المقدمة 

أقدمُ هنا فقط رؤية شخصية لبعض القضايا الرئيسية، ومن أبرزها في رأيي انعدام وجود موقف مُجمع عليه إزاء الدور الذي تلعبه اللغة في التعليم. وبشكل خاص، أهمية الحوار في التعلُّم والتعليم. هذه الحالة المربكة تعرقل الجهود الحثيثة الجارية حالياً لإصلاح التعليم العام حتى يصبح في مقدوره حث الطلاب بشكل منصف وفعّال على طرق المعرفة والعمل الضرورية للحياة في "عصر المعلومات" الذي جاء بعد العصر الصناعي. ومن المثير للريبة أيضاً قول الحد الأدنى للمعلمين الذين يأخذون على عاتقهم مسؤولية إشراك الطلاب في عمليات بناء المعرفة. وكما سيتضح لاحقا، فإنني لا أتبنى موقفاً مجرّداً، لأنني مقتنع بأن مصالح الطلاب يجب أن تحظى بالرعاية عندما يشاركون بفعالية في حوارٍ تساهم فيه أصواتهم، إلى جانب المعلمين و"السلطات" المختصة، دعما للمحاولة المستمرة لفهم المأزق الإنساني وعلاقتنا بالبيئة مادياً واجتماعياً. والسؤال الرئيسي الذي يبرز هو: كيف يمكن توسيع هذا الحوار؟ 

 

لغتان للتعليم

في الوقت الحالي، يبدو أن هناك "لغتين" واضحتين للحديث عن التعليم. الأولى تشتمل على منظور التخطيط التعليمي والإدارة. وهذه الرؤية تعرض لوجهة نظر أولئك المعنيين بشروط التعليم. وقد صيغ هذا المفهوم بمفردات مثل "إعداد المنهاج"، "المراحل الأساسية" (إنكلترا)، "مستويات" (الولايات المتحدة)، "تقييم" و"نتائج". أما اللغة الثانية فتفضل مفردات مثل "استعلام"، "فهم"، "بناء"، و"تعاون". وهي لغة الإصلاحات، وتحديداً في مجالات المنهاج كالعلوم والرياضيات ومجالات عمل العديد من الباحثين التربويين في الغرف الصفية. وبين هذين المفهومين حول التعليم يقع ميدان العمل الصفي. وهذه الأرضية الوسطية هي المنطقة المختلف بشأنها، والتي يقيم فيها المعلمون المتمرسون. ومع أنهم غالباً ما يتعاطفون مع الفلسفة المتضمنة لمفهوم الإصلاح، فإنهم مع ذلك يُضطرون، تحت وطأة ظروف تعيينهم ، إلى العمل بما ينسجم مع المنظور الإداري. ولعل أسباب هذا التزاوج تعود إلى التغيرات الرئيسية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أصبحت واقعاً قائماً خلال القرن العشرين، والطرق التي تستجيب مبرراتها لكلا المفهومين. وفي السنوات المائة الأخيرة كان ثمة زيادة هائلة في التوقعات للتعليم العام. وبينما كان الحد الأدنى للاختصاص والكفاءة العملية في القراءة والكتابة والحساب هدفاً أسمى لمن يغادرون المدرسة قبل قرنٍ من الزمن، فإن الطلب على الأشكال المعقدة للمعلومات المعمول بها في مكان العمل قد ضاعف بشكل أساسي من متطلبات الطباعة والمعرفة بالرياضيات والكمبيوتر (Resnick 1987) والإلمام بمفاهيم رئيسية في العلوم الطبيعية والإنسانية. وعلاوة على ذلك، بينما كان في الماضي يُتوقع من نسبة ضئيلة الحصول على المؤهل الجامعي، أصبح ذلك الآن هدف الأغلبية، والحصول على دبلوم ليس سوى مُتطلب قليل. وبهذه الزيادة الكبيرة التي طرأت على مسؤولية التحصيل التعليمي، فإنه ليس من المدهش حقاً انشغال صانعي السياسة والقائمين على الإدارة بما يتوصل إليه العالم من نتائج، وبما يحصل من تحسّن وتطور للمستويات، وبالمصداقية تجاه أولياء الأمور ودافعي الضرائب من أجل تقديم أفضل الخدمات. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحاجة الملحة لتحسين المنافسة في السوق العالمية كان لها أيضاً أثر ملموس، قاد إلى تبنّي تقنيات إدارية تؤكد على "الشمولية" و"النوعية" و"الفعالية في التكلفة". 

وبحد ذاته، فإن هذا المستوى الكبير من الاهتمام بالمستويات والمصداقية يدعو للإعجاب، غير أن الشكل الذي إتخذه غالباً ما كان يتعارض بالتجربة مع جهود ذات مستوى أكبر لتحسين نوعية الأداء الصفي. وهنا، كما سأُوضح بشكل مفصّل لاحقاً، فإن التركيز قد انتقل إلى طلاب يحصلون على فهم شخصي للمعلومات الجديدة ليس لكونهم ببساطة قادرين على استدعائها عند الطلب، وإنما لإعادة بنائها بشكل يتجاوز نقلها بالطرق نفسها التي يتم بها بلوغ هذا الفهم. وزيادة على ذلك، بدلاً من معاملة جميع الصفوف وأعضائها بشكل متكافئ، يُفضّل الاعتراف بحقيقة أن التعلم والتعليم دائماً ما يقومان في وقت ومكان معينين. فكل متعلم له مسار فريد يعتمد على تجاربه/ها الفردية التراكمية. وعلى هذا الأساس، فإن تطوير هذا الفهم يستدعي تحوّلاً مستمراً لما يعرفه الفرد ويستطيع القيام به كحل للمشكلات التي يعالجها، كما يستدعي أيضاً تحوّلاً مماثلاً لدى المشاركين الذين يعمل معهم والمصادر الثقافية القائمة في أوضاع حل المشكلات. 

ومن هذا المنظور، فإن تقييم ما تعلمه الطلاب لا يمكن أن يتحقق بدقة عن طريق التقييم المتعارف عليه الذي يستخدم الامتحانات بخياراتها المتعددة أو إجاباتها القصيرة. 

وما هو أكثر صلاحية كمعيار للتقدم الحاصل هو تقييم قدرة الطلاب على استحضار المعلومات عند حل مشكلات جديدة ذوات أهمية شخصية، والاستراتيجيات التي يستخدمونها في هذه العملية. ويتضح هنا أن الخلاف بين هذين المنظورين يعتمد إلى حدٍ كبير على المسؤوليات المختلفة لهؤلاء المعنيين بالتعلم وجمهور المتعلمين. ولكنه ينشأ أيضاً –كما أرى- عن المفاهيم المختلفة للمعرفة المفترضة لهذين المفهومين والدور الذي يُعتقد بأن اللغة والأنظمة السيميائية الأخرى تلعبه في بناء واستخدام ونشر المعرفة.

