تدوين- سوار عبد ربه
في إطار السعي المتواصل لفهم أعماق التعبير البشري وأثره على الحياة الثقافية والتربوية، تجسد مبادرة الكاتب والشاعر وسيم الكردي فرصة غنية لاستكشاف أبعاد جديدة حول مفهوم التعبير وكيفية استعادة قيمته الحقيقية التي قد تكون انصهرت في ظل تطورات تاريخية وتحولات تربوية. تأتي مبادرة الكردي عبر منصة جديدة أطلقها بعنوان "تعبير"، والتي لم تكن مجرد استجابة لواقع ثقافي وتربوي بحاجة إلى إعادة نظر وتقييم فحسب، بل أيضا لتثير تساؤلات حول مدى استجابة هذين الحقلين على وضعهما الراهن، لسياقنا الفلسطيني السياسي والاجتماعي، الذي يفترض أن يكون سياقا تحرريا. علاوة على ذلك، تسعى المنصة إلى تجاوز التصور التقليدي للتعبير كمجرد ممارسة لغوية، مقدمةً إياه كجسر يربط بين الأفكار والمشاعر من خلال وسائط تعبير متعددة.
تدوين: لماذا "تعبير" (عنوان للمنصة)، ولماذا نعبر أو علينا أن نعبر؟
"تعبير" لإعادة الاعتبار لحصة "التعبير" التي تحولت تاريخيا إلى حصة "إنشاء" افتقرت في معظم الأحيان إلى التعبير وتولت إلى حصة نسخ واستنساخ، نستعير ما هو جاهز ومألوف من تعبيرات وصيغ حيث غيبت المخيلة وغيب الشخصي والخاص وحلَّ محله المألوف والمستهلك.
أما بخصوص لماذا علينا أن نعبر فإنني أعتقد بإن العلاقات الإنسانية هي علاقات حوارية سواء اكانت بين الإنسان ونفسه (فكل أنا هي مزيج من أنا وآخر) أم بين الإنسان والآخرين، نحن نستعمل وسائط التعبير الثلاثة في الحياة (الفعلي والبصري واللغوي) من أجل إنتاج المعاني، فجوهر التعبير هو إنتاج المعاني، وهذا يحتاج إلى عقل متفتح ومخيلة متقدة وتفكير متعدد الطبقات ومتعدد المنظورات. لذلك، ومن تجربتي كمعلم مدرسة وكمدرب للمعلمين وككاتب أيضًا أرى أن جوهر التعلم والتعليم يقوم على "التعبير" وهذا ليس شأنا لغويا وأدبيا وحسب بل هو عابر للمجالات وعابر للموضوعات.
تدوين: هل يرتبط اختيارك للعنوان بتجربة شخصية معينة، مثل تأثير النشأة أو الخبرات الشعرية أو التربوية أو المسرحية؟ وكيف أثرت هذه الخبرات على تطوير ملامح شخصيتك وتعزيز قدرتك على التعبير؟
هذا العنوان أصلا كما أشرت في البداية مرتبط ب "حصة التعبير" لكنني حينما خضت في الفعل عَبَرَ وعبَّر رأيت كما يحمل هذا الفعل من دلالات وبخاصة أن العبور هو الانتقال والانتقال يحتاج إلى وسائط والانتقال هو ذلك التواصل بين نقطة وأخرى ومكان وآخر ولحظة وأخرى، فإننا في الحياة نعبر من إلى، وهذا جوهر التعبير، إننا نعبّرُ كي نعبُرَ إلى الآخرين، إلى أفكارهم، مخيلتهم، مشاعرهم، أفعالهم، وهذا هو الحوار. وعلينا أن نلاحظ أيضا، أن العبَرة تحيل إلى انفعال شعوري كما تحيل العِبرة إلى الخلاصة، وهذا التوليد الذي لا تنتهي للمعاني تكون لدي من تجربتي في القراءة والكتابة؛ سواء في تأليف القصيدة والأغنية أو كتابة المقالة والبحث، وفي الوقت نفسه، فإن حاجتي للتعبير عن الأفكار والمواقف للطلاب أو الجمهور وكذلك في تجربتي في توظيف الدراما في التعليم أتاح لي تكوين خبرة ما أو لنقل تحد ما من أجل إنتاج حوار حقيقي مشتبك متعدد مع من أتوجه إليهم أو أعمل معهم. وهذا ربما أتاح لي أن أرى القصيدة وجمهورها والأغنية وجمهورها والفكرة التربوية وجمهورها. ولكنني أعتقد أن أثر الدراما كان كبيرا في كل ذلك لأننا نجد الدراما هي الفضاء التي يمكن لكل أشكال التعبير وأنماطه أن تتضافر فيه؛ تلتحم وتشتبك.
