغنية أو لوحة أو مشهد درامي أو فيلم ... قد يترك أثره فينا ويبقى عالقاً معنا أكثر من ألف حصة أحياناً، ويعلمنا ما لا تعلمنا إياه المدرسة بألف كتاب أيضاً.

 

(21)                    الفن والمعلم والمتعلم

المعلم والمتعلم سيان في عملية فنية ممكنة، تلقياً أو إنتاجاً.  إن الارتقاء بذائقة المتعلم تقتضي الارتقاء بذائقة المعلم.

 

(22)                    الفن والتعبير

الفن عملية تواصل مع إنتاج فني يبدعه آخرون، فنتلقاه ونفسره بخبرتنا ومعرفتنا وذائقتنا، وكلما كانت خبراتنا ومعارفنا وأذواقنا أكثر اتساعاً وأكثر خيالاً وأكثر شفافيةً، فإن عمق التلقي سيختلف.  والفن أيضاً عملية إنتاج نقوم بها نحن معبرين عمَّا فينا، ونترك للناس تأويله في ضوء خبراتهم ومعارفهم وأذواقهم أيضاً.  فـ"الفن ليس ما تراه، بل ما تجعل الآخرين يرونه" (إلجار ديجاز).

 

(23)                    الفن والموهبة

التربية الفنية في المدرسة ليست عملاً ينصّب على "الموهوبين" و"ذوي الميول الفنية"، الفن عمل يتجه إلى الجميع.  أما رعاية "الموهوبين" أو "المتعلقين" بالفن، فهذا شأن آخر، فقد تكشف المدرسة موهبة أو تطمرها، وفي الحالتين، فإن شأن تنميتها ليغدو صاحبها فناناً هو شأن مجتمعي أكثر منه شأن مدرسي.  وإن كان علينا ألا نغفل إمكانية قيام المدرسة بتفعيل الفنون عبر الأنشطة اللاصفية، وهذا فعل لا يقل أهمية عن الفعل التربوي التعليمي المباشر العام.

 

(24)                    الفن والجدوى

ما جدوى الفن في زمن نفتقد فيه أدنى مقومات الحياة؟! ربما يبدو هذا السؤال الاستنكاري في غير محله، ولكن السؤال الآخر المقابل: أين محله؟ لن أخوض كثيراً في جدوى الفن وضرورته في الحياة البشرية على مرِّ عصورها واختلاف ثقافتها.  إن سؤالاً كهذا يضع الفن والحياة في مواجهة ضدية، لعل الفنون تمكّننا من التعبير عن ذواتنا، وعما نحن فيه، وما نتطلع إليه، وتمنحنا طاقة الاستمرار أيضاً، وتمكّننا من إقامة توازننا الداخلي، كما قد تمنحنا إمكانية البحث والحث والتشجيع.  فنحن "لا يمكننا التعبير عن الضوء في الطبيعة، لأننا لسنا الشمس، ما نستطيع فقط التعبير عنه هو الضوء الذي في ذواتنا" (آرثر دوف).

 

(25)                    الفن والحد الأدنى

العمل الفني لا ينتجه ثراء مادي وإمكانات هائلة فقط، أو توفر اشتراطات مادية لإنتاجه، لن أسهب في عرض الأمثلة: في الموسيقى وآلاتها، الغناء، الرقص، الرسم، التشكيل، المسرح، وحتى في السينما...الخ، سأذهب إلى جروتوفسكي مبتكر نظرية المسرح الفقير ومطبقها، ولنرَ ما يقول عن المسرح الذي يمنعه كثيراً من الأحيان ادعاء احتياجه لإمكانات كبيرة: "هل يستطيع أن يحيا المسرح من غير ملابس ومن غير مناظر؟ نعم يستطيع.  هل يستطيع أن يحيا من غير موسيقى تصاحب الحبكة المسرحية؟ نعم.  هل يستطيع أن يحيا من غير تأثيرات ضوئية؟ طبعاً.  ومن غير نص مسرحي؟ نعم؛ يؤكد تاريخ المسرح هذا.  في نمو الفن المسرحي كان النص أحد آخر العناصر التي أضيفت إليه.  إذا وضعنا على المسرح أشخاصاً قاموا بتأليف السيناريو وتركناهم يرتجلون أدوارهم كما هو الحال في (كوميديا ديلارتي) سيكون التمثيل جيداً، حتى لو كانت الكلمات غير واضحة ومجرد دمدمة.  ولكن هل يستطيع أن يحيا المسرح من غير ممثلين؟ لا أعرف سابقة في التاريخ لهذا.  يتمكن المرء أن يقول مسرح الدمى.  وحتى هنا الممثل موجود مع ذلك خلف الكواليس ولو من نوع آخر" (جروتوفسكي، 1986: 30، 31).  إذن نحن لسنا بحاجة إلى إمكانات، نحن بحاجة إلى رؤية وخيال .

 

"لا يمكننا التعبير عن الضوء في الطبيعة، لأننا لسنا الشمس، ما نستطيع فقط التعبير عنه هو الضوء الذي في ذواتنا" (آرثر دور)

مراجع وهوامش


بريخت، بيرتولد (1977).  الفنون والثورة، ت: إبراهيم العريس، ط1، القدس: منشورات البيادر.

بريخت، بيرتولد (بلا تاريخ).  الأورجانون الصغير: نظرية برتولد بريخت في المسرح الملحمي.  ت: فاروق عبد الوهاب، مكتبة المسرح- منشورات مركز الشارقة للإبداع الفكري.

الفارابي، أبو نصر محمد (1972).  كتاب الموسيقى الكبير، تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة، مراجعة وتصدير د. محمد أحمد الحفني، القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر.

جروتوفسكي، جيرزي (1986).  نحو مسرح فقير، ت: د. كمال قاسم نادر، العراق: دار الشؤون الثقافية العامة – آفاق عربية، وزارة الثقافة والإعلام.

هابرماس، يورغن (2001).  المعرفة والمصلحة، ت: حسن صقر، ط1، ألمانيا: منشورات الجمل.