 

مفاهيم متغيرة للمعرفة

إضافةً إلى الطلب المتزايد على الخريجين واسعي الإطلاع من جانب التعليم العام، كانت خلال القرن الماضي تطورات ملموسة في الطريقة التي يتم بها إدراك المعرفة. وهذه التطورات، بالمقابل، لها تأثيرات مهمة على العمليات التي تتصل بالتعلّم والتعليم (Case1996 ). ففي البدايات المبكرة للقرن الماضي، وفّر المذهب التجريبي (Empiricism) التوجيه النظري الطاغي على المعرفة. واستناداً إلى هذه الرؤية، فإن المعرفة تتشكل من حقائق مُثبتة بالإدراك الحسّي، وهي مبنيةٌ بشكل تراكمي عن طريق التعميمات المُستنبطة التي تخضع للاختبار التجريبي عبر مزيدٍ من الملاحظة والتجربة، اللتان إذا ما صحّ تنفيذهما، فإنهما لن تتأثرا بالشخص الذي يتولى القيام بهما. 

المعرفة إذن مرادفة للمعتقدات الصحيحة، التي تم التحقق منها بالتجربة أو –أكثر تحديداً- تلك التي لم يثبت خطؤها بعد، والتي يُنظر إليها بشكل مستقل عن أصحاب المعرفة والظروف التاريخية والثقافية التي نمت وترعرعت في ظلّها.

ولعلها نظرية المعرفة هي التي أبقت على التطور الذي تحقق في العلوم الطبيعية وفي التطبيق التكنولوجي، إثر ما تمّ اكتشافه في مجال الصناعة وتحديداً بعد القفزة الهائلة للاتصال عبر الكمبيوتر ومعالجة المعلومات. وقد كان لها أيضاً تأثير ملموس على الطريقة التي تُدار بها كبرى الشركات والمؤسسات. 

ومن غير المدهش أن نظرية المعرفة هذه قد كانت ذات تأثير في التعليم سواء في تشكيل محتوى المنهاج أو في توصيف مزاولة التوجيه والتقييم. ومن هذا المنظور، فإن وظيفة التعليم الرئيسية هي التأكيد على أن الطلاب يكتشفون المعرفة التي تعتبر الأكثر فائدة وأهمية. فالتعليم يتم إدراكه في سياق تنظيم ما يجبُ أن نتعلمه بشكل وافرٍ وملائم وإتاحة أفضل وسائل الأداء والفرص للتطبيق والمذاكرة . 

ولعل التعلُّم المبرمج، سواء أكان بإدارة معلم أم آلة، هو التطبيق الأكثر تنظيماً لمفهوم التعليم هذا. 

وفي النصف الثاني من القرن الماضي، تعاظم عدد من التحديات ضد النموذج التجريبي السائد. فبينما بدا أنه قد يوفر قدراً دقيقاً لتطور المعرفة في العلوم الطبيعية وتطبيقاتها التكنولوجية، إلاّ أنه تبيّن عدم ملاءمته للمعرفة في العلوم الانسانية والاجتماعية. وأي حديث عن كيفية معرفة البشر واستخدامهم لمعارفهم في الأنشطة المعقدة التي تتطلب تنسيقاً لعدد العاملين واختلاف وجهات نظرهم، يجب أن يولي اهتماماً أعظم لنشاط المتعلم "العقلي" والعلاقات التي تجمع المشاركين في عملية التعلم.

هذا الاعتراض الأخير للتجريبية كونها برزت بوضوح في مجال علم النفس وفقاً للمذهب السلوكي، هو الذي كان مسؤولاً إلى حدٍ كبير عما أصبح يُعرف فيما بعد ب"الثورة المعرفية" في ستينيات  القرن الماضي (Gardner 1987). وعلى ضوء ما أصبح يُعرف ب "علم نفس الشعوب" (Bruner 1990) ظهرت محاولات لاستكشاف وصياغة طرق التفكير بالنشاط العقلي، دأبت على معاملة الناس بشكل مؤثر على غرار استخدامهم كمتلقين ومفكرين ومبدعين أيضاً. ولما أصبح الكمبيوتر شيئاً فشيئاً هو المسيطر على العمل في حل المشكلات والتفكير بها، ضاع قدر كبير من الزخم الإنساني الأصيل، فالواسطة شحب بريقها عندما صيغت المعرفة مجدداً كعملية معلوماتية مجردة من المشاعر الشخصية، في وقت أصبحت فيه هذه المعرفة ذات شكل جديد تستند عليه العمليات ذات الصلة. 

وبينما جلبت الثورة المعرفية فهماً بعيد المدى للعمليات المعرفية المعقدة، إلا أنها بقيت بشكل رئيسي عميقة الجذور في نظرية المعرفة القديمة (Case 1996).

ولعل النتائج المترتبة على نظرية المعرفة في التعليم قد انقسمت بشكل متكافئ. فمن جهة، وفرّت أنظمة الكمبيوتر وتطبيقاتها العملية في ميادين الصناعة والتجارة دعماً لنموذج الإدارة التعليمية كما نرى في عملية توصيل المعلومات والاستحواذ على النوعية. ومن جهةٍ أخرى، أصبح لهذا النموذج على مستوى غرفة الصف أثر ضئيل. 

وبالرغم من التجديد الذي طرأ على علم المصطلحات الفنية الذي تتحدّد من خلاله الأهداف التعليمية، ومع أن التكنولوجيا القائمة على الكمبيوتر قد انتشرت على عدة مستويات، إلاّ أن المفهوم الأساسي للتعلّم والتعليم بقي كما هو إلى حدٍ بعيد. فهو ما يزال يفترض عالماً من الأفراد المستقلين، ممن يستوعبون المعرفة استناداً إلى مبادئ عالمية لا تختلف إلا بالاختلافات الفردية في الكفاءة والقدرات. 