تدوين: يبدو أن المنصة نشأت استجابة لواقع ثقافي وتربوي بحاجة إلى إعادة تقييم. كيف تقيّم الوضع الثقافي والتربوي في فلسطين حاليًا؟
صحيح، وهذا زعم آمل أن يكون صحيحا، إنني نعلم قواعد اللغة كما نعلم التعبير اللغوي المألوف والمستهلك وفي الغالب نعتمد طرائق وأساليب لا تسمح كثيرا للأطفال/ التلاميذ من تطوير قدراتهم على التعبير، لأن ما يحدث في السياق التربوي محدود ومغلق وليس منفتحًا على تجارب التعبير المعاصر بأشكالها المختلفة وبخاصة أن هناك تداخلا لا زال يتسع فيي تجاور أشكال التعبير وأنماطه وتداخلها واشتباكها؛ الكلمة، الصور، الحركة، جميعها اليوم تتفاعل مع بعضها البعض، وبات البصري واللغوي والحركي متضافرة في إنتاج التعبير، وبخاصة في هذا العصر الذي بات فيه "الرقمي" صاهرًا لأشكال التعبير هذه معا، وبات بإمكان أي إنسان، وبخاصة الطفل، أن يمتلك القدرة المبدئية على التفكير والتخيل والتجريب والتعبير والتصوير والتصويت والأداء الجسدي وصهرها معا في وسائط تعبير تكنولوجية متاحة للجميع. وقد بات ذلك تحديًا، وبخاصة للتعليم، يقوم على تلك العلاقة غير المتوازنة بين سطوة التكنولوجيا وسيطرتها وقدرتها على التحول كل دقيقة وبين تقهقر التفكير والمخيلة والابتكار. إذن نحن بحاجة إلى تفكير أكثر حرية واتساعا ومخيلة أكثر تدفقا على المستويين الشكل والمعنوي. ولذلك فإن هذه المبادرة هي محاولة ضمن محاولات متعددة من أجل إنتاج معرفي ثقافي وتربوي يرى السياق السياسي الاجتماعي الراهن بأبعاده المختلفة ويرى ضرورة أن تكون أولوية الثقافي والتربوي قائمة على التوجه نحو تحررين؛ سياسي واجتماعي. وهذا لا يقتضي حرية التعبير فقط على أهمية ذلك، بل وتحريره أيضا.
تدوين: كيف تؤثر المدارس والمساحات الثقافية في فلسطين على قدرة الأفراد على التعبير، وما الإضافة التي يمكن أن تقدمها المنصة في هذا المجال؟ / كيف يمكن أن تسهم المنصة في تحسين الفجوات الموجودة في المدارس والمساحات الثقافية؟
هذه المبادرة تمثل محاولة لإثارة حوار اجتماعي مجتمعي حول التعليم عموما وحول التعبير خصوصا وأشكال التدريس، وأساليبه ومصادره وأنماطه. إثارة حوار ليس فقط عبر "تنظيرات معرفية" بل عبر اقتراحات ونماذج وأمثلة تقدم سياقات من أجل تجريب تعبير مختلف غير معتادين عليه.
تدوين: كيف فقدنا قدرتنا على التعبير؟
إن رسوخ الصوت الأحادي والمسار الأحادي والرؤية الأحادية جعلتنا أحادي التعبير أيضأ، لذلك فإن أكثر ما نفتقده هو التعبير المتعدد المنظورات والمتعدد وجهات النظر، إن حضور هذا التعدد هو الذي يمكن له أن يخرجنا من حالة الاستكانة لما هو خطي أحادي وبالتالي يمنحنا فرصا وتحديات من أجل إنتاج معان متقدمة وناقدة، وفي سياق من هذا النوع نكون وكأننا في "بوتقة" تصهر طوال الوقت مواد مختلفة وتنتج أشكالا لا تنتهي وألوانا لا تنتهي أيضا. ما نفتقده هو الأصوات المتعددة، وهذا هو أساس أي تعبير متعدد.
تدوين: كيف تمكّنت من توظيف الوسائط التعبيرية التقنية الحديثة عبر المنصة لتحقيق أشكال جديدة من التعبير؟
لعل تجربتي في تداخل خبرات مختلفة أسهم في ذلك، من الدبكة والرقص، إلى العمل الطوعي، إلى الشعر إلى الأغنية، إلى الصناعة ودراستي لخراطة الحديد، والدراما، والصحافة،.... أتاح لي فرصة في أن أرى العلائقية في المعرفة، فكل شيء مترابط ومتصل، بما في ذلك وسائط التعبير التقنية المعاصرة، وهنا لم تعد هذه الوسائط مجرد حوامل للمعرفة بل أن الشكل هو معنى أيضا، وبالتالي فإن الوسائط التقنية تغدو جوهرية في إنتاج الفكر، وليست فقط مجرد أدوات بل باتت تؤثر وتسهم وتلعب جوهريا في طبيعة التعبير، وكما أشرت قبل قليل، أتاحت التقنية لنا بأن نكون مؤلفين ومصورين ومؤدين ومنتجين وناشرين ومحاورين. باتت هذا العمليات التي كادت تكون تاريخيا منفصلة عن بعضها كثيرا أصبحت متداخلة ومترابطة أكثر من أي وقت مضى. يكفي أن يكون بين يدي طفل هاتف حديث، أن يكتب، يتحدث، يرسم، يصور، يضيف صور، أصواتا، موسيقى، ... ويفعل ذلك معا وينتج تعبيرا جديدا.
