"ماذا نقصد عندما نقول "هذا مدرس ممتاز"؟ بالنسبة لي المدرس الممتاز هو ذلك الشخص الذي يعرف الفرق بين العلاقة بالأشياء والعلاقة بالناس. وكلاهما يتطلب مهارة عظيمة، لكن المهارة الأعظم تتمثل في كيفية الاتصال بالناس. كذلك إذا كنت أتطلّع إلى التفوق كمعلم لا بد وأن أكون قادراً على رؤية طلابي كما هم بالفعل، ويجب أن لا أحبطهم، بل أن أقبلهم. وهذا يعني التكيّف مع طلابي ورؤية الأشياء من منظور آخر. وللمحافظة على الاهتمام لدى طلابي، عليّ أن أفهم شيئاً ما عن إمكانياتهم وما يمكن أن يحققوه. فمثلاً عندما يأتي الأطفال إلينا وهم يحملون قصاصات من الورق كُتِبَ عليها أشياء مثل "هذا بطيء، وهذا لا يقرأ" نميل إلى إغلاق عقولنا إزاء التغيّر، غير أن المحافظة على تحفيز الاهتمام لدى الأطفال يمنع المعلمين من قولبتهم (إضفاء طابع عليهم تعوزه الأصالة).
وكمدرسة ممتازة، يجب أن لا أخشى الابتعاد عن موقعي والالتقاء بالأطفال حيثما وُجدوا، لأن القدرة على التقدم والاجتماع بالناس تمنحني الفرصة لتنويع توجّهاتي واستجاباتي. وإذا ما فعلتُ ذلك، فلا خوف من تجربة الأشياء الغريبة ولا خوف من المعارضة أيضاً، وإذا ما حصل وكان ثمة معارضة ما لتكن للفكرة وليس للشخص بذاته. فنحن – معلمين وطلاباً - غالباً ما نشعر بأننا مُعارَضون في المدرسة عندما تكون أفكارنا هي التي تُعارض بالفعل.
من جهة أخرى ينبغي أن تكون لدي القدرة على رؤية العالم من خلال طلابي وليس العكس. فهذه القدرة يمكن أن تمنح المعلم مفهوماً جديداً وأسلوباً للتعليم وتجدّداً للطاقة. وثمة نوعٌ من الانبعاث عندما يستظهر صف ما على نحو مفاجئ طريقة جديدة وشاملة للنظر إلى الأشياء. وكمثال على ذلك يمكن أن أصف ما جرى مؤخراً عندما كنت أعمل مع بعض الصبيان في معهد بروستال، حيث كنتُ في وضع حَرِج يتطلب مني جعلهم يأخذون على عاتقهم دور ضباط شرطة في أحد السجون، بينما شرع ضباط الشرطة الحقيقيون يراقبون المشهد عن كثب. وكنت أتوقع أن يعامل الأولاد سجيني تماماً كما عاملهم ضباط السجن، لذلك وجدتُ نفسي مسؤولاً عن مكتب شؤون الهنود الأميركيين. وبناء على ذلك طلبتُ من الأولاد أن يكونوا مسؤولين عن (ايشي)، وهو آخر عضو من أفراد قبيلته. وكان (ايشي) قد وُجد في وقت مبكر من هذا القرن في محطةٍ للقطارات، فأصدر المكتب المذكور آنفاً قراراً يقضي بأن هذا الرجل – كونه مريضاً وبائساً ويتلفظ بكلمات لم يسمع بها أحد من قبل – يجب أن يوضع في سجن محلي إلى أن يصبح مواطناً متحضراً.
وهنا تحدّى الأولاد كلّ أفكاري المتعلقة بوضع إيشي في السجن وقالوا: "لن نسمح لك بوضعه في السجن، وسوف نبني له بيتاً". وفعلاً ابتنوا له بيتاً، ولكن دون نوافذ، فأبديت احتجاجي على ذلك، لكنهم أصروا على موقفهم، عندئذٍ أيقنتُ أننا كنا ننظر إلى البيت من منظورين مختلفين. فبالنسبة لهم اعتبروا أن البيت يوفر لـ (ايشي) الخصوصية التي يحتاجها، أما أنا فقد وجدتُ في البيت سجناً. وإلى الآن ما زلتُ أفكر بالدافع لما فعلوه. وأحياناً أعتقد أن ذلك قد يمثّل شيئاً ما له علاقة بالحقيقة التي لم أتوصّل إليها بعد، ولعل عدم قدرة (ايشي) على رؤية أي شيء في الخارج لم تغيّر في الأمر شيئاً. وما كان يمكنُ أن أقوم به هو ما يهم الأولاد. ومن هنا كان عليّ أن أنظر إلى بيتهم من خلال أعينهم وليس من خلال عينيّ. ومع ذلك، فإنني كمعلم يسعى للرفعة والسمو، يجب ألا أرخي الحبلَ على غاربه حتى لا يقللّ الطلاب من شأني، بل عليّ أن أقاوم هذا التوجّه بحيث استخدم عينيّ أحياناً لأكونَ نفسي."
ت: عيسى بشارة