وعلى أية حال، فإن واقع الفرق الصفية مختلف جداً عن هذا التعليل المبسّط. والأكثر بروزاً مما هو عالمي في التعلم الإنساني والتنمية ذلك التنوّع الذي يميّز أي صف أو مدرسة وتحديداً في مراكز المدن الكبيرة. فالطلاب لا يختلفون فقط في الجنس والخلفية العرقية والاجتماعية وفي اللغة التي يتحدثونها في البيت وفي مستوياتهم الحالية لأدائهم واجباتهم المدرسية، بل يختلفون أيضاً  في قيمهم التي يعتنقونها وفي طموحاتهم واهتماماتهم وتجاربهم خارج المدرسة. ولعل نظريات المعرفة التي لا تأخذ باعتبارها هذا التنوّع لا توفر سوى مساعدة ضئيلة للمدرّسين الذين يختلفون عن أنفسهم بالطرق نفسها. وفي السنوات الثلاثين الأخيرة، أو ما يقارب ذلك، بدأت مجموعة من المفاهيم النظرية التي تستجيب إلى هذه المخاوف بالتأثير على الممارسة الصّفية. وكانت بداية تأثيرها على التعليم –في العالم الغربي على الأقل- تتمثَّل بعمل بياغيت (1970). ومع أنه كان أيضاً  مهتماً على نحوٍ أكبر بالمظاهر العالمية للنمو الذهني للفرد، وخاصة البنى العقلية الفطرية التي تتغير بشكل منتظم كوظيفة للتجربة، إلاّ أنه عرض أيضاً لمفهومٍ ينظر إلى المتعلّم على أنه يلعب دوراً أساسياً في التفاعلات الاستكشافية مع البيئة التي تحدث من خلالها عملية النمو.

ومع أن حماسه في السنوات الأخيرة "للتعلّم الاستكشافي" والتطبيق التعليمي لنظريته قد بَهَتَ وانحسر أيضاً، إلاّ أن فكرة بناء المتعلّم لمعرفته الخاصة بشكل فعّال –عبر اندماج ما لديه وما يواجهه بالمعلومات والخبرات الجديدة- قد أصبحت تشكّل دعامة أساسية، وهي حاضرة مسبقاً في كل عمل حول التعلّم والتنمية. 

والنظرية التي كان لها في الفترة الأخيرة تأثير على التعليم هي نظرية التعلّم والتنمية التي اقترحها في البداية فيجوتسكي بعد الثورة الروسية، ومنذ ذلك الحين تطورت في عدة بلدان مختلفة، وتُرجِمَ عمله في الستينيات من القرن الماضي (Vygotsky 1978/1981). ويرى فيجوتسكي باختصار أن قدرات البشر على العمل والتفكير والشعور والاتصال، رغم أنها مرتبطة أساساً بما يرثونه بيولوجياً، إنما تعتمد بشكل رئيسي على الممارسات والنتاجات التي تطورت مع الوقت في سياق ثقافات معينة تتلاءم وتتجانس ذاتياً من أجل الهدف المشترك. وأهمية هذه النظرية لفهم العلاقة بين المعرفة والممارسة التعليمية يمكن تلخيصها على النحو التالي: 

في البداية أكد فيجوتسكي على دور النتاجات في تحقيق النشاط. ولا تشمل هذه النتاجات الوسائل المادية فحسب (نتاجات رئيسية)، بل أيضاً الأنظمة السيميائية لأنواع متعددة تعتبر اللغة الأكثر استخداما ً لها. وتشمل أيضاً نتاجات تمثيلية مثل أعمال الفن والرموز القانونية والنماذج والنظريات التي وُجدت إلى جانب النتاجات الرئيسية (Wartofsky 1979). وهذه الأشياء الأخيرة هي التي غالباً ما اعتُبرت مستودعات للمعرفة. 

لكن، بينما تفسّر النتاجاتُ من جميع الأنواع المعرفةَ المرتبطة بها، وتستطيع أن تجعلها في متناول الأجيال القادمة، إلا أن ملاءمة المعرفة الثقافية من جانب المبتدئين أو حديثي العهد تتطلب منهم المشاركة في نشاطات تُستخدمُ فيها المعرفة بحيث يساعدهم ويوجههم آخرون من أجل بلوغ المشاركة الكاملة (Lave and Wenger 1991, Rogoff 1994) ولتوضيح سمات هذا الأداء الذي يحظى بالمساعدة، طوّر فيجوتسكي مفهوم العمل في "منطقة النمو الأكثر قرباً" (Vygotsky 1987). ومن المهم أيضاً التركيز على واقع النشاط. ولعل الممارسات الثقافية والمعرفة والمهارات دائماً ما تتجسَّد بشكل مختلف من جانب أفراد يمتلك كل منهم تاريخاً فريداً من الارتباط ببعض أنظمة النشاط الثقافي. وعليه، فإن أهمية مساهماتهم المختلفة في أي مناسبة تعتمد أيضاً على النشاط المشترك الذي يرتبطون به وبالوضع الخاص الذي يحصل فيه(1981 ev Leont). والعلاقة بين الفرد والتنمية الاجتماعية الثقافية هي، بناءً على ذلك، جزء من التوافق والتكوّن التبادلي. وهذه العلاقة يمكن أن يُنظَرَ إليها في إطار التغيرات التي تحدث في وقت يتعاون فيه المشاركون الخبراء أو من هم أقل شأناً في حل المشكلات (على الصعيد العملي والإدراكي) التي تنشأ خلال العمل لتحقيق الهدف من نشاطٍ ما. 

وهذه التغيرات ترتبط بتحوُّل ثلاثي الأبعاد:

 أولاً: الهدف أو الوضع الذي يُوجّه نحوه النشاط.

ثانياً: القدرة على المشاركة والمهارات المعرفية للمشاركين.

 ثالثاً: النتاجات والممارسات الثقافية لتحقيق النشاط.

وعلى أساس هذا المفهوم، فإن المعرفة ليست ثابتة أو مستقلة أو طليقة وهي غير مُحتواة فقط كأشياء افتراضية في العقول، بل هي تُبنى ويُعاد بناؤها بشكلٍ مُلحّ بين المشاركين في نشاطات محددة بحيث تُستخدم النتاجات الثقافية بحسب طلبهم وهم يعملون في سبيل تحقيق هدف تعاوني. وهذا التفاعل قابل للتطبيق سواء أكانوا حاضرين جسمياً في المكان نفسه أم موزعين في الزمان والمكان كما هو الأمر في حالة النشاط العقلي. لكن التركيز في هذا المفهوم ينصب على المعرفة الكائنة والتي تكون فيها المصادر المستخدمة من جانب أي شخص موزعة على جميع المشاركين المرتبطين بالنشاط المحدّد، وبجميع الممارسات والنتاجات التي يمكنهم نشرها بشكل جماعي. 