تدوين: برأيك، هل يمكن للطلاب الذين ينشؤون بمصدر وحيد للمعرفة، وهو المنهاج الدراسي، أن يتصوروا وجود أفكار خارج هذا الإطار ويتفاعلوا معها؟
المشكلة في ظني ليست في المناهج على كل ما فيه من مشكلات أو الكتاب المدرسي كأحد تجليات المنهاج، دائما كنت أقول أعطني كتابا جيدا وأستاذا أحادي التفكير فلن ينتج شيئا ذا مغزى، وأعطني كتابا رديئا ومعلما متعدد المنظورات ومتفتح الذهن فسينتج بالشراكة مع طلابه ما هو ذو مغزى، يكفي أن يقارب الكتاب مع طلابه برؤية نقدية وحوارية. إن المسألة في جوهرها نوع المقاربة التربوية وبطبيعة الحال المصادر ونوعيتها أيضا، فهو مهم أيضا لأن تنوع المصادر المعرفية يسهم في تكوين المنظورات المتعددة ويتيح الإمكانية لمقاربة أشكل تعبير مختلفة.
تدوين: ما الذي يتوقعه زائر المنصة، وما الذي تراهن عليه أنت؟
أتوقع، فقط، ممن يرغبون في تفكير مختلف أو من لديهم الرغبة في توظيف مصادر وأدوات وسياقات متجددة أن يجدوا شيئا ما في المنصة، ليس في احتذائها، بل في استلهامها لتطوير وسائلهم وأساليبهم ومصادرهم. فالأساس بالنسبة لي أن تقدم المنصة مناخًا للحوار في الأشكل والأدوات والمواد والمصادر وأن يكون بإمكانهم أن يبتركوا عبر التجربة تجربتهم.
تدوين: معلمونا مؤهلون للتعامل مع الحاجة إلى التوازن بين التقاليد التعبيرية الراسخة والوسائط المتجددة؟
هذا هو التحدي الكبير، وبالنسبة لي ليس مرهونا ذلك لا بالتفاؤل ولا بالتشاؤم بل في المحاولة والتجريب. وكما كان المنتج الموروث معاصرا في حينه وغدا متوارثا بصيغ مختلفة فيمكن لما هو عصري اليوم أن يغدو موروثا أيضا. علينا أن نجرب عبر ما هو عربق وراسخ وما هو حديث ومتجدد، ينبغي علينا أن نتخيل الماضي ونتذكر المستقبل. ينبغي أن نتجاوز أن تكون التقاليد هي محض تقليد كما يحدث كثيرا بل مخزنا معرفيا نحاوره ونجاوره ونجتازه ونتجاوزه أيضا.
تدوين: إذا اعتبرنا أن هذه المنصة تهدف إلى كسر جمود المناهج الدراسية، هل فكرت في التواصل مع الجهات التربوية الرسمية لمناقشة ضرورة ابتكار مساحات تغذي التفكير الإبداعي؟ وهل تعتقد أن الجهود الجماعية في مثل هذه المبادرات قد تكون أكثر فعالية؟
صحيح، فإنا على تواصل مستمر مع جهات رسمية وأهلية بما فيها وزارة التربية والتعليم، وسأفعل كل ما يمكن في تعاون مثمر وفعال، ولكن مع احتراس وحيد، فأنا لا أريد للمنصة ووحداتها التعبيرية مواد ملزمة لجميع المعلمين، أريدها فقط لم يرغبون في المحاولة ولمن لديهم شغف التجريب والاستعداد للمغامرة.
تدوين: هل المنصة تراكم على ما هو موجود وتعيد إنتاجه بما يتماشى مع أهدافها، أم أنها تركز على إنتاج محتوى جديد بالكامل؟
المنصة متعدد ة الأبواب، فيها ما جديد شكلا ومحتوى كوحدات التعبير أو التطبيقات المتعلقة بتوظيف الدراما في التعليم أو باب الأرشيفات العائلية والتعامل معها كمصادر غنية للتعلم والتعليم، وفيها ما راسخ ومتجدد أيضا كباب الثقافة التربوية الذي يقدم نصوصا قديمة ومعاصرة في مجالات الثقافة والتربية كنصوص لخليل السكاكيني وأحمد سامح الخالدي وإدوارد سعيد وفيجوتسكي أو ادوارد بوند، وإدجار موران، ودوروثي هيثكوت،... غيرهم من أجل تضافر المعرفي النظري مع الممارسة التطبيقية على أرض نزرع عليها "التعليم" ونقلِّب ترابها.