 

دور المعرفة في اللغة والنزوع إلى المعرفة:

في الجزء السابق، قلتُ أن اللغة المستخدمة في الحديث عن التعليم تعتمد جزئياً على المفهوم الذي تتضمنه المعرفة. وسواء أكان هذا المفهوم متجسّداً بشكل مستقل عن مطّلعين محدّدين أم متراكماً ومخزناً في العقول، فإنه من الطبيعي أن نتحدث عن التعليم في سياق انتقال المعرفة والاحتفاظ بها واستحضارها وإرسالها أيضاً. وهذا المنظور، كما اقترحت، ينعكس في وجهات نظر العديد من صُناع السياسة التعليمية والإداريين. وعلى النقيض من ذلك، كلما انصّب التركيز على معرفة مشتركة قائمة بواسطة نتاجات وممارسات ثقافية موجودة تتضمن أهداف المعرفة العامة وما يمكن أن يتذكره الأفراد على نحوٍ بنّاء مجدّداً (Nuthal in press)، عندئذٍ فإن ما هو مطلوب طريقة مختلفة جداً للحديث عن التعليم. وهذه الطريقة -كما أرى- هي التي تتحدث عن مخاوف المعلمين المعاصرين التي يواجهونها لدى اختلافهم مع الطلاب وفي ظل تفجُّر محتوى المنهاج الذي يحتاج إلى "تغطية". ومع ذلك، فإن هناك سبباً آخر لاختلاف طرق الحديث عن التعليم، وهذا له صلة بالدور المنسوب للغة في نشاط التعلم والتعليم. فمن ناحية تعامل اللغة ببساطة كناقلٍ للفكر، حيث تُولّدُ الأفكار في إطار مجموعة من القواعد الداخلية عن طريق جمع المفاهيم الأكثر توحّداً وبالتالي يُعبر عن الفكر الحاصل إما بالحديث أو بالكتابة، أما الاستماع والقراءة فيتطلبان آراءً معاكسة. وهذا ما يطلق عليه (Reddy 1979)   "قناة الاتصال". ومن ناحية أُخرى، أي من وجهة النظر البديلة التي تؤيدها النظرية الاجتماعية الثقافية (Sociocultural theory )، فإن التفكير يحدث ويتحقق، بالوسيلة السيميائية. ويقول فيجوتسكي أن "الفكر غير معبَّر عنه ما لم يكتمل في الكلمة" (1987:282). غير أنه أشار إلى أن اللغة ليست الشكل الوحيد للوسيلة السيميائية، فالخرائط والرسوم البيانية والنماذج والملاحظات الرياضية والعلمية والرقص والموسيقى جميعها وسائط لصنع المعنى، واختيار الواسطة يؤثر بشكل ملموس على نتيجة وفاعلية التفكير أيضاً. وهذه الرؤية يمكن التقاطها فيما ذهب إليه فيجوتسكي بقوله: 

"إذا ما أصبح الإنسان جزءاً من العملية السلوكية، فإن الأداة السيكولوجية (مثال ذلك اللغة، الخرائط، النماذج، الموسيقى) تُغيِّر التدفق الكامل للوظائف العقلية وبنيتها، وهي تفعل ذلك بإقرار بنية عمل مساعدة جديدة، تماماً كما تغيّر وسيلة تقنية عملية تكيُّف طبيعي عن طريق إقرار شكل عمليات العمل (137 :1981)" 

وكما سيُلاحظ فإن هناك قدراً كبيراً من الانسجام بين المفهوم التجريبي للمعرفة ونظرية قناة الاتصال، فكلاهما يتعارض مع معتقدات النظريين الاجتماعيين الثقافيين إزاء الاعتماد المتبادل للمعرفة والاتصال وصنع المعنى كوسائط للنشاط أو الفعل. وعلاوة على ذلك، إن الخيار بين هذين البديليْن ذو أهمية حاسمة للطريقة التي بها يتم تنظيم عملية التعلّم والتعليم.

فمن وجهة النظر الأولى، من الملائم للطلاب أن يُعاملوا نِسبياً كمتلقّين إيجابيين للمعرفة بحيث يكون الاتصال بهم عبر المعلم أو النصوص المكتوبة. ولأن اللغة التي تتم فيها مواجهة المادة الجديدة ليست غريبة جداً، عندئذ يستطيع كل طالب ترجمة الأفكار أو حل ما يعتريها من ألغاز بطريقة مشابهة، ثم يضيف ذلك إلى الأقسام المناسبة لخزانة ملفاته الخاصة. 

وعلى النقيض من ذلك، تقول وجهة النظر الثانية أن الطلاب بحاجة إلى دمجهم بفعالية في عملية إعادة بناء المعرفة من خلال المشاركة في حوار مع معلم أو نصوص أو نظراء لهم، للإفادة من مجموعة الأشكال السيميائية إضافة إلى اللغة (Smagorinsky 1995).

ووجهة النظر الحوارية الأخيرة قد حظيت بأرضية في السنوات الأخيرة خاصةً في عمل أولئك المنشغلين في البحث مع المعلمين (وسوف أعود لاحقاً إلى مناقشة بعض القضايا التي تثيرها هذه الرؤية في الجزء الأخير من هذه الدراسة). وعلى أية حال أتمنى أن اكشف عن العلاقة بين اللغة والتعلُّم كما تمّ التطرق إليها في بعض الأعمال الحديثة من جانب اللغويين.

 

لغة التعلّم والتعلّم من خلال اللغة:

بين هؤلاء الذين يدرسون اللغة أيضاً، هناك انقسام. فمن جهة، يميّز بعض الباحثين بوضوح بين "اكتساب" اللغة واستخدامها للتعلّم والتصرّف، ومن جهة أخرى، يرى آخرون في جميع مظاهر استخدام اللغة فرصا من أجل تعلّم اللغة.

وتميل المجموعة الأولى للاهتمام كثيراً باللغة كموضوع للدراسة قائم بذاته، بشكله وقواعده من أجل بناء جُمَل حسنة التراكيب. ويميل ممثلو هذه المجموعة مع (Chomsky 1965) إلى النظر للكفاءة على أنها شيء متميز عن "الأداء" وسابق له من الناحية المنطقية. 

وتميل المجموعة الثانية إلى الاهتمام كثيراً بالتغيّر الذي يطرأ على اللغة مع التركيز على القواعد والمبادئ المشتركة. وفي وصف لغة أو لهجة معينة أو تسجيل ما، فإن ممثليها يبدأون من النصوص المكتوبة فعلاً ثم يُبدون الاهتمام بالخيارات الاستراتيجية المتكونة من مستويات مختلفة لبلوغ أهداف بلاغية في سياق وضع ما (Halliday 1984). وفي هذا العُرف، فإن اللغة تدُرس في إطار العلاقة مع الموارد الشاملة للثقافة بغرض صنع المعنى. وفي الوقت نفسه، يُنظر إليها كشيء متميز في المجال الذي تخدم فيه أيضاً كوسيلة لتحويل جميع الأنظمة الأخرى تقريباً (Halliady 1978). 

وثمة خلاف مماثل تمّ إيجاده فيما يختص بنظريات تعلمّ اللغة. فكما هو معروف جيداً، أشار تشومسكي إلى أن عقدة النظام القواعدي التي فهمها ضمناً ابن السنوات الثلاث يمكن تفسيرها عن طريق تثبيت معرفة مستلهمة بالفطرة للقواعد العامة الشاملة. وهذه المعرفة تُمكّن متعلِّم اللغة من بناء نظام قواعد اللغة لمجتمعه/ها بالرغم من عيّنة الجمل غير المكتملة والمنحازة التي يواجهها /تواجهها بالإضافة إلى انعدام التغذية الراجعة المصحّحة المنتظمة (Systematic corrective feedback) (Chomsky 1972). وبينما يقبل (Pinker 1994) بالحجج حول القواعد العامة فإنه يذهب خطوةً أبعد من ذلك عندما يضفي على هذه النزعة "الحس اللغوي" حيث يصف اللغة التي يملك الطفل معرفةً فطرية بها بأنها "صور ذهنية". وهو يرى أيضاً أن تعلُّم لغة طبيعية يعني تعلّم كيفية ترجمة الصور الذهنية إلى مجموعات من الكلمات والعكس صحيح (Pinker 1994:82).

ومع أن هذه الحجج ملفتة للنظر، إلا أن المشكلة إزاء هذا التفسير لتعلّم اللغة هو أنه يفشل تماماً في توضيح أصل هذه المعرفة الفطرية المفترضة للقواعد العامة. وحسب ما رأى (Deacon) عام 1997 و(Edelman) عام 1992 على أساس بحثهما في علم دراسة الأعصاب وعلم الإنسان، فإن ذلك غير عملي من وجهة النظر التطورية. وبدلاً من ذلك، وبالنظر إلى وجهات نظرهما المختلفة، فإنهما يفترضان أن الدماغ واللغة يتطوران معاً بحيث تتشكل اللغة بمظاهرها العديدة المحلية المختلفة وتشكّل معها أيضاً ميول الدماغ نحو التعلّم واستخدام الرموز المستنبطة قبل نشوء اللغة. ولعل النظرية المدهشة للمراحل المهمة في هذه العملية التطورية قد اقترحها دونالد عام 1991 في كتابه المثير "أصول العقل المعاصر" (Origins of the modern mind). 

ويُعتبر الموقف الذي يتبناه (Halliday) وزملاؤه اللغويون أكثر تناغماً مع الدليل التطوري. وفي تعليقه على مقترحات Edelman ، يقول أن توجُّه اللغويين بشكل منتظم اجتماعياً ووظيفياً إلى اللغة وتطورها، يبدو منسجماً إلى حدٍ كبير مع الرؤية الداروينية التطورية وخاصة فيما يتعلق بأطوار نمو نظامها حيث تظهر القواعد في النهاية، على صعيد التطور النوعي والجيني، كحدٍ مشترك بين "المعنى" و "التعبير" (Halliday 1994). وتنسجم نظرية (Halliday) إلى حدٍ كبير أيضاً مع نظرية التعلّم والنمو لدى فيجوتسكي وخاصة في الدور المركزي الذي ينسبه الاثنان إلى اللغة (وسيلة سيميائية ) في التنمية العقلية (Wells 1994). والحقيقة أن هاليدي (99 :1993) يذهب بعيداً إلى الحد الذي يقول فيه بأن "تشكُّل اللغة يجري في الوقت نفسه الذي تتم فيه عملية التعلّم"، طالما أنه في التعلم تكون اللغة من خلال الحديث مع الآخرين هي أول ما يضطلع به الطفل من وسائل للإعراب عن تجربته. 

وكما يقول، فإن "اللغة شرط أساسي للمعرفة، ومن خلالها تتحول التجربة إلى معرفة" (Original emphasis/1993:94) . وبهذا الزعم، فإن هاليدي لا يشير ببساطة إلى احتمال أن إمكانية التخاطب بلغة ما إنما يتيح للمتعلم فرصة تلقي المعلومات من الآخرين، وهذا بالطبع غاية في الأهمية. وعلاوة على ذلك، فإنه يقول بأن اللغة أداة العقل الرئيسية كونها المجسِّد الأساسي للوعي أولاً، وثانياً هي الوسيلة التي بها نفكرّ بمضمون الوعي والنظريات التي أطروحات اللغة ودورها في النمو الإنساني (Halliday 1994).

وفي المقال الملخّص المشار إليه أعلاه، يقترح هاليدي (1993) أنموذجاً للنمو السيميائي البشري من ثلاث خطوات بدءاً باللغة الأولى(اللغة في بدايتها) التي تتضمن  تحوّلات ناجحة لاحتمالات المعنى اللغوي: التعميم والتجريد والمجاز. وهذه التحوّلات تستجيب إلى مراحل بناء القواعد ونمو معرفة القراءة والكتابة واستخدام الاستعارة القواعدية. وهذا النموذج مقدَّم على أساس بحث حول أطفال ينمون في ظل ثقافات معاصرة، لكنه أيضاً يشكّلُ فرضية حول تطور اللغة في سياق التطور التاريخي النوعي (Halliday 1978). 

وفي عمله الأخير مع زميليْه مارتن وماتيسن، ركز هاليدي على الخطوات الثلاث الأخيرة، مشيراً إلى أن الاستعارة القواعدية (Grammatical metaphor) توفّر بديلاً "صيغة شاملة" للإعراب عن التجربة التي طوّرت نمو التفسير النظري في العلم وجميع أشكال الكتابة التقنية تقريباً. 

أما ماتيسن (Matthiessen)، على سبيل المثال، فإنه يطبّق هذا التّصور على اختبار تطور العلم المُدرك بدءاً بأصوله في علم نفس الشعوب. وما يُظهره هو أنه مثلما تصبح المفاهيم اليومية لعمليات الإدراك والتفكير والحاجة والشعور أموراً مجرّدة من خلال النزوع التجريدي القوي للاستعارة القواعدية، فإن هناك أيضاً خسائر ومكاسب. والمكسب هو أنه، بهذه الطريقة، يمكن أن تكون عمليات الفهم هدف الدراسة والنظريات يمكن أن تتطور علاقاتها. وعلى أية حال، ففي الصياغة بشكلها الشامل، تصبح هذه العمليات مادية الشكل كالأشياء المحسوسة. وما هو مفقود في هذا السياق هو الطبيعة القائمة للتجربة المحسوسة والمعنى الجوهري المتضّمن في تجربتنا. ويمكن وضع حجج مماثلة فيما يختص بالمجالات الأخرى للدراسة الأكاديمية. فهناك خسائر على الدوام. ومكاسب أيضاً في ترجمة الخبرة على نحوٍ شامل. ولهذا السبب، يرى هاليدي (1993) بأن الصيغة الشاملة يجب أن لا يُعتقد بأنها تشكّل بديلاً للصيغة "الديناميكية" اليومية للإعراب عن التجربة. ولعل كلا الصيغتين لاستخدام اللغة إنما توّفران طُرقاً مكملة لصياغة المعنى. وكلٌّ منهما أكثر ملاءمةً لبعض الأهداف وأقل ملاءمةً لأهدافٍ أخرى. 

وفي هذا الصدد، فإنه يتفق مع النظريين الاجتماعيين الثقافيين الذين يرون بأن اللغة توفر "مجموعة أدوات" لمصادر صياغة المعنى والتي تكتمل بمصادر الأنظمة السيميائية الأخرى (Wertsch 1991). وإذا كان ثمة اتفاق هنا فهو يكمن في الاعتراف بأن هذه الأدوات قد تطورت على مدى التاريخ الثقافي مشكلةً بذلك الأنشطة المتعددة –مادياً وذهنياً- ومتشكلةً بها خلالَ عملية استخدامها (Russel 1997).

وإذا قارنّا بين الموقفين الموصوفين في الفقرات الأولى من وجهة نظر تعليمية، سوف يتضح لنا أن الموقف الثاني يُعتبر الأكثر ملاءمة للنقاشات حول نهايات ووسائل التعليم . ولعل البحث الذي يقوم على أهمية اللغة كمجموعة قواعد قد لعب دوراً مهماً في مجال تعلم وتعليم لغة ثانية ، لكن ما كان يشكل له تحديا جدياً هوعدد من وجهات النظر البديلة(Cumming and Burnaby1992) بما في ذلك العمل في مجال العُرف الاجتماعي الثقافي (Lantolf & Appel 1994  فما هو معطى (Krashen1985) لا يمكنه بمفرده تفسير تطور اللغة، كما أن إضافة الناتج ليس علاجاً كافياً. وكلا المُعطى والناتج يجب أن يُدركا في سياق التفاعل في الأوضاع الهادفة (Swain & Lapkin 1988). وبكلمات أخرى، فإن تعلّّم اللغة لا يمكن فصله عن استخدام اللغة. وعليه، ففي تعلّم لغة ثانية، كما هو الأمر في مجالات أخرى، حيث يكون الاحتكام إلى البحث اللغوي، يُرجّح أن يكون التوجّه إلى نموذج اللغة الأكثر تكيّفاً من الناحية الاجتماعية والوظيفية بدءا باللغويات التطبيقية وحتى الأشكال المتنوعة للتحليل الكتابي بما في ذلك تحليل المحادثة (Edwards 1997, Goodwin & Heritage 1990, Have and Psathas 1995)، وحديثاً التحليل النقدي (Fairclough 1995,Kress 1991). 

وعلاوة على ذلك، فإن أغلب المعلمين يدركون على الأقل بوضوح أن اللغة –كما قال بارنز قبل ربع قرن من الزمن تقريباً –"توفر الوسائل الرئيسية التي بها يصوغ الأطفال المعرفة في مدارسنا ويربطونها بأهدافهم الخاصة ورؤيتهم للعالم".

 

قضايا في التعلّم والتعليم:

في مقدمة هذا العرض، أوضحت التزامي الخاص بالطريقة الحوارية إزاء التعلم والتعليم، وتساءلت كيف يمكن أن يصبح هذا النوع من الحوار نموذجاً للممارسة الصفية. وهذا سؤال طالما طرحه العديد من الباحثين التربويين في العقد الأخير ليس في حصة اللغة الإنجليزية فحسب (Harste 1994, McMahon,etal.1997, Nystrand 1997)، بل أيضاً في حصة الرياضيات (Cobb 1995, Lampert, Rittenhaus and Grumbaugh 1996) والعلوم (Gallas 1995, palincsar, et al.in press, Roseberry, Warren and conant 1992) والتاريخ (Hume and Wells in press, Pontecorvo and Girardet 1993) وكذلك في  مجال استخدام الكمبيوتر في الصف (Wegerif and Mercer 1997) كما أنه موضوع محوري في مجلّد حديث حول المحادثة الشفهية والتعليم (Dawies and Corson 1997). وبينما يعتمد العديد من هؤلاء الكُتّاب على النظرية الفيجوتسكية تدعيماً لاقتراحاتهم، فإن عمل باختين (1986) حول المذهبية الحوارية يتجه نحو توفير الأساس النظري الأكثر أهمية لهم. وعلى النقيض من معظم اللغويين، أصرّ باختين على أهمية "النطق" الكائن لفهم اللغة ولفَتَ النظر إلى ثلاث سمات للنطق تجعله مختلفاً عن الجُمل . أولا:ً دائماً ما يتضمن نطق المتحدث عدة أصوات طالما أن جميع كلماتنا وعباراتنا مأخوذة عن نطق الآخرين. ثانياً: "النطق دائماً ما يتشكل ويتطور في إطار شكل شامل" (Bakhtin 1986:78).

ثالثا: لا يكون النطق وحيداً، وإنما هو "حلقة في سلسلة معقدة تشتمل على نطوق الآخرين "( 69 :1986 ). وهذه السمة الثالثة للإستجابة هي الأكثر أهمية في سياق الكلام الراهن لأنها –كما يركز باختين- تنطبق على الكلام والكتابة أيضاً. وكمستمع (أو قارئ) يستوعب ويفهم نطق الآخر إنما يعني "اتخاذ موقف فعّال وسريع الاستجابة تجاهه. وآجلاً أم عاجلاً، فإن ما يُسمع ويُفهم بفعالية سوف يجد استجابة له في حديث أو سلوك المستمع لاحقاً"( 69-68: 1986). وبالنسبة إلى المتكلم/الكاتب، تعمل الاستجابة في كلا الاتجاهين. فليس نطق المتكلم فقط يستجيب إلى النطوق السابقة ويعبر عن موقف المتكلم تجاهها وتجاه الموضوع المطروح، فهو أيضاً يتشكّل لدى توقّع استجابة من نوعٍ ما من المستمع المقصود. وكما أشار عدة كتّاب إلى المحادثة الصفية، فإن تركيز باختين على المذهب الحواري يوفر تتمةً مهمة لنقاش فيجوتسكي حول فكرة العمل في "منطقة النمو الأكثر قرباً" ZPD، كما أنه يوفر دعماً أكثر فاعلية على عكس الوصف الجامد للتعليمات. (Hicks 1995, Nystrand 1997, Wells in press  ). ومن هذا المنظور سوف أفكر ببعض القضايا الراهنة المتعلقة باللغة في غرفة الصف.

 

بدء الحوار:

ومن العوائق الرئيسية للتبادل الحواري بشكل صحيح في غرفة الصف هو وجود ما يطلق عليه Lemke  (1990) ب "الحوار الثلاثي" ويشمل (المدخل الاستهلالي للمعلم واستجابة الطالب ومتابعة المعلم). وهذا الحوار غالباً ما يأخذ شكل نص للتسميع بحيث يضمن المعلم أن الطلاب يمكنهم أن يأتوا بالإجابات "الصحيحة" ( Newman,Griffin and Cole 1989, Tharp and Gallimore 1988) ومع ذلك، فإن تفاعل المعلم والطالب لا يجب أن يتخذ بالضرورة شكل هذا الحوار الزائف حتى في أوضاع الصف الكاملة (Mercer 1995, Wood 1992). ولعل الكثير هنا يعتمد على طبيعة مبادرة المعلم (استحضار اقتراحات وآراء، على سبيل المثال، أكثر من توجيه أسئلة "مغلقة") وكذلك على خيار المتابعة أيضاً. وإذا طلب المعلمون من الطلاب، بدلاً من تقييم مساهماتهم، توفير توضيحات وتبريرات وإسهاب في الكلام أو حتى عرض وجهات نظرهم، فإن ما يبدأ على أساس الحوار الثلاثي يمكن أن يتطور إلى مشاركة حوارية خلاّقة لبناء المعنى (Wells 1996/1999).

وما يمكن أن نستنتجه من هذه الأطروحات هو أن لا ضرورة لكي يشعر المعلمون بالحاجة إلى المبادرة بأحاديث أو الرد على مساهمات الطلاب التي قد تعيق الحوار الحقيقي، والأهم من ذلك هو ذلك الافتراض القائم الذي يقول بأن الطلاب لن يكون بوسعهم بناء معرفة مفيدة وذات صلاحية إذا كانت هذه المعرفة غير صادرة عن معلم أو كتاب نصوص ولا تحمل على الأقل موافقتهما الرسمية. وقد جرت عدة محاولات في السنوات القليلة الماضية لتغيير هذه الفرضية المتأصلّة، بالتأكيد على طبيعة بناء المعرفة "المتقدمة" والتعاونية (Bereiter 1994) من خلال مشروعات مثل "مجموعات المتعلمين" (Brown and campione 1994) و"مجموعات بناء المعرفة" (Scardamalia, Bereiter amd Lamon 1994) و"مجموعات الاستعلام" التي حاولتُ وزملائي المعلمين أن نؤسسها (Well in Press). وهذه النتائج المشار إليها بوضوح في الفقرة سالفة الذكر ناشئة عن تبني موقف استعلامي من المنهاج وليس من المعلمين الذين يغيرون أسلوبهم بتأنٍ أثناء المناقشة. 

 

الاختلاف في غرفة الصف: 

كما هو معروف، فإن القضية التي شغلت العديد من المدرسين هي الاختلاف المتزايد بين الطلاب الذين يشكلون مجموعة صفية خاصةً في مراكز المدن الكبيرة. وهذه القضية جزئياً هي نتاج تدفق المهاجرين بمن فيهم العمال إلى الدول المتقدمة في أوروبا وشمال أميركا وكذلك نتاج سياسات لاستيعاب مزيد من الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة في صفوف منتظمة. وكلا الوضعين يؤديان إلى تفاوت كبير في القدرات بين الطلاب وبالتالي يصبح ثمة حاجة لتقديم مساعدة مناسبة لبعض الأفراد. وبالنسبة إلى أولئك المعلمين المعتادين على التخطيط لأنشطة صفية نتائجها مقررة مسبقا، فإن هذا الاختلاف يشكل تحدياً ويثير الإحباط أيضاً. ومن المهم على أي حال في مثل هذه الصفوف التحوّل نحو منهاج أكثر انفتاحاً ومتفق عليه والإفادة من العمل الجماعي التعاوني وتقييم وجهات نظر متعددة على افتراض أن المعلمين هنا يمكن إقناعهم بالمغامرة في تجربة طرق جديدة للعمل (Englert 1992, Green and Dixon 1993, Roseberry, et al.1992).

وما يكتسب أهميةً على نحوٍ خاص هو حاجات الطلاب القادمين إلى بلد جديد في سنوات مراهقتهم. فهم لا تعوزهم اللغة في غرفة الصف فحسب، بل أن مهاراتهم المعرفية التي اكتسبوها خلال تعليمهم بلغتهم الأولى ربما لا تكون واضحة أيضاً. وكنتيجة لذلك يمكن الحكم عليهم بأنهم من ذوي القدرات البسيطة، وأن المهام التي يقومون بها غير منسجمة مع مستواهم الأكاديمي الحقيقي (Cummins 1996) . وبنفس القدر من الخطورة يكون الوضع عندما لا يوجد استعداد مسبق للاستماع إلى أصواتهم، عندئذ يفشل الصف برمته في الإفادة من الرؤى المختلفة التي يمكن أن يضيفوها على الموضوعات المطروحة. 

وهذا لا يعني إطلاقاً أن مشكلة مثل هؤلاء الطلاب غير المتحدثين باللغة الأم لم تحظ بالاهتمام عموماًً. فهي فعلاً ميدان فعّال جداً للبحث والتجديد بدءاً بمبادرات لوضع برامج تهتم بكلا اللغتين (وهذا ممكن) وليست في متناول المجتمع المحلي (Moll and Greenberg 1990) وحتى الأشكال المتعددة للدعم داخل الصف بما في ذلك طرق تمكين الطلاب من المشاركة في أنشطة بلغتهم الأولى مع توفير ترجمة يقوم بها نظراؤهم أو معلموهم وبتركيز كبير على طرق غير لغوية للتقديم (Allen 1993). وفي نفس الوقت يجب الاعتراف أن العديد من هذه المبادرات معوّقة بفعل الضغوطات السياسية للمجتمع الأصلي وعدم رغبة المعلمين و/أو عدم استعدادهم لتحويل بعض مسؤولياتهم تجاه الطلاب. 

إلى هذا الحد ركّّزتُ بشكل رئيسي على اللغة المحكية كونها الوسيلة الأساسية للتعلم والتعليم فدورها غالباً ما يمر دون فحص، والتأثيرات المتباينة المهمة لأساليب تفاعل المعلم والطالب لا تفُهم إلا بشكل شحيح. وعلى أية حال، ففي مجال تطور اللغة يبقى الإمساك بزمام النقاش الثقافي والسيطرة على "أساليب القوة" (Kress 1991) هما المهمة الوحيدة الأكثر أهمية التي يتولاها الطلاب في المدرسة. 

لقد أهرِقَ حبرٌ كثير في السنوات الأخيرة حول كيفية تعليم المعرفة الأولية باللغة وتحديداً القراءة، ومع ذلك فليس هناك قضية يمكن أن تكون عادلة تماماً إزاء وجهات النظر المتضاربة التي تحتاج إلى تفكير.  وبدلاً من ذلك، فسوف أركز على الكتابة مشيراً إلى أنه في محاولة كتابة النصوص المؤثرة بلاغياً والمقبولة من الناحية التقليدية، فإن الطلاب عادةً ما يدركون أشكال ووظائف الكتابة والقراءة التي تُعتبر مهمة. ولهذا السبب، فإنه من المهم أيضاً أن نضع نصب أعيننا وصية فيجوتسكي التي تقول: “إن الكتابة يجب أن تكون ذات مغزى للأطفال، ويجب أن تكون مندمجة في سياق المهمّة الضرورية والأساسية للحياة" (118: 1978). ولعل المشكلة التي تواجه المعلم هي موازنة هذه الوصية مع متطلبات برنامج الكتابة الذي يضفي مزيداً من الاهتمام على البناء واللفظ وعلامات الترقيم أكثر مما يضفيه على الكتابة لجمهور مهتم بشكل فعلي. وكنتيجة لذلك لسوء الحظ، فإن ما يراه الطلاب مفيداً ومناسباً نادراً ما يحظى بالاعتبار. وهنا ثمة مجال لذكر محاولتين فقط لمعالجة هذه المشكلة: الأولى وتستغل مساعدة الكمبيوتر بعدة طرق بدءاً بالدعم بسيط المستوى (اللفظ والتحرير) ومروراً بما له علاقة بالتلقين (مثال ذلك"ما هو المثال على معارضة كذا ...؟") وحتى نشر ديسكات وإقامة اتصالات عبر البريد الإلكتروني أو الإنترنت مع طلاب آخرين بحيث يكون للكُتاب والمرسلين جمهور يردّ عليهم أكثر من مجرد تقييم نصوصهم المكتوبة. والحقيقة أن شبكة المجتمع المعلوماتية (Knowledge Society Network) التي كان من روّادها سكارد ماليا وبرايتر عام 1996 هي مثال جيد على ما يمكن تحقيقه في مجال الاتصال الفعّال. ومع أنها ما تزال صغيرة في حجمها، إلا أنها تضم علماء مهنيين وأمناء متاحف و"خبراء" آخرين كطلاب مدرسة ومعلميهم. 

أما المحاولة الثانية المتأثرة بأفكار هاليدي التطورية المقترحة عام 1993، فإنها تأخذ على محمل الجد حاجة الطلاب ليبرعوا في أساليب الكتابة المختلفة، وتوفر تعليمات مصنفة تعتمد على تحليلات تنظيمهم"الممرحل" والخيارات المرتبطة بهم (Christie and Martin 1997). وفي سنوات المرحلة الإعدادية، فإن أساليب الكتابة وأنواعها في المدرسة هي التي يجب التركيز عليها (Derewianka 1990)، وفي بعض الحالات بالتزامن مع استقصاء أشكال اللغة وصيغها التي تميزها (Rothery 1989, Williams in press). والأكثر صعوبة هي تلك الأساليب التقنية المستخدمة من جانب المجموعات العلمية والمهنية (Halliday and  Martin 1993)، وهي نسخة معدلة لما وُجد في كتب نصوص المدرسة الثانوية ( Martin 1989). وباستخدامها المتكرر للاستعارة القواعدية، لم تعد هذه النصوص تتطلب من الطلاب إتقان القواعد غير المألوفة فحسب، بل أيضاً تبنّي صياغة تجربتهم غير العادية الشاملة. وعلى أية حال، يرى المدافعون عن هذه الرؤية أن تعلّم استخدام هذه الأساليب أو الضروب يكتسب أهمية حقيقية في المجتمع لأنه من خلالها تُمارس السلطة المؤسساتية (Cope and Kalantzis 1993) وبالرغم من الحماس الذي قوبل به هذا الموقف من الكتابة في استراليا، إلا أنه قوبل بانتقاديْن في مكان آخر. 

وطبقاً للعرف الأميركي الشمالي الذي يرى في الأسلوب شكلاً للعمل الاجتماعي (Miller 1984)، يركز فريدمان (1994) على الطبيعة القائمة لاستخدام الأسلوب مشيراً إلى أن الأساليب تُستخدم وتطوّر في سياق مجموعة معينة، ويمكن أن تتلاءم فقط من خلال مشاركة حقيقية في تطبيقات تلك المجموعة. وأما الانتقاد الثاني فيتطرق إلى ما يُعتبر طبيعة تحوّلية بشكل مفرط لهذا الموقف من تعليم الأسلوب بالإشارة إلى أن الأساليب يتم اختيارها كوسائل في إطار نشاط معين ثم تعدّل وتُدْمَج لتحقيق هدف الكاتب (Dixon 1994). 

وعلى أية حال، يبدو ممكناً إلى حدٍ ما أن كلا الانتقادين يمكن التكيف معهما، إذا اعتُبرت ملاءمة الأساليب المستخدمة جزءاً رئيسياً لنشاط المعرفة المتقدمة في إطار مجموعة استقصاء صفية.  

ترجمة: عيسى بشارة

عنوان المقالة الأصلي:
Language and Education: Reconceptualizing Education as Dialogue

 Wells, G.  (1999) Reconceptualizing education as dialogue. Annual Review of Applied Linguistics, 19: 135-55.